السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن من التواضع في معاشرة الخلق؛ أن يمشي المؤمن بين الناس هونًا، وأن يخفض جناحه لمن يلقاه، وأن يرضى أن يأكل ما حضر من طعام، ويلبس ما تيسر له من اللباس، ويمتزج على من يلتقي من البشر دون كبر، أو أن يدخله بقية من عجب آو تساوره نظرة من استعلاء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الخالق الرازق، المالك المدبر, خلق كل شيء، وأتقن كل شيء: (هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [الحشر:24] نحمده حمدًا كثيرًا، ونشكره شكرًا مزيدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, خضع كل موجود لحكمه وأمره، وأذعن المؤمنون لشرعه (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) [الرُّوم:26]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أعلم الخلق بالله تعالى، وأكثرهم إذعانًا وانقيادًا له، وأشدهم خشية وخوفًا منه، ومع ذلك يأمره الله تعالى أن يعلن استسلامه له: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ البَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ) [غافر:66] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأسلموا له وجوهكم، وأنيبوا إليه بقلوبكم، وأخلصوا له في أعمالكم, أقيموا كتابه، وعظمّوا أمره ونهيه، واستسلموا لدينه، وتحاكموا لشريعته؛ فإن الاستسلام لله تعالى سبيل الهدى والرشاد، وطريق الفوز والفلاح (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:112].
أيها الإخوة: هنالك العديد من الأخلاق الحميدة التي حبا الله -سبحانه وتعالى- بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتي يجب أن يتحلى بها المسلمون، ومنها التواضع, والتواضع هو عدم التعالي والتكبر على أحد من الناس، بل على المسلم أن يحترم الجميع مهما كانوا فقراء أو ضعفاء أو أقل منزلة منه.
وقد أمرنا الله -تعالى- بالتواضع، فقال -سبحانه-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 215]، وهذا أمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- والأمر له أمر لأمته من بعده إذ هو القدوة، وبيّن ربنا -سبحانه- أن ذلك من أسباب جمع القلوب عليه فقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
والتواضع في الحقيقة هو إلانة الجانب مع عزة في النفس وإباء للضيم, أي تواضع للناس جميعًا. والتواضع من الصفات التي ترفع العبد في درجات الجنة، قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83]، فكلما كان العبد خاضعًا للحق محبًا للشرع متبعًا له متواضعًا للخلق كان أقرب من رضا الله -سبحانه-.
أيها الإخوة: والتواضع من خير الخلال وأحب الخصال إلى الله وإلى الناس, وهو موجب للرفعة، وباعث على التآلف ومحقق للحب والود، قال الله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63]، وبدأ بالتواضع في ذكر صفات عباد نسبهم إليه، وهذا يدل على أهمية خُلق التواضع.
وفي مقابل صفات الصالحين يحذر ربنا من صفات المتكبرين فيقول الله تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 18].
أيها الإخوة: وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أهمية التواضع وفضله، وأخبر أن الله تعالى أوحى إليه بضرورة تواضع الناس فيما بينهم وأن يبتعدوا عن الفخر والبغي، فعن عياض بن حماد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد" [مسلم(2865)]. فمن تواضع لله؛ لم يتكبر على الخلق وانقاد للحق من أي أحد جاء به، واتبع الشرع ورفق بالخلق، وأحسن مصاحبتهم.
وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تواضع الأفراد رفعة لهم، وهو غير ما يتبادر إلى ذهن ضعيفي النفوس أن ذلك ذلة، وأنه يعكس عند الناس صورة سيئة عن المتواضع، وهذا غير صحيح، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" [مسلم(2588)].
وكما بيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضل التواضع وأنه أهله في الجنة، فقد حذر -صلى الله عليه وسلم- من الكبر والاستطالة والبغي وأن هذه صفات أهل النار، فعن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار: كل عتل، جواظ مستكبر" [البخاري(4918) ومسلم(2853)].
عباد الله: وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- المثل بنفسه في التواضع الجم، وحسن الخلق الفريد، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال: "يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى اقضي حاجتك فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها" [مسلم(2326)]، وهذا من تواضعه مع الخلق -صلى الله عليه وسلم-.
وجاءه رجل يرتعد يوم فتح مكة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هوّن عليك فإني لست بملك إنما إنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" [ابن ماجه (1260) وصححه الألباني].
وفي معاشرة الناس لا يستكبر عن دعوة العبد والحر ولا يرفض الهدية، ويقبل أي طعام قُدّم إليه -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو دُعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت" [البخاري(2568)]، فانظر إلى مدى تواضعه -صلى الله عليه وسلم-!.
والأمثلة على تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من أن تُحصر. ويالله العجب! كيف لا ينظر أمثال البشر إلى سير الأسلاف من قبلهم، وعلى رأسهم إمامنا وقدوتنا سيد ولد آدم، ذو النسب الرفيع، والجاه الوسيع، فها هو قد نام على الحصير وابتسم في وجه من أوجعه، ووقف إلى جانب امرأة في الطريق تشكو إليه، وشرب مع أصحابه في إناء احد، وكان آخرهم شرباً، كما أكل مع أهل الصفة، ثم دخل مكة في الفتح متواضعاً، ومشى في الأسواق والناس من حوله يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
عباد الله: وحقيقة التواضع؛ خضوع العبد لصولة الحق، وانقياده لها، وخفض الجناح، ولين الجانب، والتواضع خلق جميل ينشأ من معرفة جلال الرب وعظمته، ومعرفة نعمه وإحسانه، ومعرفة نقص الإنسان، فيتولد التواضع من الإنسان الضعيف الناقص لربه ذي الجلال والإكرام. قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "لا يحْقِرَنَّ أحدٌ أحدًا من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير". ولما سئل الفضيل عن التواضع، قال: "أن تخضع للحق وتنقاد إليه، ولو سمعته من صبي قبلتَه، ولو سمعتَه من أجهل الناس قبلته". وقيل: "تاج المرء التواضع".
أيها الإخوة: التواضع على ثلاث درجات:
الأولى: التواضع للدين، وهو الانقياد والتسليم والإذعان لكل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فلا يعارض شيئاً مما جاء به، ولا يتهم دليلاً من أدلة الدين، بحيث يظنه ناقص الدلالة أو غيره كان أولى منه، ومن عرض له شيء من ذلك فليتهم نفسه، وليعلم أن الآفة منه لا من الدليل.
وإذا رأى العبد من أدلة الدين ما يشكل عليه فليعلم أنه لعظمته وشرفه لم يدرك معناه، وأن تحته كنزاً من كنوز العلم لم يؤت مفتاحه، ويقدم نصوص الكتاب والسنة على آراء الرجال، ولا يجد إلى خلاف النص سبيلاً البتة لا بباطنه ولا بلسانه، ولا بفعله ولا بحاله.
الثانية: أن ترضى بما رضي الحق به لنفسه عبداً من المسلمين أخاً، وأن لا ترد عن عدوك حقاً، وأن تقبل من المعتذر معاذيره، فإذا كان الله رضي أخاك المسلم لنفسه عبداً، أفلا ترضى أنت به أخاً؟، فإن عدم رضاك به وقد رضيه سيدك الذي أنت عبده هو عين الكبر، وأي قبيح أقبح من تكبر العبد على عبد مثله لا يرضى بأخوته، وسيده راض بعبوديته؟!.
كما تقبل الحق ممن تحب وممن لا تحب، فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك، فلا تمنعك عداوته من قبول حقه، ولا من إيتائه إياه، ومن أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كان أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله تعالى.
وعلامة الكريم أنه إذا رأى الخلل في شخص عذره لا يوقفه عليه ولا يحّاجه، بل يصفح عن المعتذر فوراً، ويقول: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدر لا بدَّ واقع ونحو ذلك.
الثالثة: أن تتواضع للحق -سبحانه-، وتعبده بما أمرك به على مقتضى أمره، لا على ما تراه من رأيك، ولا يكون الباعث لك على عبادته داعي العادة كما هو باعث من لا بصيرة له، بل يكون باعثه على العبودية لربه مجرد الأمر، ولا ترى لنفسك حقاً على الله لأجل عملك, بل تكون مع الله بالعبودية والفقر المحض، والذل والانكسار، فمتى رأى لنفسه على ربه حقاً صارت معلولة، وخيف منها المقت، وخشي عليها الطرد والإبعاد.
فالتواضع ملاحظة للذنب، وندم على التقصير قال تعالى (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) [الزمر: 56]، وهذا يزداد على حسب علم المرء (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، وقال تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9].
ولا ينافي هذا ما أحقه الله وأوجبه على نفسه من إثابة عابديه وإكرامهم، فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره، وجوده وإحسانه، لا باستحقاق العبيد، فلا يدخل أحد الجنة بعمله أبداً، ولا ينجيه من النار كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُدْخِلُ أحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَلا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَلا أنَا، إِلا بِرَحْمَةٍ مِنَ الله" [مسلم (2816)].
وعن ركب المصري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "طوبى لمن تواضع من غير منقصة, وذل في نفسه من غير مسكنة, وأنفق مالا جمعه في غير معصية, ورحم أهل الذلة والمسكنة, وخالط أهل الفقه والحكمة, طوبى لمن ذل نفسه وطاب كسبه وصلحت سريرته وحسنت علانيته وعزل عن الناس شره, طوبى لمن عمل بعلمه وانفق الفضل من ماله وامسك الفضل من قوله" [الطبراني في المعجم الكبير (4615) وضعفه الألباني].
أيها الإخوة: إن التواضع اتهام للنفس واجتهاد في علاج عيوبها وكشف كروبها قال الله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس: 9]، إذ إن قبول الأعمال معلق بالتقوى (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27]، ومعلق بالإخلاص: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" [البخاري(1)]، وفي غيابهما لا يكون لصدقة الكريم ولا لعلم القارئ ولا لقتل الشهيد اعتبار، بل يكون هؤلاء الثلاثة أول من تُسعّر بهم النار، ولهذا كان أيوب السختياني يقول: "والله ما أزعم أن لي عملاً أنا على يقين من أني قد أخلصت فيه"، قال الذهبي: "والله ولا أنا". ولعل من هذا الباب مقالة سليمان بن مهران الأعمش: "والله ما أرى أن عيني عمشت إلا من فرط ما يبول الشيطان في أذني"، مع أنه كان حريصاً على قيام الليل!.
والتواضع مداومة على استحضار الآخرة وميل إلى احتقار متاع الدنيا، وحرص على الفوز بالنجاة كما كان عمر -رضي الله عنه- يقول: "أين تذهب عنكم (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) [الأحقاف: 20]؟", وقد تعلم ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال له: "أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة"؟ [البخاري (243)].
قال رجل لآخر: علمني التواضع فقال: إذا رأيت من هو أكبر منك فقل: سبقني إلى الإسلام والعمل الصالح فهو خير مني وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل سبقته إلى الذنوب والعمل السيئ فأنا شر منه.
ومن التواضع عدم الافتخار بالآباء والأجداد ومن التواضع عدم البغي والاعتداء، والتواضع يمكن الدعاة من جمع الأنصار ويحببهم إلى الناس، فيستمعون إليهم ويتأثرون بهم، ويتأسون بأفعالهم.
أيها الإخوة: إن من التواضع في معاشرة الخلق؛ أن يمشي المؤمن بين الناس هونًا، وأن يخفض جناحه لمن يلقاه، وأن يرضى أن يأكل ما حضر من طعام، ويلبس ما تيسر له من اللباس، ويمتزج على من يلتقي من البشر دون كبر، أو أن يدخله بقية من عجب آو تساوره نظرة من استعلاء، ولقد جعل الله سبحانه وتعالى من أخص أوصاف تلك الأمة التي سيبعثها إذا شاء سبحانه، إنها متواضعة فيما بينها شديدة على أعدائها قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54]. وقد وصف الله -عز وجل- عباده الذين هداهم للإيمان فقال سبحانه: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ) [المائدة: 54].
فالتواضع يجعل الداعية محبوبًا في قومه وبيئته ذا أثر فعّال بينهم، وقوامه عليهم صفة التواضع وخفض الجناح، فالكبر يشكل جدارًا وحاجزًا بين الداعية والناس، بل ويجعل الداعية معزولاً عن مجتمعه غير مألوف ممن حوله.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ | على صفحات الماء وهو رفيعُ |
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه | إلى طبقات الجو وهو وضيعُ |
قال ابن الحاج -رحمه الله-: "من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى؛ فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول، ألا ترى أن الماء لما نزل إلى أصل الشجرة صعد إلى أعلاها فكأن سائلاً سأله: ما صعد بك هنا أعني في رأس الشجرة، وأنت تحت أصلها؟ فكأن لسان حاله يقول: من تواضع لله رفعه".
اللهم اجعلنا ممن تواضع لعظمتك، وحسن خُلقه مع عبادك، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أنه لا ينبغي لأحدٍ من المسلمين أن يمتنع عن التواضع أو يجبن عن تحقيقه؛ إذ به تُكتسب السلامة، وتُورث الألفة، ويُرفع الحقد، ويشعر الجميع بحقوقهم تجاه غيرهم والعكس بالعكس، ألا فإن تواضع الشريف إنما هو زيادة في شرفه، كما أن تكبر الوضيع إنما هو زيادة في ضعته، كالعائل المستكبر الذي لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب اليم.
فيا سبحان الله!؛ كيف لا يتواضع من خلق من نطفة مذرة، وآخره يعود جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة أجلكم الله؟! إنه لو لم يكن في التواضع خصلة تحمد إلا أن المرء كلما كثر تواضعه كلما ازداد بذلك رفعة لكان الواجب على كل واحدٍ منا ألا يتزيا بغيره، ولا جرم -عباد الله- فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من امرئ إلا وفي رأسه حَكَمَة -يعني كاللجام- والحكمة بيد ملك إن تواضع قيل للملك: ارفع الحكمة، وإن أراد أن يرفع قيل للملك: ضع الحكمة" [رواه الطبراني والبزار وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (538)].
ألا فليت شعري ما الذي يحمل الكثيرين على أن يركنوا إلى العجب والأنفة، وينأوا بأنفسهم عن التواضع وخفض الجناح، أفيكون السبب في ذلك فطرة يفطر عليها المتكبر فيدّعي جبليتها وصعوبة الخلاص منها؟
أم أن ذلك نقيصة يجدها المرء في نفسه ثلمة يسد ثلمتها بعجبٍ وفخرٍ يحتال بهما على نفسه؟ ربما يكون مثل هذا، ولكن لمن جهل حقيقة الشرف والرفعة وأنها في التواضع لا في الفرار منه بحجة سد النقيصة أو قضاء الوطر.
عباد الله: إن التواضعُ نتيجتُه سلامةٌ منَ الفَخْرِ, والله تعالى لا يحبُّ الفَخْرَ من عبده سواء كان في الثّيابِ أم في الأثَاثِ أم في المسكَنِ أم في نحو ذلك، بل الذي يعمل العمل للفخر فعليه ذنب كبير، فهؤلاء الذين يلبسونَ الثيابَ الفاخرةَ للفخرِ أو يبنونَ البناءَ الجميلَ للفَخر، أو يركبونَ المركوباتِ النفيسةَ الجميلةَ للفَخر، لو عجَّلَ اللهُ عقوبتَهم لعاقَبَهم في الدُّنيا قبلَ الآخرة, لكنَّه يُؤخِّرُ عذابَ أكثرِ الخلقِ إلى الآخرة، وقد يُظهرُ اللهُ -تبارك وتعالى- عقوبةً على البعضِ في هذه الدنيا ليعتبر بها من شاء الله له أن يعتبر.
يحكى أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان يحلب الغنم لبعض فتيات المدينة، فلما تولى الخلافة قالت الفتيات: لقد أصبح الآن خليفة، ولن يحلب لنا، لكنه استمر على مساعدته لهن، ولم يتغير بسبب منصبه الجديد.
ويحكى أن ضيفًا نزل يومًا على الخليفة عمر بن عبد العزيز، وأثناء جلوسهما انطفأ المصباح، فقام الخليفة عمر بنفسه فأصلحه، فقال له الضيف: يا أمير المؤمنين، لِمَ لَمْ تأمرني بذلك، أو دعوت من يصلحه من الخدم، فقال الخليفة له: قمتُ وأنا عمر، ورجعتُ وأنا عمر, ما نقص مني شيء، وخير الناس عند الله من كان متواضعًا.
عباد الله: فاقد التواضع إنما هو امرؤ استعبده الكبر الغائل، والعجب الغالب، فهو عنيد صلد، به يخبو قبسه ويكبو فرسه، فاقد التواضع عقله مفقود؛ لأنه بعجبه وأنفته يرفع الخسيس ويخفض النفيس، كالبحر الخضم تسهل فيه الجواهر والدر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش، أو هو كالميزان يرفع إلى الكفة ما يميل إلى الخفة.
فاقد التواضع عديم الإحساس، بعيد المشاعر، شقي لا يتعظ بغيره، غير مستحضرٍ أن موطئه قد وطئته قبله آلاف الأقدام وأن من بعده في الانتظار، ألا وإنه ما رئي أحدٌ ترك التواضع وترفع على من هو دونه إلا ابتلاه الله بالذلة لمن فوقه، ومن استطال على الإخوان فلا يثقن منهم بالصفاء.
ومن تكبر فلم يتواضع فقد رمى بثقله في ثلاث خصالٍ مذمومة:
أولها: أنه لا يتكبر على أحدٍ حتى يعجب بنفسه، ويرى لها الفضل على غيرها.
وثانيها: ازدراؤه بالناس من حوله؛ لأن من لم يستحقر الناس لم يتكبر عليهم، وكفى بالمستحقر لمن أكرمه الله بالإيمان طغياناً، وأنى للمستكبر أن يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!.
وثالثها: منازعة الله -جل وعلا- في صفاته؛ إذ الكبرياء والعظمة له وحده، يقول -سبحانه- في الحديث القدسي كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما عذبته" [أبو داود(4090) وصححه الألباني].
عباد الله: من تدبر في نفسه وفيمن حوله من الكون كله وجد الكون ناطقًا بحمد الله -تبارك وتعالى-، فالحمد كله لله -سبحانه- والشكر كله لوجه الله الذي ما في العالمين من نعمة فمنه وحده لا شريك له ويقلبنا باستمرار بالليل والنهار في عظيم بحار ومحيطات وخزائن رحماته وعطاياه التي لا تحصى ولا تعد بغير حولٍ ولا قوةٍ ولا شيء منا.
فتواضعوا -أيها الإخوة- لربكم، وتعاونوا مع إخوانكم، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولينوا في أيدي إخوانكم.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.