الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
والرقيب -سبحانه- هو المطلع على ما دار في الخواطر، القريب من الأسرار، والمجيب عند الاضطرار، المطلّع على الضمائر، والشاهد على السرائر، الحاضر الذي لا يغيب، والرقيب الذي يسبق علمه ورؤيته جميع المخلوقات، يعلم ويرى، ولا يخفى عليه السر والنجوى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي غمر العباد بإنعامه، وعمّر قلوب عباده بأنوار الدين وأحكامه، وتعهدهم بما شرع لهم بلطيف حكمته، سبحانه هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على كل جارحة بما اجترحت، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض تحركت أو سكنت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الكرام.
أما بعد:
معاشر المسلمين: بادروا إلى التقوى في جميع الأمور، واتقوا الله ما استطعتم، وحاسبوا أنفسكم, واعلموا علم اليقين أن الله رقيب عليكم، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه.
أيها الإخوة: ماذا لو شعر الإنسان أن أحدًا يتابعه ويراقبه في صحوه ومنامه، يسير معه إذا سار، ويقف إذا وقف، يتتبع سائر أعماله، وكيف تصف شعور إنسان متهم في أمرٍ ما، ووُضع تحت المراقبة، يراقبه بشرٌ مثله، يراقب جوارحه الظاهرة، ولا يعلم ما يُخفيه بداخله، يراقبه بشر ضعيف، يسهو، ويغفل، ويفتر، ويضعف، وينام، ومع ذلك يرتعد الشخص المراقَب الموضوع موضع الاتهام، وهذه رقابة بشر لبشر.
فما بالنا بالرقيب -تبارك وتعالى- الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فمهما أسرَّ الناس في نفوسهم، وحرصوا على إخفاء أعمالهم، فإن الرقيب العلي الأعلى معهم يراهم ويطلع عليهم، ويعرف ما يسرّون، وما يعلنون، وما يقولون، وما يكتمون، فلنستحِ من الرقيب الذي معنا، ولا يخفى عليه شيء من أعمالنا وخواطرنا، ذلك الرقيب العظيم هو رب العالمين -جل جلاله- وتقدست أسماؤه.
واعلموا -عباد الله- أن الرقيب -سبحانه- هو المطلع على ما أخفته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، فلا أحد من الخلق ينفلت من رقابة الله, قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا), وقال -سبحانه-: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، ولذلك كانت مراقبة العبد لربه من أعظم أعمال القلوب، نسأل الله أن يصلح لنا قلوبنا وأعمالنا..
وتيقنوا -إخواني- أن رقابة الله على عباده رقابة شاملة، ورقابة إحاطة, تشمل أقوالهم وأفعالهم، وحركاتهم وسكناتهم، وما يجول في قلوبهم وخواطرهم, قال -سبحانه-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 235]، غير أنه -سبحانه- لا يأخذنا بما في القلوب، ما لم نطبقها بجوارحنا, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ" [متفق عليه].
وإن استشعار مراقبة الله -سبحانه- في كل وقت وآنٍ هو الذي جعل كثيرًا من الصالحين يحاسبون أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة، وجعل وَجَلَهم دائمًا, روى أهل السير أن هارون الرشيد كان يسعى بين الصفا والمروة، وكان معه واعظ، فإذا به يعظه بهذه المعلومة العجيبة، يقول: يا أمير المؤمنين! أترى هذه الرؤوس أمامك؟ قال نعم. قال كل منهم يحاسب عن نفسه، إلا أنت، فإنك ستُحاسب عنهم جميعًا، فبكى بكاء مرًّا -رحمه الله-.
أيها المسلمون: اعلموا أن الله -سبحانه- هو الذي خلق الإنسان، وهو أعرف بتركيبه وسرّه، فالعبد مكشوف السر لخالقه العظيم، العليم بمنشئه وحاله ومصيره، وهو -سبحانه- أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد الذي يجري فيه الدم، قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16]، فالله أقرب لعبده من حبل وريده، وهو عرق مكتنف لثغرة النحر، وهذا أقرب شيء إلى الإنسان، ومن هنا يستلزم على العبد أن يراقب خالقه، المطلع على ضميره، القريب منه في جميع أحواله؛ بحيث يستحي منه أن يراه حيث نهاه، أو يفتقده حيث أمره، فسبحان الله ما أعظم هذه القبضة المالكة، والرقابة الشديدة المباشرة لجميع ما في هذا الكون من خالقه الرقيب الرحيم -سبحانه-.
وانتبهوا -أيها المسلمون- إلى أننا لو عممنا شعار "الله رقيب"، في الحياة لتغيرت أمور كثيرة في حياتنا، ولأصبح الراعي في الصحراء الذي لا يراه فيها أحد يراقب الله –سبحانه وتعالى- في تصرفاته وحركاته، فحين طُلب منه شيء من قطيعه الذي يرعاه، فقال لمن طلبه بعد أن قال له: إن سيدك لا يرانا، فرد قائلاً: فأين الله؟!!.
قد يستخف بعضنا بهذا الراعي، وهو لا يدري أن كل واحد فينا راعٍ, لكننا لا نرعى الغنم, بل ما هو أعظم مسؤولية ورعيًا من الغنم، فعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" [البخاري (893)], فهل راقبنا الله في هذه المسئوليات الملقاة على عواتقنا شئنا أم أبينا؟ الله المستعان.
يا عباد الله: أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الرقيب، وقد ورد ذلك في عدة مواضع من القرآن العظيم، ومن ذلك قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا) [الأحزاب: 52]، أي: مراقبًا للأمور، وعالمًا بما إليه تؤول، وقائمًا بتدبيرها على أكمل نظام، وأحسن إحكام، ولم يزل عليكم رقيبًا حفيظًا، محصيًا عليكم أعمالكم، ومتفقدًا أحوالكم، لا يغيب عما يحفظه، ولا يغفل عما خلقه. وأخبرنا -تبارك وتعالى- أن لا أحد من الخلق ينفلت من رقابة الله, قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1], وقال -سبحانه-: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج: 9].
ومن مواضع ذكر اسم الله الرقيب قوله -سبحانه- عن عيسى ابن مريم -عليه السلام-: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد) [المائدة: 117]. وقال -تبارك وتَعَالَى-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]. وكل من راقب الله تعالى في أمره، خافه واتقاه.
عباد الله: لم يرد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن وصف ربنا -سبحانه- باسمه الرقيب نصًّا، وإن كان ورد بالمعنى، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: "كَانَ رَجُلاَنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيل مُتَآخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلي الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلي ذَنْبٍ، فَقَال لهُ: أَقْصِرْ، فَقَال: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَليَّ رَقِيبًا؟! فَقَال: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لكَ، أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّة، فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالمِينَ، فَقَال لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَوْ كُنْتَ عَلى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟! وَقَال لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَال لِلآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلي النَّارِ". قَال أَبُو هُرَيْرَةَ:" وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لتَكَلّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ". [أبو داود 4901 وصححه الألباني].
ولما سُئل الرسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن مرتبة الإحسان، وهي من أعلى مراتب الدين، قرنها بالمراقبة، فقَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" [البخاري (50) ومسلم 9]، لذا فمن أحسن الحسنات مراقبة الرقيب عند خطرات القلوب، وأفضل القربات محاسبة النفس للحسيب، واستجابتها بطاعة الحبيب. ولما سُئل المحاسبي عن المراقبة؟ قال: "أولها علم القلب بقرب الله تعالى".
أيها المسلمون: الرقيب لغةً هو المطلع على ما أكنَّته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت فلا يغيب عنها ولا تغيب عنه، الذي حفظ المخلوقات، وأجراها على أحسن نظام، وأكمل تدبير. والرقيب -سبحانه- هو المطلع على ما دار في الخواطر، القريب من الأسرار، والمجيب عند الاضطرار، المطلّع على الضمائر، والشاهد على السرائر، الحاضر الذي لا يغيب، والرقيب الذي يسبق علمه ورؤيته جميع المخلوقات، يعلم ويرى، ولا يخفى عليه السر والنجوى. فوسع سمع الله جميع المسموعات، وبصره جميع المبصرات، وأحاط علمه بجميع المعلومات الجليّة والخفية، وكل الأفعال الظاهرة بالجوارح.
والرقيب -سبحانه- هو الذي يرصد أعمال العباد وكسبهم، يرى كل حركة أو سكنة في أبدانهم، ووكل بهم ملائكته يرصدون أعمالهم، ويحصون حسناتهم وسيئاتهم، قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار: 10- 12]. فهو -سبحانه- الرقيب على كل ما في الكون العظيم، يستوي عنده الصغير والكبير، والظاهر والباطن، والقريب والبعيد، والكليات والجزئيات، والأسرار والخفيات، في الأرض والسموات.
أيها المؤمنون: إن مراقبة الرقيب -سبحانه- تعني أن يبحث العبد عن رضا الله في كل لحظة ولفظة، ويتقي غضبه وسخطه وأن يترك ما نهى الله عنه، فالرسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سئل كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن الإِحْسَان؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" [البخاري 50، ومسلم 9].
والمراقبة -إخوتاه- هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق -سبحانه- على ظاهره وباطنه، وحضور القلب بين يدي الله تعالى، وعدم الانشغال عنه، سواء داخل العبادة أو خارجها، وامتلاء القلب بعظمة الله -جل جلاله-، واستشعار قربه منه، وهذا القرب وهذا الدنو من الله تعالى يبثّ في القلب سرورًا عظيمًا، وأنسًا وفرحًا، وهذا الأنس والسرور يبعث العبد على دوام السير إلى الله عزَّ وجلَّ، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته، والتلذذ بعبادته وطاعته. ومن لم يجد هذا السرور، ويشعر بطعم تلك اللذة، فليتَّهِم إيمانه وأعماله، فإن للإيمان حلاوة، من لم يذقها، فليرجع وليقتبس نورًا يجد به حلاوة الإيمان.
إن صاحب المراقبة يترك المعاصي حياءً من ربه، وهيبةً له، وحبًّا في طاعته، وامتثال أمره، وطمعًا في مرضاته ورضاه، أكثر مما يدعها خوفًا من عقوبته، فما أجهل الإنسان بربه حين يكفر به ويعصيه، ولا يكفيه ذلك حتى يزجر من يؤمن به ويطيعه: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق: 9 - 14].
أيها المؤمنون: حري بمن علم أن الله معه، ومطلع عليه في كل وقت، ولا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض، حري بهذا المؤمن أن يراقب ربه ومولاه، ويحسن عليه الثناء، ويتجنب ما يسخطه ويغضبه، بل يوحّده توحيدًا عمليًّا، ويراقبه ويحذر مساخطه -سبحانه- وتعالى.
وإن صفات الرقيب –سبحانه وتعالى- أنه (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) [سبأ: 2] وأنه -جل وعلا- (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4], وأنه -تبارك وتعالى- (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [المجادلة: 7]، وغيرها من الصفات التي لا يمكن حصرها، ولا يمكن إدراكها؛ لأننا نتحدث عن الإله الحق -سبحانه-.
ومن عجائب مراقبة الله في الحياة أن رجلاً تزوج سرًّا على امرأته، وحدث أن علمت هذه المرأة أن زوجها قد تزوج عليها، فلم تواجهه، وكتمت معرفتها بسرّه، وكانت قد تيقنت من هذا الأمر، ومات هذا الرجل، وترك ميراثًا ضخمًا، فالمرأة أرسلت لضرتها نصيبها في الميراث، ولكن الأروع من ذلك أن الزوجة الثانية رفضت أن تأخذ هذا المال؛ لأن زوجها كان قد طلقها قبل وفاته. فما أجمل مراقبة الله -سبحانه وتعالى-!!.
وقال الأصمعي: قال أعرابي: خرجت في ليلة ظلماء فإذا أنا بجارية كأنها علم، فأردتها، فقالت: ويلك، أما لك زاجرٌ من عقل؛ إذ لم يكن لك ناهٍ من دين؟ فقلت: إيه والله ما يرانا إلا الكواكب. فقالت: وأين مكوكبها؟!. إن مراقبتها لله كانت لها نجاة في الدنيا من ذل العبودية، وستكون نجاة لها من عذاب النار يوم القيامة، إن الرقيب الحفيظ الذي إذا رأى منك صدق الجهاد وقوة المراقبة لله، حفظ لك دينك، وأصلح لك قلبك، يقول الشاعر:
خَافَتْ مُلَاحَظَةَ الرَّقِيبِ فَصَدَّهَا | عَنْهُ الْحَذَارُ وَقَلْبُهَا مَعْمُودُ |
دَارَتْ بِعَبْرَتِهَا الْجُفُونُ وَلَمْ تَفِضْ | فَكَأَنَّمَا بَيْنَ الْجُفُونِ مَزِيدُ |
اللهم ارزقنا تقواك، واجعلنا نخشاك كأننا نراك، واجعل تقواك بين أعيننا يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بالآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الرقيب الذي أحاط بكل شيء رحمةً وعلمًا، وأتقن ما صنعه وأبدع ما شرعه إحكامًا وحُكمًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المحسنين أجرًا عظيمًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه وجعله إمامًا، أفضل داعٍ إلى الإحسان وأعظمهم مقامًا، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
يا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وقابلوا أوامره بالامتثال, واجتنبوا ما نهاكم عنه في كل حال, وراقبوه، وأخلصوا لوجهه الأعمال, واعملوا ليوم لا بيع فيه ولا خلال, واحذروا من غضب المطّلع على الأسرار والنوايا ودخائل القلوب، واعلموا أن من مراقبة العبد لله أن يستحضر أن الله تعالى معه دائمًا، يراقبه في كل أحواله، وحركاته، وسكناته، فهذه المراقبة مفتاح كل خير، فالعبد إذا أيقن أن الحق مراقِب لأفعاله، وسامعٌ لأقواله، ومبصر لأحواله، مطلع على ما أضمر وأخفى، فسيجرّه ذلك إلى الخوف من عقابه في كل حال، ويزرع لديه المهابة في كل مجال؛ لأنه يدرك بأن الرقيب قريب، وهو الشاهد الذي لا يغيب، -سبحانه-.
فكلما هَفَت نفس العبد إلى المعصية، وتاقت للمخالفة، عَلِمَ علم اليقين أن الله البصير مُطلعٌ على خفايا نفسه وعلى سرّه وجهره، فلا يجعل الله تعالى أهون الناظرين إليه، فإذا تيقن العبد من نظر الله تعالى إليه، تتولد لديه مراقبة لله في جميع أحواله مما يجعله يرتقي درجة عظيمة من درجات الإيمان، ألا وهي درجة الإحسان.
وكذلك على العبد المؤمن أن يحرس الخواطر من أن تجول في معصية؛ حتى لا تترسخ تلك الخواطر لتصبح فيما بعد خطوات عملية، تمارسها الجوارح، فمراقبة الله -سبحانه- تعالى تقتضي أن يحترس المرء من خواطره؛ لأنها نقطة البداية لأي عمل، وذلك بألا تسبح مع خاطرك وتنساق معه، أو تطلق لخيالك العنان، وتدع نفسك تشرُد في كل ما تشتهي وتتمنى.
أيها المسلمون: إن من أفضل الطاعات وأزكاها مراقبة الله على الدوام، وإذا رفعك الله وجلست للناس معلمًا فكن واعظًا لنفسك وقلبك أولاً، منقيًا لهما من الشوائب والحظوظ، ولا يغرنّك اجتماعهم عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله رقيب على باطنك، فنفسك عدوة لك، وكذلك الشيطان اللعين، وهما ينتهزان منك كل فرصة حتى يحملانك على الغفلة والمخالفة؛ لذلك يجب أن تأخذ حذرك منهما، وتسد عليهما المنافذ والمداخل، حتى لا تقع في فخ واحدٍ منهما, فاحذر يا عبد الله.
فإذا علم المسلم رقابة الله المطلقة، راقب الله في تصرفاته وعباداته، ومعاملاته، وسائر أحواله، وفي ذلك صلاح دنياه وآخرته، وبلوغه أعلى درجات الإيمان وهو الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وختامًا -أيها المؤمنون- احمدوا الله على أنه الرقيب، الحمد لله الرقيب القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على كل جارحة بما اجترحت، المطلع على ضمائر القلوب إذا هجست، الحسيب على خواطر عباده إذا اختلجت، الذي لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات والأرض إذا تحركت أو سكنت، المحاسب على النقير والقطمير، والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت، المتفضل بقبول طاعات العباد وإن صغرت، المنعم بالعفو عن معاصيهم وإن كثرت، وإنما يحاسبهم لتعلم كل نفس ما أحضرت، وتنظر فيما قدمت وأخرت، فتعلم أنه لولا لزومها للمراقبة والمحاسبة في الدنيا لشقيت في صعيد القيامة وهلكت، وبعد المجاهدة والمحاسبة والمراقبة لولا فضله بقبول بضاعتها المزجاة لخابت وخسرت.
وعودًا على بدء إن الإنسان ليرجف فؤاده فَرَقًا، ويضطرب قلبه خوفًا، حين يشعر أن سلطان الأرض يراقبه بجواسيسه وعيونه، مع أن سلطان الأرض مهما تكن عيونه لا يراقب إلا حركة الإنسان الظاهرة، وربما يحتمي منه إذا آوى إلى داره، أو أغلق فمه، أما قبضة الجبار فهي مسلطة عليه ترقبه أينما حل، وأينما سار في كل وقت، ومسلطة على الأقوال والأعمال، والضمائر والأسرار.
وهو الرّقيب على الخواطر واللوا | حظّ كيف بالأفعال بالأركان |
وإذا علم الإنسان هذه الإحاطة من الرقيب القريب -سبحانه-؛ كان ذلك كفيلاً له بأن يعيش في حذر بالغ، وخشية دائمة، ويقظة مستمرة لا تغفل عن المحاسبة، تدفعه إلى حسن العمل ودوامه، والله قد أحكم الرقابة على هذا الإنسان فهو يعيش ويتحرك وينام، ويأكل ويشرب، ويتحدث ويصمت، ويقطع عمره كله بين يدي ملكين موكلين به عن اليمين والشمال، يتلقيان منه كل حركة، وكل كلمة، ويسجلانها فور وقوعها، لتكون في سجل حساب هذا الإنسان: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 17- 18].
فيا من تُكتب لحظاته, وتُجمع لفظاته, وتُعلم عزماته, وتُحسب عليه حركاته إن راح أو غدا، (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى). ويحك -يا عبد الله- إن الرقيب حاضرٌ, يرعى عليك اللسان والناظر, وهو إلى جميع أفعالك ناظرٌ, إنما الدنيا مراحل إلى المقابر, وسينقضي هذا المدى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى). وصدق القائل:
كأن رقيبًا منك يرعى خواطري | وآخر يرعى ناظري ولساني |
فاحرصوا -عباد الله- على محبة الرقيب -سبحانه-، واخضعوا لأمره، وانقادوا لشرعه، جنبني الله وإياكم مضلات الفتن، ووقانا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأسأل الله أن يسعدنا بتقواه، وأن يجعل خير أيامنا وأسعد لحظاتنا يوم أن نلقاه.