العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | أحمد عبدالرحمن الزومان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
فكلُّ ما يحتاجه الناسُ مُبَيَّنٌ في كتاب ربِّنا، وسنَّة نبيِّنا، ما يحتاجونه في أمور دينهم ودنياهم يجدونه منطوقًا به في النص الشرعي، أو مفهومًا منه، أو يدخل تحت حكم عام أو قاعدة عامة من قواعد الشريعة، فعلى الأمة الرجوع لكتاب ربها وسنة نبيها فيما نابها من أحداث، ومن ذلك ما يتعلَّق بالأوبئة، وهي الأمراض العامة، التي تصيب الناس في وقت من الأوقات؛ بحيث تخالف العادة كثرة وانتشارًا.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أمَّا بعدُ:
يقول ربنا -تبارك وتعالى-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89]، فكلُّ ما يحتاجه الناسُ مُبَيَّنٌ في كتاب ربِّنا، وسنَّة نبيِّنا، ما يحتاجونه في أمور دينهم ودنياهم يجدونه منطوقًا به في النص الشرعي، أو مفهومًا منه، أو يدخل تحت حكم عام أو قاعدة عامة من قواعد الشريعة، فعلى الأمة الرجوع لكتاب ربها وسنة نبيها فيما نابها من أحداث، ومن ذلك ما يتعلَّق بالأوبئة، وهي الأمراض العامة، التي تصيب الناس في وقت من الأوقات؛ بحيث تخالف العادة كثرة وانتشارًا.
وفي هذه الدقائق أذكُر أهم ما يحتاج إليه في هذا الباب؛ فعن عبد الله بن عباس: أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ -على حدود الأردن والسعودية قرب حالة عمار- لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إنِّي مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟! فقال عمر: لو غيرك قالها -يا أبا عبيدة-!! نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟! قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال: إنَّ عندي في هذا علمًا، سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتُم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه". قال: فحمد اللهَ عمرُ، ثم انصرف. رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219).
فعمر قدم بمن معه من الصحابة والتابعين للشام، فلما كان على مشارف الشام، ظهر طاعون عمواس، فاستشار عمر من معه ثم رجع، ولم يدخل الشام.
فمن فوائد هذه القصة: أن تحديد الوباء والدخول للبلد الموبوء أو عدم الدخول لا يرجع فيه لأمر العامة؛ بل يرجع لأهل الاختصاص وأهل الرأي، فعلينا أن نأخذ المعلومات المتعلقة بالأوبئة، وما الذي يفعل ويترك، نأخذه من أهل الاختصاص والعلم، فنرجع إلى توجيهات وزارة الصحة، ولا يكون الواحد منَّا صريع الإشاعات، يستقي معلوماته من مصادر غير موثوقة.
معاشر الحضور: بالنسبة لزيارة مكة والمدينة حجًّا وعمرة وزيارة، فالأصل هو مشروعية ذلك، فلْنَسْتمِر على ما اعتدناه من الخير من الحج والعمرة والزيارة، ونتمسك بهذا الأصل، إلاَّ إذا ورد خلاف ذلك من الجهات الشرعية؛ كالإفتاء، وهيئة كبار العلماء، حفظ الله لنا علماءنا، ووفَّقهم لكلِّ خير، وأَمَد بأعمارهم على عمل صالح، فنعمل بتَوْجيهاتهم.
ومن فوائد هذه القصة: توقي الأمراض، والتحفظ منها قبل وُقُوعها بعدم القدوم للمكان الموبوء، أو بأخذ اللقاح؛ أمْرٌ مشْرُوُع؛ فعُمر -رضي الله عنه- رجع توقِّيًا لهذا الوباء، فليحتط الواحدُ منَّا لصحَّته، وليَتَجَنَّب الأشياء التي قد تضرُّ بصحته، ويبذل الأسباب المباحَة التي تحفظ بها الصحة، ومما يدل على ذلك: حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن تصبح سبع تمرات عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر". رواه البخاري (5769)، ومسلم (2047).
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في مجموع الفتاوى (26/170): "لا بأس بالتداوي إذا خشي وقوع الداء لوجود وباء أو أسباب أخرى، يخشى من وقوع الداء بسببها، فلا بأس بتعاطي الدواء لدفع البلاء، الذي يُخشى منه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "مَن تصبح بسبع تمرات من تمر المدينة، لم يضره سحر ولا سم"، وهذا من باب دفع البلاء قبل وقوعه، فهكذا إذا خشي من مرض، وطعّم ضد الوباء الواقع في البلد، أو في أي مكان، لا بأس من ذلك، من باب الدفاع، كما يعالج المرض النازل، يعالج بالدواء المرض الذي يخشى منه". اهـ.
فنهي النبي عن دخول البلد الذي فيه الطاعون؛ من باب حفْظ النفس، وعدم الإلقاء بها إلى التهْلُكة، والله أعلم؛ فلذا رجع عمر، ولم يدخل الشام.
ومن فوائد القصة: أن الأخذ بالأسباب لا يُنافِي التوكُّل، بل هو من التوكُّل إذا كان من باب عمل الأسباب فقط، والشخص يعلم أنها لا ترد قدر الله، بل هي مِن قدر الله؛ فلذا قال الفاروق: نفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله، فسيد المتوكِّلين هو الذي أمرَنا أن نأخذ بالأسباب، ولا ندخل الأماكن الموبُوءَة.
ومن فوائد القصة: أنَّ اختلاف أهل الفضل في قضية شرعية أمْرٌ قديم؛ فالناس مختلِفون في أفهامهم، وفي طُرُق الاستدلال، فعلينا أن نتحَمَّل الخلاف الصادر من أهله ممن عُرفوا ببذل الوسع والنُّصح للأمة.
ومن فوائد القصة: أن الحكم الشرعي قد يخفى على الأكثر والأعلم، ويعلمه البعض وإن كان مفضولاً، فخفي حكم الدخول للبلد الموبوء بالطاعون على جمهور الصحابة، وعلمه عبد الرحمن بن عوف.
الخطبة الثانية:
ومن فوائد القصة: إثبات العدوى؛ فلعل النهي عن الدخول في البلد الذي انتشر فيه الطاعون، والنهي عن الخروج منه؛ لمنع العدوى، وانتشار المرض. والله أعلم.
وإثبات انتقال المرَض بالعدوى ثابتٌ بالنص؛ فعن أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة"، فقال أعرابي: يا رسول الله: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن أعدى الأول"، وقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يوردن ممرض على مصح". رواه البخاري (5771)، ومسلم (2221)، فنهى النبي صاحب الإبل المريضة، وهو الممرض في الحديث أن يرد على صاحب الإبل الصحيحة؛ حتى لا يتسبَّب في انتقال العدوى من الإبل المريضة للإبل الصحيحة، وكره النبي مقابلة المصاب بمرض معدٍ؛ فعن الشريد قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا قد بايعناك فارجع". رواه مسلم (2231).
أما ما يروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد مجذوم فأدخله معه في القصعة، ثم قال: "كل بسم الله، ثقة بالله، وتوكلاً عليه"، فلا يصح عن النبي؛ فقد رواه الترمذي (1817) وغيره، عن جابر، وأشار الترمذي لضعف الحديث، بقوله: حديث غريب.
ففي هذه الأحاديث إثبات العدوى؛ لكنَّها بأمر الله، فلا يرد الحذر من القدَر، وما ورد من نفي العدوى كقول النبي: "لا عدوى"، فالمراد: نفي كون العدوى تنتقل بنفسها على ما كان يعتقده أهل الجاهلية.
الأوبئة الفتَّاكة قد تكون تارة عذابًا، وتارة رحمة؛ فعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون، فأخبرها نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا، يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد". رواه البخاري (5734).
فإذا ابتَعَدَ الخلق عن شرع الله، وظهرت فيهم الفواحش -الزنا واللواط- أرسل الله لهم أمراضًا عامة تفتك بهم؛ فعن بريدة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقض قوم العهد قط إلا كان القتْل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط إلاَّ سلط الله عليهم الموت". رواه الحاكم (2577) وصححه، وجوَّد إسناده الحافظُ في الفتح (10/193)، وعن ميمونة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالتْ: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تزال أمتي بخير ما لم يفشُ فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا، فيوشك أن يعمهم الله -عز وجل- بعقاب". رواه الإمام أحمد (26290)، وحسَّن إسناده الحافظُ في الفتح (10/193)، وللحديثَيْن شواهد مِن حديث ابن عمر، وحديث ابن عباس، وحديث عمرو بن العاص.
وقد تكون هذه الأوبئة رحمة للمسلمين، ترفع بها درجاتهم إذا صبروا على هذه الأمراض، وامتَثَلُوا أمر ربهم فيما يفعلون ويذرون، فالمطعون له مثل أجر الشهيد -كما تقدم- وقد مات على فراشه، فهذه رفعة في الدرجات.
وقد تكون هذه الأوبئة تكفيرًا لما اجترحوه من سيئات، فتصيبهم هذه الأوبئة فتطهرهم قبْل وفاتهم؛ فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده، وفي ماله، وفي ولده، حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة". رواه الإمام أحمد (7799) وغيره بإسناد حسن.
أمام هذه الأوبئة يتبَيَّن لنا ضعف البشر، وقلَّة حيلتهم، فمهما أُوتُوا من تقدم في الطب، تجدهم عاجزين عن معرفة طريقة انتشار المرض، وإذا عرفوا الطريقة عجزوا عن إيجاد العلاج لها، ثم في نهاية الأمر يسلمون بالأمر الواقع، ويعلنون أن هذا الأمر أصبح وباءً عامًّا.
معاشر الإخوة: علينا في كل حال وفي مثل هذه الأوبئة خصوصًا أن نفتش في أنفسنا، ونتوب إلى ربنا، ونُكثر من الأعمال الصالحة؛ فهي من أسباب دفع العقوبات الإلهية ورفعها: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد: 11].