العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | فيصل بن جميل غزاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ومما ينبغي التنبيه عليه وتجدر الإشارة إليه أن المراجعة المحمودة تختلف عن التراجع المذموم؛ فالمراجَعة تعنى أن نصوِّب الأخطاءَ بعد معرفتها ونستدركَ ما فات، حتى تبقى أعمالُ المرء على الصواب والخير والحق، أما التراجع المذموم فهو تركُ الحقِّ، فالحقُّ المبينُ يَثبُتُ عليه صاحبُه فلا يتزحزح عنه، ولا يحيد قِيد أنملة...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أما بعد: فإن من طبيعة ابن آدم، ومن دلائل ضَعْفه، ما يعتريه من أحوال التقلُّب والتغيُّر والتبديل، فيقع في التردُّد والاضطراب، والتناقض واشتباه الأمور وعدم الاستقرار؛ فقد يتبنَّى قولًا في حين ويعود عنه في المستقبل، وقد يرى رأيًا اليوم ويُنكره غدًا، ولا غرابةَ في ذلك؛ فالتكوين النفسيُّ والعقليُّ والجسديُّ للإنسان بيَّنَه العليمُ القديرُ بقوله: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النِّسَاءِ: 28]، فهو ضعيف من جميع الوجوه: ضعيف البنية، وضعيف الإرادة، وضعيف العزيمة، وضعيف العقل، وضعيف العلم، وضعيف الصبر.
ومع هذا كله فَمِمَّا يميِّز المؤمنَ ويدل على رجاحة عقله وإذعانه لربه رجوعه إلى الصواب، وتركه ما يتبين له فيه خطؤه وما يعاب، فهو لا يستنكف أن يعود عن قوله أو فعله أو رأيه، متى وجد الحق في غير ما ذهب إليه، ولم يستمر فيما كان عليه، وهو لا يكترث بمن يصفه بالتقلب أو تغيُّر الرأي؛ فالرجوع إلى الحق فضيلة، وهو عزةُ النفسِ الحقيقيةُ، لا كما يزين الشيطان لبعض الناس أن العزة في الثبات على الرأي وإن كان خطأ، قال الله تبارك في عُلاه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الْأَعْرَافِ: 201]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: تذكَّروا عقاب الله وجزيل ثوابه، ووَعْده ووعيده فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله، ورجعوا إليه من قريب".
وهي فرصة لنا أن نُراجع أعمالنا بين الفَيْنة والأخرى، فمتى ما وقع المرءُ في الزلة، سارع بالأوبة، وبادَر في طلب التوبة؛ لأنه يَنشُد الحقَّ ويبتغيه، ويسعى في تحقيق أمر ربه ومراضيه، ومَنْ فعَل ذلك فهو داخلٌ في وصف الخيرية، الذي ذكَره خيرُ البرية -عليه الصلاة والسلام- بقوله: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (رواه الترمذي، وابن ماجه).
عباد الله: إن منهج الإسلام يعلِّمُنا كيف يوطِّن المرءُ نفسَه على الرجوع إلى الجادَّة ويرتاضها على لزوم الاستقامة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 135]، أي: لم يثبتوا على ما أَتَوْا من الذنوب، ولكنهم تابوا واستغفروا ورَجَعوا إلى رشدهم، ولم يشابهوا مَنْ توعَدَّهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ويلٌ لِأَقْمَاعِ القولِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ؛ الَّذِينَ يُصرُّون عَلَى مَا فَعَلُوا وهم يعلمون" (رواه أحمد).
وأقماع القول: الذين آذانهم كالقِمْع؛ يدخل فيه سماع الحق من جانب ويخرج من جانب آخر، لا يستقر فيه، فتوعَّد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالويل الذين يستمعون القول الحق فلا يتبعون أحسنَه، الذين يعلمون أنه الحق ولا يعونه ولا يعملون به، بل يهملونه؛ إما تكبرًا وعنادًا، وإما تعصُبًّا وتقليدًا، وإما غُلُوًّا وتقديسًا لِمَا هم عليه.
معاشر المسلمين: النفوس الكبار لا تأنف أن تنصاع للحق، ولا ترضى أن تبقى على الخطأ، ولا تمنعها مكانتها من أن تفيء إلى أمر الله، جاء في الحديث (المتفق عليه) قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير" فيُستفاد من هذا أن الأَوْلَى بالمسلم أن يتراجع عن عزمه في فعل شيء أَوْعَدَ بفعله إذا رأى المصلحةَ في غير ما ذهب إليه، فمتى ما حَلَفَ على فعل شيء أو تَرْكِه ثم رأى أن النفع في عدم المضي في هذا اليمين كفَّر عن يمينه وأتى الذي هو خير، وهذا ما فَعَلَه الصديقُ -رضي الله عنه-، فلما شارَك مِسْطَحٌ أهلَ الإفك في الكلام على عائشة -رضي الله عنها- وخاض مع من خاض قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "واللهِ لا أُنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النُّورِ: 22]، قال أبو بكر: "بلى والله، إني لَأحب أن يغفر الله لي" فكفَّر عن يمينه ورجَع إلى النفقة على مسطح وقال: "واللهِ لا أنزعها عنه أبدا".
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "كنتُ جالسا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل أبو بكر آخِذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما صاحبكم فقد غامر" فسَلَّم وقال: "إني كان وبيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعتُ إليه ثم ندمتُ، فسألتُه أن يغفر لي فأبى عليَّ، فأقبلتُ إليكَ فقال: "يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر"، ثم إن عُمَرَ نَدِمَ فأتى منزلَ أبي بكر فسأل: أَثَمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسَلَّمَ فجَعَلَ وجهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: "يا رسول الله، والله أنا كنتُ أظلم، والله أنا كنتُ أظلم" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله بعثني إليكم فقلتُم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها" (رواه البخاري).
فالصحابة الكرام يقع منهم الخطأ وليسوا بمعصومين، لكنهم سرعان ما يرجعون إلى الحق، وهذه هي الميزة العظيمة التي تُمَيِّزُهم، قال ابن حجر -رحمه الله-: "وفيه ما طُبِعَ عليه الإنسانُ من البشرية، حتى يحمله الغضبُ على ارتكاب خلاف الأَوْلَى، لكن الفاضل في الدين يُسرع الرجوعَ إلى الأَوْلَى كقوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الْأَعْرَافِ: 201]، ولَمَّا دخَل عُيينةُ بنُ حصنٍ على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "يا ابن الخطاب، والله ما تُعطينا الجزلَ، وما تَحْكُم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ بأن يقع به، فقال الحُرُّ بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله -تعالى- قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الْأَعْرَافِ: 199]، وإنَّ هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله، فلما هاجت ثورة غضبه -رضي الله عنه- ذُكِّرَ بالآية فتذَكَّر وسكنت نفسه ورجع إلى الحق من فوره ولم يحصل منه معاقبة لهذا الرجل.
وجاء في كِتَاب عمر إِلَى أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قولُه: "لا يَمْنَعَنْكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالأَمْسِ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَإِنَّ الْحَقّ لا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ". فينبغي للمرء متى قضى في شيء أو أفتى في شيء ثم تبيَّن له خطؤه، أن يرجع عن ذلك.
ولَمَّا روجع قاضي البصرةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَن العنبري -رحمه الله- في مسألةٍ غَلِطَ فِيهَا أطرق ساعة ثُمَّ رفع رأسه فَقَالَ: "إِذًا أرجع وأنا صاغر، إِذًا أرجع وأنا صاغر؛ لَأَنْ أكونَ ذَنَبًا فِي الحقِّ أحبُّ إليَّ من أَن أكون رأسا في الباطل"، وهكذا فكلُّ عاقلٍ مُنصِف متى نُبِّهَ على سهوه، وأُوقف على غلطه رجع إلى الحق.
وقال الشافعي -رحمه الله-: "كلُّ مسألةٍ صحَّ فيها الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند أهل النقل بخلاف ما قلتُ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي"، فهذه الأقوال والمواقف والوصايا السابقة تدلُّ على ورع هؤلاء القوم العظماء، وفضلهم وفقههم وإنصافهم، فحريٌّ بنا أن نتأسى بهم ونتمثل خطاهم.
يا أيها الإخوة في الله: ومما ينبغي التنبيه عليه وتجدر الإشارة إليه أن المراجعة المحمودة تختلف عن التراجع المذموم؛ فالمراجَعة تعنى أن نصوِّب الأخطاءَ بعد معرفتها ونستدركَ ما فات، حتى تبقى أعمالُ المرء على الصواب والخير والحق، أما التراجع المذموم فهو تركُ الحقِّ، فالحقُّ المبينُ يَثبُتُ عليه صاحبُه فلا يتزحزح عنه، ولا يحيد قِيد أنملة، فهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أراد المشركون ثنيَ عزمه عن دعوته وجهرِه بالحق قَال لهم بكل ثبات وقوة: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً". (رواه أبو يعلى بسند رواته ثقات)، فيتجلى هنا ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من تمسُّكه بالحق وقوة ثباته على مبدئه، وعدمِ تراجُعِه عن منهجه الرشيد، ومسلكه السديد.
وقد اقتدى الأئمة والعلماء بهدي نبيهم -صلى الله عليه وسلم- في الثبات على الحق، وعدم التنازل عنه بكل ما أوتوه من قوة، فالخليفة الراشد أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ثبت في حروب الردة ولم يُثن عزمَه عن قتال المرتدين شيءٌ، وقال في ذلك الموقف العظيم كلمتَه الشهيرة: واللهِ لأُقاتلن مَنْ فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، واللهِ لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتُهم على منعه".
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وعلى كل حال، وأشهد ألا إله إلا الله الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله المنعوت بكريم الخصال وشريف الخلال، صلى الله عليه وعلى الأخيار الطيبين من الأصحاب والآل.
أما بعد: وإذا كان الرجوع إلى الحق من الخصال المحمودة والصفات الحسنة المنشودة فإن ترك الحق والغواية بعد الهداية والرجوع إلى الباطل على الضد من ذلك؛ فتركُ الهدى، والانسلاخ من دين الإسلام والخروج عليه بعد اعتناقه أقبح صفات المرء وشرُّ فِعاله، ولا يرجع عن دينه إلا ضالٌّ مفتونٌ وخاسرٌ مغبونٌ، وفِعْلُه هذا تعريضٌ بالدِّين واستخفافٌ به، وكذلك فيه تمهيدُ طريقٍ لمن يريد أن ينسَلَّ من هذا الدِّين؛ وذلك يفضي إلى انحلال جماعة المسلمين.
ولْيُعلم أن مَنْ عرَف الدين وتغلغل الإيمانُ في قلبه لا يمكن أن يفرِّط في التمسُّك به ولا يتركَه ويرتدَّ عنه، مهما كانت الظروف والأسباب، فلما سأل هِرَقْلُ أبا سفيان عن الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-: "هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ قَالَ: لَا"، فقال هرقل: "وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ القُلُوبِ"، ومعنى سخطة له أي: ليس من باب السخط والكره لهذا الدين وإنما لمصلحة ينالُها، ما تَرَكَ الدينَ إلا لحظٍّ من حظوظ الدنيا، كمالٍ أو جاهٍ أو شهرةٍ.
أيها المسلمون: ومن صور التراجع المذموم: أن يكون العبد على رُشْد وبينة من أمره ثم يتراجعَ عن الحق الذي هو عليه، ويبدِّلَ حكمَ الله اتباعًا لهواه ومتابعةً لآراء الناس، وهذه هي الفتنة، فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "إذا أحبَّ أحدُكم أن يعلم أصابَتْه الفتنةُ أم لا، فلينظر؛ فإن كان رأى حلالًا كان يراه حرامًا فقد أصابَتْه الفتنةُ، وإن كان يرى حرامًا كان يراه حلالًا فقد أصابته".
والفرق بين هذا النكوص والتقهقر والتبديل المذموم وبين التراجع المحمود أنَّ تغيُّرَ الرأي وتبديلَ حُكْم الله الذي أشار إليه ابنُ مسعودٍ -رضي الله عنه- باعثُه الافتتانُ واتِّباعُ الهوى، وليس باعثُه اتباعَ الحق والهدى، ومبنيٌّ على الرأي والهوى والمداهَنة، ولم يكُ مبنيًّا على الدليل والحجة البينة.
ألا فصَلُّوا وسَلِّموا -عباد الله- على النبي المنيب الأوَّاه، كما أمركم ربكم القريب المجيب التوَّاب فقال تعالى في محكم الكتاب: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وانصر عبادك الموحدين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كُنْ لإخواننا المستضعفين والمتضررين والمجاهدين في سبيلك والمرابطين على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينا ونصيرا، ومؤيدا وظهيرا، وهيئ لهم من أمرهم رشدا، ربنا اجعلنا لك شكَّارين، لك ذكَّارين، لك مطواعين، إليك مخبتين أواهين منيبين، اللهم يا وليَّ الإسلامِ وأهلِه، مَسِّكْنا به حتى نلقاك، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل، اللهم إنا نعوذ بك من الضلالة بعد الهدى، ونعوذ بك أن نفتن في ديننا وأن نرد على أعقابنا بعد إذ هديتنا، والحمد لله رب العالمين.