المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
فالله -جل جلاله- يتوعد من أجهد الأجير وشغّله فلما استوفى منه تركه كأن لم يعرفه، فلم يعطه حتى أجرته، فمن فعل هذا فالله خصمه يوم القيامة، ومن كان الله خصمه فهو مغلوب خاسر، فهل يرضى مسلم أو عاقل أن يكون الله خصمه بسبب ظلمه لأجيره.، وهل يدرك هذا جيداً من يستحقر هؤلاء الأجراء والعمال فيظلمهم، ويبخسهم أشيائهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان، ذو الفضل والجود والإحسان، حبب إلينا الإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، أحمده -سبحانه وتعالى- حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً يثبت الله به أجراً، ويمحو به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عباد الله: لقد خلق الله الناس أجناساً شتى، ورغبات مختلفة، واهتمامات متنوعة، وسخر بعضهم لبعض، وجعل بعضهم يُكمل بعضاً، حتى تستقيم الحياة وتصلح الأمور، إذ ليس من المعقول أن يكون الناس كلهم في منزلة واحدة، أو يعملون في عمل واحد، ولذلك جعل فيهم الأغنياء والفقراء، والأحرار والعبيد، والمالكين والمملوكين، وحدد لكل واحد على الآخر حقوقاً وواجبات، وألزمه بالقيام بها لتستقيم الأمور وتسير الحياة، كما قال -سبحانه وتعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف : 32].
نريد اليوم أن نوجه دعوة عاجلة، ونصيحة هامة، للكبراء والرؤساء والمدراء وأرباب المال والأعمال، أن يتقوا الله -سبحانه وتعالى- فيمن ولاهم الله عليهم، وجعلهم تحت أيديهم، من العمال والأجراء والخدم والعبيد والمستأجرين، وأن يعرفوا حقوقهم، ويقوموا بما عليهم لهم، مثلما يريدون منهم أن يقوموا بما عليهم تجاههم، حيث أن من الظلم أن يريد الطرف الأول حقوقه كاملة، ويطالب بكل ما له دون نقص أو خلل، ولكنه في المقابل لا يقوم هو بحقوق الطرف الثاني كاملة، ولا يؤدي له حقوقه وما له عليه، فهذا غبن وحيف يجب أن ينزه كل عاقل نفسه عنه، وأن يلزم نفسه بالعدل والإنصاف، ويحب للآخرين ما يحبه لنفسه، ويعاملهم بالتي هي أحسن.
إننا نوصي كل مسئول -تحت يده عدد من العمال والموظفين- نوصيه ونذكره بموقف صاحب مَدْين، ذلك الشيخ الكبير الذي عمل عنده -موسى عليه السلام- راعياً لغنمه مقابل أن يزوجه إحدى ابنتيه، فاتفق معه على العمل لمدة ثمان سنوات كشرط واجب ملزم بالعمل فيها، فإن أكمل عشر سنوات فذلك تفضل منه وكرم وليس بإلزام، حتى لا يشق عليه، أو يكلفه فوق طاقته: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص : 27]، ثم رغبه في العمل وأخبره بسهولته ويسره، ووعده بحسن معاملته والإحسان معه، فقال له: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص : 27] فتأملوا في هذه المواقف العظيمة، التي سطرها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم، لرجل عظيم ضرب مثلاً رائعاً في الرفق بالأجير، والتسهيل عليه، وخفض الجناح له، وترك التعالي والتكبر عليه.
أما رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فقد حاز قصب السبق، وضرب أروع الأمثال في اللين والرفق، وخاصة بالخدم والعاملين، فهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه- خدم عنده عشر سنوات كاملة، يقول: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ، وَلاَ: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ: أَلَّا صَنَعْتَ" [البخاري (6038) ]، وفي رواية: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ" [الترمذي (2015) ]، عشر سنوات كاملة -يا عباد الله- ما قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم- مجرد أف، هذه الكلمة البسيطة التي يقولها الإنسان إذا تضجر أو تضايق، فضلاً عن أن يغضب عليه، أو ينهره، أو يكلفه فوق طاقته، أو يعاتبه على عمل صنعه أو لم يصنعه، فهل يستطيع الواحد منا أسبوعاً واحداً فقط أن يكون هكذا؟، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- خدم عنده أنس عشر سنوات فما تأفف منه، وما نهره، فأين رفــقنا وليننا بالمساكين والخدم والمستأجرين؟.
لقد جاء في الحديث القدسي الذي يرويه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -تبارك وتعالى- أنه قال: "ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ" [البخاري (2227) ]، فالله -جل جلاله- يتوعد من أجهد الأجير وشغّله فلما استوفى منه تركه كأن لم يعرفه، فلم يعطه حتى أجرته، فمن فعل هذا فالله خصمه يوم القيامة، ومن كان الله خصمه فهو مغلوب خاسر، فهل يرضى مسلم أو عاقل أن يكون الله خصمه بسبب ظلمه لأجيره.، وهل يدرك هذا جيداً من يستحقر هؤلاء الأجراء والعمال فيظلمهم، ويبخسهم أشيائهم، لأنه يعلم ضعفهم وعدم مقدرتهم على المطالبة بحقوقهم، ويعرف أنهم لن يستطيعوا الوصول إلى القضاء والمحاكم؟، وينسى أنه سيحاسب على هذه المظالم في يوم لن يكون فيه هذا المسكين خصمك، وإنما يكون خصمك الرب -جل جلاله وتعالت عظمته-، فهل أعددنا لهذا الموقف المهول عدته، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) [إبراهيم 42: 43].
أيها المسلمون: أخرج البخاري ومسلم أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" [البخاري (30) مسلم (1661) ] فهل سمعتم توجيهات تجاه العمال والأجراء مثل هذه التوجيهات؟ وهل سمعتم بدين يراعي لهم حقوقهم مثل هذا الدين العظيم؟ وهل رأيتم مشفقاً بالمساكين والعاملين خير من الرحمة المهداة والنعمة المسداة -صلى الله عليه وسلم- الذي قال عنه ربه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء : 107].
إنه يعظنا ويوصينا في هذا الحديث الشريف بالإحسان لهؤلاء الأجراء، ويخبرنا أنهم إخواننا فيقول: "إخوانكم خولكم"، أي هؤلاء العمال والعبيد والخدم هم الذين يخولون أموركم، ويصلحون حاجاتكم، فهم منكم وأنتم منهم، فعاملوهم كما تعاملون إخوانكم، فإنما هم إخوانكم في الدين إن كانوا مسلمين، أو إخوانكم في الآدمية إن لم يكونوا مسلمين، ثم يقول بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-: "فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" أي لا تكلفوهم بما يعجزون عن القيام به، فإن كلفتموهم بعمل شاق فساعدوهم، وقوموا معهم لإعانتهم، والله إنها قمة الرحمة والشفقة بهؤلاء المساكين، فأين نحن من هذه التوجيهات النبوية؟ وأين نحن من استشعار هذه الإخوة بيننا وبينهم؟ وأين رحمتنا بهم حين نأمرهم بأمر، أو نكلفهم بمهمة أو عمل فيه مشقة عليهم؟.
أليس هؤلاء العمال هم بشر أمثالنا؟ لقد أجبرتهم ظروفهم وحاجتهم للعمل في الأعمال الشاقة أو المهينة، وتكلفوا مالا يستطيع الواحد منا أن يتكلفه يوماً واحداً، فيجب علينا أن نراعي آدميتهم، وأن ننظر إليهم بعين الرأفة والرحمة، وإذا كلفوا بأعمال أخرى غير أعمالهم الرسمية فواجب علينا أن نعطيهم علاوة وزيادة مقابل عملهم الزائد، ولا يجوز لأحد منا أن يتهجم عليهم أو يكشر في وجوههم بحجة الجدية في العمل، أو بذريعة أنه إن لم يقسُ عليهم فإنهم سيخلون بعمله، ويفلت أمرهم من بين يديه، فيتصرف معهم تصرفات هوجاء شديدة، ويعاملهم معاملة سيئة تحت هذه الذرائع والحجج.
إن الواجب على المسئول أو التاجر أن يكون وسطاً في تعامله وإبراز شخصيته، فلا يكن هيناً ليناً فيكسر، ولا يكن صعباً شديداً فيعصر، فإذا قام العامل بعمله بنفسه، وأداه على الوجه المقبول، ولم يتوانَ عن العمل، أو يتغيب عنه بدون عذر، وحافظ على ما تحت رعايته من أدوات والآت ومعدات وأسرار تخص العمل، وتعاون مع المالك بما يخدم مصالح العمل، فماذا يريد منه بعد ذلك؟ وماذا سيستفيد من أذيته وظلمه بعد هذا؟ وهل يعلم من يتعمد أذيتهم ويتقصد الإساءة إليهم أنه حَرم نفسه من رحمة الله الواسعة، يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ" [البخاري (7376) ]، ويقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ, ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ". [أبو داود ( 4941) ] ويقول الله -جل وعلا- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- والخطاب لنا جميعاً: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران : 159]، ويقول: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : 88].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: يجب على من استرعاه الله رعية أن يحسن إليهم، ويشفق عليهم، وأن يراعي أحوالهم وظروفهم ونفسياتهم، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ولا يستغل حاجتهم، أو يعطيهم أقل مما يستحقون، أو يكلفهم من العمل فوق ما يطيقون، أو لا يعطيهم أوقاتاً كافية للراحة والاسترخاء، وليعلم أن دعوة المظلوم لا ترد وليس بينها وبين الله حجاب، وكم من شخص تراه فتستحقره نظراً لطبيعة عمله، أو دناءة موقعه، فتظلمه، أو تبخسه حقه، أو تحتقره، وتوبخه، وتستخدم معه أسلوب الاضطهاد والقسوة، وتنسى أنه ربما يكون ممن لو أقسم على الله لأبره، وقد يكون له عند الله شأن عظيم ومنزلة أعظم من منزلتك بألف مرة، يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ" [مسلم (2622) ].
إن ديننا الإسلامي الحنيف لا يرضى أبداً أن يُعامل العمال والأجراء بصورة مهانة، أو طريقة سيئة، فلا يجوز ضربهم وإذلالهم والتعدي عليهم، فإن رسولنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ، أَوْ ضَرَبَهُ، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ" [مسلم (1657) ]، ويقول أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي، "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: "اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ"، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: "اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ"، قَالَ: فَقُلْتُ: "لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا" [مسلم (1659) ].
أيها الناس: إن من صور الظلم الواقع اليوم على العمال والمستأجرين أن يُولى عليهم إذا كانوا مسلمين مسئولاً كافراً، فهذا خطأ كبير، ومخالفة عظيمة، لقول الله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء : 141]، وربما تعنت عليهم، أو ضايقهم في عباداتهم الدينية وأعمالهم الشرعية كما هو واقع من بعض المسئولين والمدراء في الشركات وغيرها، بل للأسف تجد مسئولاً مسلماً أو مديراً مسلماً يرغم عماله على ارتكاب بعض المعاصي ويلزمهم بارتكاب بعض الكبائر، كأن يمنعهم من أداء الصلاة في وقتها مع الجماعة، أو يأمرهم بشراء شيء فيه معصية، أو يضعهم في جانب من العمل فيه إحراج لهم من ناحية دينهم والتزامهم، أو يلزمهم بالدخول على النساء الأجنبيات وغير ذلك.
كما أن من أعظم الظلم استغلال جهل هؤلاء العمال وعدم معرفتهم باللغة وغيرها، فيلزمهم المالك بأمور لا يرضونها، أو يوقعهم في أشياء فيها مضرة لهم من حيث لا يشعرون، أو يتحايل عليهم فيجعلهم يوقّعون على عقود وأوراق لا يفهمونها بالضبط، ولا يبين لهم ما فيها بشكل واضح، ومنهم من يمنع عنهم مقومات الحياة الضرورية، فيعاملون وكأنهم بهائم لا بشر، فيقتر عليهم في أكلهم، أو لا يعطيهم وجباتهم الكاملة، والأدهى من ذلك والأمر أن يؤكلهم من بقايا أكله وسور طعامه، أو يحشرهم جميعاً في مكان ضيق لا يتسع لهم، ولا يجدون فيه راحتهم، ولا يكلف نفسه بالسماع منهم، والاستماع إلى همومهم وشكاويهم.
بل ربما يصل الكبر والعتو بالبعض إلى أن يأنف حتى من رد السلام عليهم، فلا يسلم عليهم، ولا يرد عليهم السلام إذا سلموا عليه، وكثير منهم تثور ثورته وتحمر أوداجه إذا قدّم له عامله نصيحة، أو أمره بمعروف أو نهاه عن منكر، مع أنه سيتقبل هذه النصيحة لو جاءت من غير العامل لكنه يأنف من سماعها من عامل عنده أو خادم له، وحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1] ويقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ" [مسلم (2564) ].
ومن الظلم أيضاً أن ينقصه أجرته ولا يوفيه إياها كاملة، أو يتعمد تأخيرها عليه بدون سبب، أو يقتطع منها جزء للإضرار به، وربما يتفق معه على ثمن معين فإذا وصل العامل إلى مكان العمل، غُيَّر الثمن، فيوضع العامل بين أمرين أحلاهما مر، إما أن يوافق على هذا الثمن الجديد بما فيه من ظلم ونقص أو مضاعفة لساعات العمل، وإما الترحيل والعودة إلى بلده، وبالتأكيد فإنه سيقبل وسيوافق مضطراً على هذا الثمن الجديد، فكل هذا حرام وسحت، أو يتفق المقاول مع صاحب العمل على أن يعطي العامل كذا وكذا، ثم يقوم المقاول بإعطاء العامل أقل من المبلغ الذي اتفق عليه مع صاحب، العمل ويأخذ المبلغ المتبقي له، وأحياناً يتم الاتفاق على أمور فيها متنفس بالنسبة للعامل في أكله أو في سكنه أو غير ذلك ولكن المقاول أو الوكيل عند التطبيق لا يؤدي هذا ولا يقوم به، يقول الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ" [مسلم (137) ]، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "اعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ، قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ" [ابن ماجة (2443) ]، وصححه الألباني في [صحيح الجامع (1055) ].
كما أدعوكم للتصدق على أجرائكم وعمالكم زيادة على مستحقاتهم، خاصة إذا كانوا من أهل الفقر والحاجة، فهم أولى بالزكاة والصدقة لأنها صدقة وصلة، وتكون بهذا قد برأت ذمتك من أي زلل أو خطأ أو قسوة أو تقصير في حقهم من غير قصد.
كما أدعوكم أيضاً إلى العفو عنهم والتغاضي عن زلاتهم وهفواتهم خاصة إذا كانت بغير قصد ولا تعمد, فلا ينبغي محاسبتهم أو القسوة عليهم في أمر لم يتعمدوه فقد روى الْبَيْهَقِيّ عَن عَليّ بن الْحُسَيْن: "إِن جَارِيَة جعلت تسكب عَلَيْهِ المَاء يتهيأ للصَّلَاة فَسقط الإبريق من يَدهَا على وَجهه فَشَجَّهُ, فَرفع رَأسه إِلَيْهَا فَقَالَت: إِن الله يَقُول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) [آل عمران: 134] قَالَ: قد كظمت غيظي. قَالَت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) [آل عمران: 134] قَالَ: عَفا الله عَنْك. قَالَت: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134] قَالَ: اذهبي فَأَنت حرَّة" [شعب الإيمان (7964) ] فانظروا إلى هذا العفو والإحسان مع العمال والأجراء.
فاتقوا الله -عباد الله- في هذا الأمر، وراعوا هذه التوجيهات والوصايا والتزموا بها، فإن في الالتزام بها خير وبركة، واعلموا أن من يسر على الناس ورفق بهم فإن الله ييسر له أموره ويرفق به، ويرحمه في يوم يكون فيه في أمس الحاجة إلى الرحمة والشفقة، ولا يحملن أحدنا الكبر والعناد والهوى على مخالفة هذه الوصايا، فإن من طغى وظلم سُلط عليه من يكون أشد منه ظلماً وطغياناً، فيسومه سوء العذاب، ويعذبه العذاب الأكبر في الدنيا، (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه : 127].
كما يجب علينا جميعاً أن يوصي بعضنا بعضاً بالرفق بالأجير، وأن نقوم بكف الظالم ونهيه عن ظلمه، ونقف مع المظلوم أياً كان جنسه ولونه وعمله طالما أنه مظلوم، وأن ينصح بعضنا بعضاً إذا رأى في أخيه مخالفة لأوامر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- تجاه هؤلاء المساكين والعمال والأجراء، فــــ "الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" [مسلم (55) ].
وفي الأخير أذكر نفسي وإياكم بقصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، فقال الثالث منهم: "اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئُ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ" [البخاري (2272) ].
لقد عزل حقه ونصيبه ونماه له حتى أصبح هذا العدد الكبير من الشاة والبقر والإبل ثم أعطاه إياه، فانظروا إلى الإحسان وحسن المعاملة، فلما انطبقت عليهم الصخرة سأل الله تعالى بهذا العمل الصالح فكشف الله تعالى عنهم الشدائد، فزالت عنهم وخرجوا يمشون، فإذا أردت أن يفرج الله شدائدك وكربك وأزماتك المالية وأوضاعك الاقتصادية، بل ومصائبك في نفسك، وفي أهلك، وفي مالك، وفي ولدك، فأحسن إلى عمالك وأجرائك.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.