البحث

عبارات مقترحة:

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

الجبار

الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...

الباسط

كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...

ناسجو الحلل

العربية

المؤلف عاصم محمد الخضيري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. القرآن معجزة الله الخالدة .
  2. حاملو القرآن ناسجو الحلل .
  3. فضائل حلمة القرآن وأهله .
  4. أثر تعلم القرآن على التحصيل الدراسي .
  5. القرآن يرفع أقوامًا ويضع آخرين .
  6. صاحب القرآن قدوة لغيره .

اقتباس

منذ أن قال أمين من في السماء لأمين من في الأرض: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، ووجه الفضاء أبيض زاهٍ, والسماوات بالتراتيل نشوى, منذ أن قال أمين من في السماء لأمين من في الأرض: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ), والكون في لهف ليسمع آية الإقراء من ثغر الأمين,, منذ أن افتتحت هذه الدنيا بـ(اقْرَأْ), ولن تغلق إلى قيام الساعة, وهذه الأمة يولد فخرُها يومًا بعد يوم, لا ينضوي بتقادم الأيام! تذهب الأمم كلُّها بكل محرف, وبكل مبدل, وستبقى الأمة

الخطبة الأولى:

الحمد لله يخلق الخلق وما شاء حكم

مرتَجى العفو ومألوهُ الأمم

كـل شـيء شـاءه رب الورى

نافذ الأمر بذا جف القلم

الحمد له, له الحمد ربي..

من ذا الذي يستحق الحمد إن طرقت

طوارق الخير تبدي صنع خافيه

إلاك يـا رب كـل الكون خاشعة

ترجـو نـوالك فيضًا من يدانيه

أشهد ألا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك, أتتك السماوات والأرض طوعًا, وأسلم من فيهن لك طوعًا وكَرْهًا وإليك يرجعون.

وأشهد أن محمدًا بن عبد الله عبدك ورسولك..

رسول الله في الملكوت طابت

شريعته وطابوا وارديها

رسـول الأمـة الغراء جلت

هدايته وجلوا مقتفيها

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ).

منذ أن..

سكب النورُ على الغار الشعاع

والدُّنا تلقي تحيات التلاع

منذ أن قال الأمين اقرأ على

غارنا الميمون فالدنيا استماع

ورسول الله يتلو آية

جاوبت ترتيله كل البقاع

منذ أن قال أمين من في السماء لأمين من في الأرض: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، ووجه الفضاء أبيض زاهٍ, والسماوات بالتراتيل نشوى, منذ أن قال أمين من في السماء لأمين من في الأرض: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ), والكون في لهف ليسمع آية الإقراء من ثغر الأمين,, منذ أن افتتحت هذه الدنيا بـ(اقْرَأْ), ولن تغلق إلى قيام الساعة, وهذه الأمة يولد فخرُها يومًا بعد يوم, لا ينضوي بتقادم الأيام! تذهب الأمم كلُّها بكل محرف, وبكل مبدل, وستبقى الأمة هذه بقرآنها المحفوظ, تذهب الأمم كلُّها بصحف لم يكتب لها الله الضمانة بالبقاء والحفظ, وستبقى هذه الأمة بوعد الله لا يخلف الله الميعاد: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ), يكل الله حفظ الكتب السابقةِ إلى علماء كل زمان كما قال -عز وجل-: (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)، إلا كتابَ اللهِ فقد كتب الله: سيكون محفوظًا بوعد الله.

كلما تقادمت الأيام, هوى التحريف بالصحف الأولى, وأما كتاب الله:

فآياته كلما طال المدى جددٌ

يزينهن جمالُ العتقِ والقدم

جاء النبيون بالآيات فانصرمت

وجاءنا بحكيمٍ غيرِ منصرم

كلُّ نبي من الأنبياء أعطيَ من الآياتِ ما مثله آمنَ عليه البشرُ, أمَّا محمد بن عبد الله فقد آتاه الله وحيًا أوحاه إليه, وسيكون به من أكثر الأنبياء متبوعًا.

هو المعجزة الكبرى, هو الامتياز الخالد, هو الهدية السماوية، هو الهبّة الإلهية، يُتحدى به العتاة جميعًا أن يجيئوا بمثله أو ببعضه!! قولوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا)، قولوا: (لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). قولوا لهم: ائتونا بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم، ائتونا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، بل: ائتونا بآية وادعوا من استطعتم، ولن تستطيعوا، يخيب دون ذاك السعيُ والجهد والعمر!

إنه التحدي المفتوح، ومن تحداه فهو مفضوح، ذكر البيهقي -رحمه الله- أن معجزاته -عليه الصلاة والسلام- بلغت ألفَ معجزة، وقال غيره: بلغت ثلاثة آلافِ معجزة!! كلُّ هذه المعجزات تغِيضُ عند المعجزة الجُلّى، معجزةِ البقاء والخلود، معجزةِ الجلال والصمود، ذهبت آثارُ أكثرِ تلك المعجزاتِ، ومعجزاتُ الأنبياء من قبله، وبقيت معجزة القرآن لتكون برهانًا على بقاء هذه الأمة، لتكون آيةً على عزتها، لتكون وسامًا فخريًا على شموخها، لتكون آية السطوع على سموقها، لتكون الألق الأزلي على سابغ حضارتها!! لتكون المِنَّة العظمى على أمة محمد بن عبد الله.

سماوية الأمجاد عزت على البلى

سبائِكُها تبقى وإن رغم الكفر

كلُّ أمة فنيت معجزاتها لا يمكن أن تدعيَ البقاء، كلهم سيذهبون، نعم سيذهبون، وتذهبُ كل الأمم وضماناتُ بقائِها للهباء، وستبقى حضارةُ الأمة القرآنية، الحضارةُ التي كتبَ ربُّها لكتابها أن يُختم عليه: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).

يا لله لقلوب تليت عليها هذه الآيات فما تشققت، وما تخددت!

أرأيتم ميثاقًا يتلى أبديّ الحرف وخالده!!

أرأيتم كالقرآن بقاءً يبقى والفاني حاسدُه!!

دَامَتْ لَدَيْنَا فَفَاقَتْ كُلَّ مُعْجِزَةٍ

مِنَ النَّبِيِّينَ إِذْ جَاءَتْ وَلَمْ تَدُمِ

وَمُحْكَمَاتٌ فَمَا تُبْقِينَ مِنْ شُبَهٍ

لذِي شِقَاقٍ وَمَا تَبْغِينَ مِنْ حَكَمِ

مَا حُورِبَتْ قَطُّ إِلاَّ عَادَ مِنْ حَرَبٍ

أَعْدَى الأَعَادِي إِلَيْهَا مُلْقِيَ السَّلَمِ

رَدَّتْ بَلاَغَتُهَا دَعْوَى مُعَارِضِهَا

رَدَّ الغيُورِ يَدَ الْجَانِي عَنِ الْحُرُمِ

بِهَا مَعَانٍ كَمَوْجِ البَحْرِ فِي مَدَدٍ

وَفَوْقَ جَوْهَرِهِ فِي الْحُسْنِ وَالقِيَمِ

فَمَا تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى عَجَائِبُهَا

وَلاَ تُسَامُ عَلَى الإِكْثَارِ بِالسَّأَمِ

قَرَّتْ بِهَا عَيْنُ قَارِيهَا فَقُلْتُ لَهُ

لَقَدْ ظَفِرْتَ بِحَبْلِ اللهِ فَاعْتَصِمِ

بوركت طيوبه، وبورك خلوده، بوركت حروفه وحدوده، هو الشافع المشفع، والماحِلُ المصدق، بالاختصار الطويل: هو كلام الله، وكلام الإله يغني عن الفخر به أنه كلام الإله.

هذه الخطبة عن: ناسجي الحلل!! هل أنتم ناسجوها؟! من ينسجُ الحلل البيضاء يحظ بما أعده الله، أما الباخلون فلا!

عن ناسجي الحلل، عن صانعيها، عن محبيها، عن صادقي الحب معها.

وإذا بحثت عن الصدوق وجدته

رجلاً يصدق حبه بفعال

عن رجال صحبوا كلام الله، فأصحبهم شفاعته، عن رجال تدثروا نور الله بكلامه، فكانوا أنوارًا تمشي في حالك الظلم، عن رجال رضُوا من الدنيا به فأحرف القرآن أنفاسهم، وهي مستقرهم ومقامهم، قرآنيُّون يمشون على الأرض!!

عن ناسجي الحلل..

عن صحبة القرآن، عن طلاب القرآن العظيم، عن طلاب حلق القرآن، عن هذه الأطياف المضيئة التي تتغذى كل يوم على موائد الله، ونحن نقول لها: بوركت أجسادٌ نبتت من موائده! سيكون هذا المنبر بخيلاً وسنكون جميعًا بخلاء ونحن نستحي أن نقول لأحب فئة عندنا وهم طلاب القرآن: أكرمكم الله يا طلاب القرآن، أكرمكم الله وزادكم من أنعمه ونعمائه!!

وماذا عسى هذا المنبر أن يقول عن أهل الله وخاصته؟! ماذا عساه عن قوم نالوا خيرية الله تعالى بتعلم القرآن أو تعليمه!!

من أجلِّ المناظر البشرية سعادة ومتعة وجلالاً وكمالاً وجمالاً لدى أبصار المؤمنين: أن نرى هذه الحلقاتِ القرآنية معقودةً في كل يوم، لم تُعقد إلا للقرآن وبالقرآن وحده!! أن نرى هؤلاء الشباب الذين يغدون كل نهار إلى مساجد أحيائهم، ولا حاديَ إلا القرآن! أن نرى هذه الطلائعَ الشبابية وهي تغزو المساجد في البكرات والآصال لتفتح الدنيا جميعها بالقرآن، أن نرى هذه الوفود: حيا الله هذي الوفود وهي ترتل القرآن كل عشية، وترتل القرآن في الإصباح!

يا ناسجي الحلل البيضاء إن لكم

كرائمًا جادها الرحمن ذو المنن

"يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبّ: حَلِّه، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَة، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبّ: زِدْه، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَة، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبّ: ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْه، فَيُقَالُ لَه: اقْرَأ، وَارْق، وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَة". رواه الترمذي وصححه بعضهم.

هي منة هي نعمة هي غبطة

فخذوا الكرائم يا أولي القرآن

يذهب الناس بالدرهم والدينار، وتذهبون بكلام الجبار!!

يا ناسجي حلل الكرامة: والله ما على وجه الأرض شيء أعزّ على الله من هذا الذي تقضون أوقاتكم به، تقضونه بالقرآن؟! نعمى وكرامة.

يا ناسجي الحلل: ما على أمنيات الأرض شيء أكرم في تحقيقها من تعلم كتاب الله!! أنتم غرباء في هذا الكوكب فطوبى للغرباء!

يا حاملي هذا الكتابَ وآيه

ما أنتمُ وسواكمُ بسواء

أتكونون سواءً؟! كلا والله، فأنتم المضحون بأعماركم في سبيل القرآن، ضحيتم بأوقات الدنيا في سبيله، وضحى سواكم بالقرآن في سبيل الدنيا!! أتكونون سواءً؟! كلا والله!! يا أصحاب التجارات التي لن تبور: إن تجاراتكم مع الله لن تضيع!

يا أغنياء الناس طبتم بالهدى

طيبوا هدىً بالله والقرآنِ

من أنتم؟!

أنتم النور الذي قد شعشعت

أنواره بظلام ليل ساج

يا ناسجي الحلل: والله لجلوسكم في المسجد تتلون كتاب الله وتتدارسونه بينكم خير من دنيا نزف عليها الثبور، وهي ملعونة وملعونٌ ما فيها إلا كتاب الله وما والاه، وعالمًا أو متعلمًا.

يا ناسجي الحلل: قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمةٌ للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فافرحوا هو خير مما يجمعون.

يا ناسجي الحلل: تصنعون النور بالقرآن وتعلُّمه وتعليمه, قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين.

محسودون؟! نعم أنتم محسودون، بل ومغضوب عليكم بهذا القرآن!!

يقول أحد أعداء الإسلام: "من لي بمن يخرج القرآن من صدور أبناء الإسلام"، فيرد أحد الأشقياء ويقول: نأتي إلى المصحف فنمزقه: فيرد صاحبه: "لا، أنى نستطيع تمزيقه ونحن لم نمزقه من قلوبهم، وقلوب أبنائهم!!".

ويقول عدو آخر: "ثلاث ما دامت عند المسلمين فلن تستطيعوا إخراجهم من دينهم: القرآن في صدورهم، والمنبر يوم الجمعة، والكعبة التي يرتادها الملايين من المسلمين، فإذا قضي على هذه فأخبروني".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

في دراسة أجريت على مدارس جدة في أحد الأعوام السابقة، تبين منها أن ثمانية وتسعين من الطلاب الأوائل هم من طلاب الحلقات في المساجد.

هذي المواكب في الطريق يحثها

وعدٌ وتحفز سيرها الغرفات

تتوارث الهدي المطهر ماهر

عن ماهر تزكو بها الخلوات

وتقيم في سفر طويل لا ترى

فيه فتوراً أو يعيق سباتُ

هذا الكمال إذا أريد بلوغه

هذي النجاة إذا أريد نجاة

وهناك أكثر من سبعين دراسة أجنبية وإسلامية، جميعها تؤكد على أهمية قراءة القرآن في رفع المستوى النفسي للإنسان واستقراره وضمان الطمأنينة له. كما توصلت دراسات أجريت في المملكة إلى نتيجةٍ تؤكد دَوْرَ القرآن الكريم في تنمية المهاراتِ الأساسية لدى طلاب المراحل التعليمية، والأثر الإيجابي لحفظ القرآن الكريم على التحصيل الدراسي لكل المراحل.

والباحث الدكتور عبد الله الجغيمان قبل أيام يقول: في دراسة لي مع بعض الزملاء على عينة من طلابنا, وجدنا أن هناك ارتباطًا وثيقًا موجَبًا بين مستوى القدرات الذهنية التحليلية للأطفال والانخراط في برامج تعليم القرآن.

والله يقول قبل هذه الدراسات: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، رحمة للمؤمنين فحسب، ويقول -عز وجل: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

ناسجو الحلل: هم في كل مسجدٍ ابنُ حضير، تجول الملائكة لصوته، سلامًا يا خلفاء ابن حضير؛ كان أسيد بن حضير -رضي الله تعالى عنه- يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده، وله ولد قريب منها، فجالت الفرس، فسكت أسيد عن القراءة، فسكنت الفرس، فقرأ أسيد فجالت الفرس مرة أخرى، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس مرة ثالثة، فخاف أن تصيب ولده، فانصرف ثم رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فإذا هي مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فلما أصبح أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: "أتدري -يا أسيد- ما ذاك؟!"، فقال: لا، قال: "تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت، لأصبحتْ ينظر الناس إليها؛ لا تتوارى فيهم".

ناسجو الحلل، لا يُعرفون بأنسابهم، ولا بأحسابهم، ولا ببلدانهم، ولا بأموالهم، ناسجو الحلل يُعرفون بالقرآن ولا غير القرآن.

ناسجو الحلل، رفعهم الله, ولا ضير فإن هذا الكتاب يرفع الله به أقوامًا ويضع به آخرين؛ فَعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَة أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ -رضي الله عنه- وكان يستعمل نافعًا على مكة، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ مكة يا نافع؟! فَقَالَ نَافِعٌ -رضي الله عنه-: استعملت عليهم ابْنَ أَبْزَى. قَالَ عمر -رضي الله عنه-: وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى؟! قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ عُمَرُ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَى مكة مَوْلًى من الموالي؟! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ -عز وجل-، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِض. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَالَ: "إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ". وأيم منزِّل القرآن والتوراة والإنجيل، ما ساد عطاءٌ ولا مجاهدٌ ولا عكرمةٌ ولا الحسنُ البصري ولا مكحولُ -وهم موالٍ كانوا ينادى عليهم أو على آبائهم بأسواق النخاسة- ما سادوا إلا بكتاب الله.

عطاء؟! عطاء بن رباح؟! ذلك الأفطس الأسود الأعور الأشل الأعرج الأعمى!! أتعنيه؟! أتعني عطاءً؟! نعم حفظ عطاءٌ القرآنَ ثم أقبل على الصحابة يتعلم منهم علم الكتاب والسنة، حتى أصبح مرجع أهل مكة، بل مرجع كل المسلمين في المناسك, وكان يُنادى في مواسم الحج بأمر الخليفة العام: ألا يفتي في الحج إلا عطاء.

يا ناسجي الحلل: يا طلاب القرآن، يا معلمي القرآن، يا إداريي المجمعات، يا كل من عمل لإخراج جيل يؤمن بدواء القرآن في قلوب الأجيال: أنتم سكينة المجتمع، أنتم طمأنينته، أنتم وقاره!! فأفيضوا على الناس هدايات ربهم.

هذه الأنفسُ عطشى للهدى، ظامئات لمعين المنبع!

يا ناسجي الحلل البيضاء إن لكم

كرائمًا جادها الرحمن ذو المنن

وإني أخص طلاب القرآن فأقول: يا طلاب القرآن: اشمخوا بالقرآن عاليًا، وارفعوا به رؤوسكم ورأس أمتكم ورأس حضارة القرآن!! القول الذي تتلونه هو قول فصل، وما هو بالهزل.

يا طلاب القرآن: أنتم القدوات الحية، فخذوا الكتاب بقوة، واهدوا بآي الله كل الناس، ما ظمأت البشرية الظمأَ الطويل إلا حين غاب كتاب الله عنها، فأوردوها بالقرآن.

اقرأ لينجلي الظلام عن الربا

وليسمع الغافي زواجر هود

اقرأ ليرجع من بني الإسلام من

أصغى مسامعه إلى التلمود

اقرأ لعل الله يوقظ غافلاً

من قومنا ويلين قلبُ عنيد

اقرأ ليرجع ظالم عن ظلمه

ويقر بالإيمان كلُ جحود

اقرأ ليسكت مطرب مترنح

قتل الحياء على رنين العود

ذبحوا مشاعرنا بكل قصيدة

مسكونة بخيال كل بليد

إبليس باركهم وسار أمامهم

متباهيًا بلوائه المعقود

اقرأ ليسمع كلُّ من في سمعه

وقرٌ من الأقصى إلى مدريد

اقرأ ليخرج جيلنا الحر الذي

يبني جوانب صرحنا المعهود

بالدين بالقرآن لا بثقافة

غربية أو مبدأ مردود

يا قارئ القرآن إن قلوبنا

عطشى إلى حوض الهدى المورود

يا قارئًا شيد من الإخلاص قصرًا شامخًا

يدني على عينيك كلَّ بعيد

يا طالبَ القرآن: القدوة لا يتبع المتشابه، ولا يتبع الرخيص من الأقوال والأفعال, ولا يخوض في الأوحال كما خاض غيره. طالب القرآن ساعاته في الخلوات هي ساعاته في الإعلان، لا ينتهك محارم الله، ولا يخون أوامر الله.

طالبُ القرآن: ساعاته في مسامرة القرآن في لياليه، أكثر من ساعاته مع الجوال وتضييع الأوقات فيه، ولا اقتران!!

يا طالب القرآن: لتكن استقامتُك على الهدى لا استقامة جوفاء!! اتق الله حيثما كنت وخالق الناس بخلق حسن!!

واتق الله؛ فقد شكا الشافعي إلى وكيع سوء حفظه، فأرشده إلى ترك المعاصي..

وقال اعلم بأن العلم نور

ونورُ الله لا يؤتاه عاصي

والمعاصي جالبة للردى، وتستحوذُ على الإنسان حتى تنسيَه ذكر الله!!

أخلص نواياك يا طالب القرآن، أخلصها يا معلِّم القرآن، يا كل عامل في صرح الهدايات: أنت بالقرآن تحكي أوامر القرآن ونواهيه، فلتكن أخلاقُك القرآن، فنبي القرآن -عليه السلام- كان خلقه القرآن.

ليغدو لسانُك طيبًا، وسمتُك طيبًا، وفعلُك طيبًا!! أنت تحمل تنزيلاً من حكيم حميد.

وكلما أصبت كان لك أجرُك مرتين، أجر إصابتك، وأجر قدوتك للناس، وكلما أخطأت كان وزرك وزرين.

يا ناسجَ الحلل: الأترجة ليست كالحنظلة، فاقرأ القرآن وتدبره واعمل بما فيه، وإلا تفعل تكن من المغضوب عليهم.

يا طلاب القرآن، يا معلمي القرآن، يا كل عاملٍ في صرح الهدايات: الحمل عليكم اليوم أشد، وهو أعتى وهو أقسى، وهو أنكى، أنتم تحاولون اليوم إخراج الناس من عبادة مسارح الدنيا وزخارفها، إلى هدى وطمأنينة الكتاب العظيم.

أصبحتم في زمان، قد استعدت عليكم الدنيا وبنوها!! فاستعينوا بالله واصبروا.

كلما اشتدت الغربة كبر الأجْر، فصبرًا في مجال الخيرية.

ويا أولياء الأمر -والأمر العظيم سيستبين-:

اهدوا بنيكم للهدى

في ظلها الرشد المتين

وإذا جاء الآباء والأمهات رَبَّهُم يوم القيامة، وكان ابنُهم ممن عَلَّمُوه الكتاب العظيم، فاستمعوا إلى هذه البشارة العظيمة التي يبشرهم رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- بها حيث يقول: "وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة -حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُه- كَالرَّجُلِ الشَّاحِب، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟! فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُك. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟! فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُك. فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآن، الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِر، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَك. وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِه، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَة. فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِه، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِه، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَار، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لاَ يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولاَنِ: بِمَ كُسِينَا هَذِه؟! فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآن. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأ، وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأ، هَذًّا كَان، أَوْ تَرْتِيلاً".

طوبى لكم يا أهل القرآن، يا أهل الله وخاصته، طوبى لكم يا معلميه، طوبى لكم يا كل عامل في هذا الصرح المبارك، طوبى لكم يا داعمي تعليم القرآن بأموالكم، ولما كان شرف الإنفاق من شرف المنفَقِ عليه، كان للإنفاق على هذه المواكب المباركة أعظم الأجور، وأعظم الدثور، فلا يحقرن أحدكم من المعروف شيئًا.

يا طالب القرآن: فخذ الكتاب بقوة إن رمت هدي الله والقرآن!! يا معلم القرآن: الخيرية بيدك فاغترف ما شئت!! فأسأل الله أن يبارك لك وأن يبارك فيك.

ويا كل عامل للقرآن: ذهب المفطرون اليوم بالأجر!! إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

ويا أيها الداعمون: تنفقون مما سيفنى لما يبقى!! وكل مال يخرج من حساباتكم المؤقتة، ينزل في الحسابات الدائمة!!

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا وذهاب غمومنا وهمومنا، وقائدنا ودليلنا إلى جناتك جنات النعيم، اللهم علمنا منه ما جهلنا, وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا!!