المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
من أراد أن يدخل جنة الآخرة فليدخل أولاً جنة الدنيا، ففي الدنيا جنَّةٌ من لم يدخلْها لم يدخلْ جنة الآخرةِ، وهي ذكرُه -سبحانه- وطاعتُه وحبُّه والأنسُ به والشوقُ إليه. إن في الدنيا جنة معجلة، وهي معرفة الله ومحبته والأنس به والشوق إليه وخشيته وطاعته ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً، وأفاض عليهم فيها من النعم، وكساهم من الحلل فلا يبغون عنها حولاً، ويسر المكلفين للأعمال، وهداهم النجدين؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجة على خلقه؛ فهو لم يخلقهم عبثاً ولا سُدىً ولم يتركهم هملاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله دعا إلى الحق، وأوضح المحجة؛ فلا نبغي عن محجته بدلاً. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وذريته وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرة ربكم ومرضاته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته؛ فالعمر سريع الذهاب بساعاته وأوقاته.
أيها المسلمون: الحديث عن النعيم المقيم، والإيمان الراسخ بالنُّزُل الكريم؛ من الغفور الرحيم، هو سلوة الأحزان، وحياة القلوب، وحادي النفوس، ومهيجها إلى ابتغاء القرب من ربها ومولاها، الحديث عن النعيم والرضوان لا يسأمه الجليس، ولا يمله الأنيس، عزت دار الفردوس من دار، وجل فيها المبتغى والمرام، دار وجنان تبلغ النفوس فيها منيتها ومناها، غرفٌ مبنية طابت للأبرار منازلها وسكناها، جل وتقدس من سوَّاها وبناها.
غرسها الرحمن بيده، وجعلها مستقرّاً لأهله وخاصته، وملأها برضوانه ورحمته، فيها الفوز العظيم، والملك الكبير، والنعيم المقيم، ولموضع سوطٍ فيها خيرٌ من الدنيا وما فيها: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران:185].
عباد الله: لا شك أن الجنة دار النعيم المقيم أعدها الله لعباده المؤمنين، فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولأهل الجنة العاملين لها أوصاف يعرفون بها، ولها سبيل للولوج إليها؛ فاقصد السبيل تنل النعيم.
أيها الأحبة: الجنة دار كل مؤمن ومؤمنة، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 82]، وقال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69].
وممن ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم من أهل الجنة ثلاثة أصناف رقيقة حانية، محبة للخير، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ" [أخرجه مسلم: 2865] فاجتمع في هؤلاء الثلاث رقة القلب والحنو على الغير والتعفف عن كل ما يضرهم.
وبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الجنة دار المتواضعين لا المتجبرين، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخْبِرُكُمْ بِأهْلِ الْجَنَّةِ"؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ -صلى الله عليه وسلم- : "كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى الله لأبَرَّهُ" [أخرجه البخاري: 4918، ومسلم: 2853]. فكل من آمن بقلبه, وعمل الصالحات بجوارحه, فهو من أهل الجنة، فقد وصف الله أعمال الخير بالصالحات, لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه, وحياته الدينية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
عباد الله: أما عن أكثر أهل الجنة فهم الفقراء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا النِّسَاءَ" [أخرجه البخاري: 3241 ، ومسلم: 2737].
أيها الإخوة: وفي الجنة متسع لمن جعله الله من أهلها، وتأملوا معي خبر آخر من يدخل الجنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إِنَّ آخِرَ أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ: الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ" [أخرجه البخاري: 7511 ، ومسلم: 186].
عباد الله: هنا سؤال مهم ألا وهو: كيف ندخل الجنة؟! والجواب أن المؤمنين يدخلون الجنة برحمة الله، وليس عمل العبد مستقلاً بدخولها بل هو سببٌ, فدخول الجنة برحمة الله والنجاة من النار بعفو الله, واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال الصالحة، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء: 124]، وأكد ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ" قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ الله! قَالَ: "وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَاعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى الله أدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ" [أخرجه البخاري: 6464، ومسلم: 2818].
عباد الله: وإذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ يسمعون نداءً مهمًّا، يسعدهم ويفرحهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "يُنَادِي مُنَادٍ، إِنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فَلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فَلا تَمُوتُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فَلا تَبْأسُوا أبَدًا". فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:43]" [أخرجه مسلم: 2837].
ويفيض الله عليهم رحمته ويتم عليهم نعمته، فقال -صلى الله عليه وسلم- : "إِذَا دَخَلَ أهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قال: يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قال: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ" [أخرجه مسلم برقم (181)].
يا الله ما أروع هذا الجزاء وما أفضله! وفي الجنة فوق ذلك ما لا يخطر بالبال، أو يدور في الخلد من النعيم، قال الله تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]، وقال الله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الزخرف: 71]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قولُ الله تَعَالَى: أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ: مَا لا عَيْنٌ رَأتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]" . [أخرجه البخاري: 3244 ، ومسلم: 2824].
وقال -صلى الله عليه وسلم- موضحًا مكانة الجنة وبيان منزلتها عند قياسها بالدنيا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" [أخرجه البخاري: 3250 ، ومسلم: 1881].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي الأعلى الكامل في الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- والزموا أوامر ربكم، وتعلموا أحكام دينكم، وما ينجيكم من عذاب ربكم، تدخلوا جنة ربكم، وتنالوا عنده الدرجات العالية.
عباد الله: ومن أعظم نعيم أهل الجنة:؛ خلود أهلها فيها أبدًا، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة: 7، 8]، وقال الله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود: 108].
ويتم ذبح الموت بين الجنة والنار ليطمئن أهل الجنة ويسعدوا، وفي المقابل يشقى أهل النار وهم يتمنون الموت فلا يجدونه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا صَارَ أهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أهْلَ الْجَنَّةِ لا مَوْتَ، وَيَا أهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحاً إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أهْلُ النَّارِ حُزْناً إِلَى حُزْنِهِمْ" [أخرجه البخاري: 6548 ، ومسلم: 2850].
أيها الأحبة: من أراد أن يدخل جنة الآخرة فليدخل أولاً جنة الدنيا، ففي الدنيا جنَّةٌ من لم يدخلْها لم يدخلْ جنة الآخرةِ، وهي ذكرُه -سبحانه- وطاعتُه وحبُّه والأنسُ به والشوقُ إليه. إن في الدنيا جنة معجلة، وهي معرفة الله ومحبته والأنس به والشوق إليه وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدل على ذلك، فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة، ومن لم يشم رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة.
وفي الدنيا روضتان من رياض الجنة، إحداهما ثابتة، والأخرى متجددة في الزمان والمكان والأشخاص، قال الله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار: 13، 14]، أما الروضة الثابتة فهي في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي" [أخرجه البخاري: 1196، ومسلم: 1391] فالصلاة في الروضة الشريفة فيه أجر كبير.
وأما الروضة المتغيرة والمتنقلة فهي مجالس العلم والذكر، قال -صلى الله عليه وسلم- : "إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا" قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "حِلَقُ الذِّكْرِ" [أخرجه أحمد: 12551، والترمذي: 3510، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 2787].
أيها المسلمون: إن الله -عزَّ وجلَّ- يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من المخلوقات عرشه واستوى عليه، واختار من الملائكة جبريل، واختار من البشر محمداً -صلى الله عليه وسلم-، ومن السموات العليا، ومن البلاد مكة، ومن الأشهر المحرم، ومن الأيام يوم الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الأوقات أوقات الصلاة...
كذلك اختار الله -سبحانه- من الجنان داراً اصطفاها لنفسه، وجعل عرشه سقفها، وغرسها بيده، واختارها لخيرته من خلقه، وهي جنة الفردوس التي خصصها الله بالقرب منه، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) [الكهف: 107]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا الله لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ" [أخرجه البخاري: 7423].
ولكن هيهات، إن سلعة الله غالية، لن ينالها كل كسول بطّال، فما بالنا نأكل ملء بطوننا، ونشرب ملء بطوننا، ونضحك ملء أفواهنا، وننام ملء جفوننا، وندعي أنه إن لم ندخل الجنة نحن فمن يدخلها؟! ما أقل حياء من طمع في جنة الله ولم يعمل بطاعة الله!! إن سلف الأمة -رضوان الله عليهم- كانوا يصومون النهار، ويقومون الليل، وتورمت أقدامهم من القيام بين يدي الله -جل وعلا-، وبالرغم من ذلك كانوا يبكون ويرتعدون كعصفور مبلل بماء المطر خوفاً من لقاء الله -جل وعلا-.
فأوصيكم -أيها الإخوة ونفسي بتقوى الله -عزَّ وجلَّ- فاتقوه -رحمكم الله-، فتقواه أقوم وأقوى، وأعدوا واستعدوا فالأوقات تمضي، والأعمار تنقضي، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.
وجنة ربي لا تنال بالتمني، ولا بشرف النسب، كما لا تنال بعمل الآباء ولا الأجداد، ولا بكثرة الأموال ولا الأولاد: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ:37].
وصدق القائل:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة | بل أنت غالية على الكسلان |
يا سلعة الرحمن ليس ينالها | في الألف إلا واحد لا اثنان |
يا سلعة الرحمن كيف تصبّر الـ | خطاب عنك وهم ذووا إيمان |
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد | بين الأراذل سفلة الحيوان |
يا سلعة الرحمن لولا أنها | حجبت بكل مكاره الإنسان |
ما كان عنها قط من متخلف | وتعطل دار الجزاء الثاني |
لكنها حجبت بكل كريهة | ليصد عنها المبطل المتواني |
وتنالها الهمم التي ترنو إلى | رب العلا في طاعة الرحمن |
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, ولا إلى النار مصيرنا, واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.
اللهم اغفر لوالدينا ووالد والدينا ولكل من له حق علينا يا ذا الجلال والإكرام, اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.