الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
ومن الأمور التي تُعِين على القضاء على هذه الظاهرة، ظاهرة العنوسة، ويجهلها كثير من الناس، أن يبحث الآباء لبناتهم عن الأزواج الأخيار المستقيمين دينا وخلقا؛ ولا عيب في أن يعرض الأب أو الولي بناته أو إحدى بناته على من يراه كفئا، وهذا من سنن الصالحين وأهل الخير والرشد، وليس فيه أي محظور أو خطأ، بل هو نوع من أنواع القيام بالمسئولية والأمانة يثاب عليها الولي من ربه -عز وجل-؛ لأنه أحسن صنعا في موليته.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بوصية الله للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ)، فما من عبد لبس لباس التقوى -ولباس التقوى خير- إلا وعاش في الدنيا حياة ملؤها الخير والبركة والرضا والسعادة، وكان قدومه على ربه خير قدوم إن شاء الله.
وما من عبد خلع لباس التقوى وتجرد من لباس الحياء إلا وكانت عيشته في الدنيا نكدا وضيقا وقلقا، وكان قدومه على ربه شر مقدم: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس:26-27].
أسأل الله -عز وجل- لي ولكم ولعموم إخواننا المسلمين تقوى صادقة نافعة تدفعنا إلى فعل الطاعات، والإكثار من القربات، وتحجزنا عن فعل المعاصي واقتراف السيئات والموبقات، إنه أكرم مسئول، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أيها الإخوة المسلمون: إن من المظاهر المزعجة في المجتمع ظاهرة انتشار العنوسة؛ لما يترتب على هذه الظاهرة من مفاسد عظيمة على المرأة والمجتمع.
إن من المتعين على المجتمع -بكافة شرائحه- البحث عن علاج لهذه الظاهرة التي بدأت تتفاقم يوما بعد يوم. وحلول هذه الظاهرة -بحمد الله عز وجل- كثيرة جدا، منها الظاهر والخفي.
ومن الأمور التي تُعِين على القضاء على هذه الظاهرة، ظاهرة العنوسة، ويجهلها كثير من الناس، أن يبحث الآباء لبناتهم عن الأزواج الأخيار المستقيمين دينا وخلقا؛ ولا عيب في أن يعرض الأب أو الولي بناته أو إحدى بناته على من يراه كفئا، وهذا من سنن الصالحين وأهل الخير والرشد، وليس فيه أي محظور أو خطأ، بل هو نوع من أنواع القيام بالمسئولية والأمانة يثاب عليها الولي من ربه -عز وجل-؛ لأنه أحسن صنعا في موليته.
لكن بعض ضعاف البصيرة والرأي يرون في عرض وليٍّ ابنته على رجل صالح يرون في ذلك أسلوبا مستهجنا وعملا مشينا؛ لأنه -في زعمهم- يشعر بأمور كثيرة، منها أن في ذلك إشعارا بأن ابنته ليست على المستوى المطلوب، إذ لو كانت على مستوى يرغب فيها لتقدم الناس لخطبتها. هكذا يزعمون.
وفي عرض الرجل موليته على رجل صالح -بزعمهم- إشعار بتذمر الأب من عيش بناته عنده وتضايقه من وجودهن معه، هكذا يزعمون.
وكل ذلك مزاعم باطلة، وافتراضات خاطئة لا أساس لها من الصحة، وإنما هي أوهام وسوس بها الشيطان، وأوجدها -أيضا- بُعد الناس عن الاسترشاد بكتاب ربهم، وسنة نبيهم -عليه الصلاة والسلام-، وأخبار سلفهم الصالح.
فلو كان الناس يسترشدون بها لما وجدوا في عرض الولي ابنته على من يراه صالحا لها أدنى حرج أو غضاضة، هذا شعيب الرجل الصالح -عليه السلام- الذي ذكر الله قصته مع موسى -عليه الصلاة والسلام- لما رأى استقامة موسى وصلاحه وأمانته وخلقه عرض عليه أن يزوجه إحدى ابنتيه، كما ذكر الله -عز وجل- ذلك في قوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص:23-28].
وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خير هذه الأمة بعد رسولها وبعد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، توفي زوج ابنته حفصة -رضي الله عنها- فحرص على عرضها على بعض الصحابة، كما روى البخاري والنسائي... "قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا, فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلَّا أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ ذَكَرَهَا, فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا".
ويستمر هذا الأسلوب الراشد في حياة التابعين، فها هو سعيد بن المسيب، من أكابر علماء التابعين، وسيد الزهاد في زمانه، يتقدم إليه ابن السلطان في زمانه ليخطب ابنته منه، فيمتنع سعيد عن ذلك، ويلحقه بعض الأذى من جراء رفضه تزويج ابنته لابن السلطان. ثم يزوج ابنته العالمة الصالحة لفقير من فقراء المسلمين هو عبد الله بن أبي وداعة.
وها هو الزوج يروي القصة فيقول: "كنت أجالس سعيد بن المسيب، فتفقدني أيّاما، فلمّا أتيته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها؟ قال: ثم أردت أن أقوم، فقال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلّا درهمين أو ثلاثة؟! فقال: أنا، فقلت: وتفعل؟! قال: نعم، فحمد الله تعالى، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- وزوجني على درهمين، أو قال ثلاثة.
فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أفكر: ممن آخذ؟ وممن أستدين؟ فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي فأسرجت وكنت صائما، فقدمت عشائي لأفطر -وكان خبزا وزيتا- وإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلّا سعيد بن المسيب! وذلك أنّه لم ير أربعين سنة إلّا بين داره والمسجد.
قال: فخرجت إليه فإذا به سعيد بن المسيب، فظننت أنّه قد بدا له –أي: غيّر رأيه- فقلت له: يا أبا محمد، لو أرسلت إلي لأتيتك، فقال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمر؟ قال: إنّك كنت رجلا عزبا فزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله، ثم أخذها فدفعها في الباب ورده، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل النّاس، وأحفظ النّاس لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعرفهم بحق الزوج".
وغير هذه القصص قديما وحديثا كثير، فهل يقول قائل بعد هذا: إن عرض الرجل موليته على رجل صالح أسلوب مستهجن؟! لَعَمْر الله! إنه لمن سنن الصالحين!.
إن من يظن ذلك الظن السيئ ويزعم ذلك الزعم الباطل فإنما يظن ظن السوء بأولئك الأولياء الصالحين الذين عرضوا بناتهم على الرجال، وهم شعيب الرجل الصالح، وعمر بن الخطاب، وسعيد بن المسيب، وغيرهم من الصالحين؛ وهل هؤلاء إلا مُثُل تحتذى، وقدوات يتأسى بها؟.
ثم إن الواجب إذا رغب الولي في عرض ابنته على رجل صالح أن يختار الأسلوب الحسن، فيمكن له أن يذهب إلى الرجل الذي رغب فيه زوجا لابنته فيقول له: هل ترغب في الزواج؟ فإني أعرف رجلا صالحا يريد أن يزوجك إحدى بناته، أو يرسل رسولا ويقول له: اذهب إلى هذا الشاب وقل له: إن رجلا يقول لي إنه يريد أن يزوجك إحدى بناته؛ فهل لك رغبة في ذلك؟ فإن رغب فقد حصل المقصود، وإن لم يرغب فانتهى الأمر، ولا ضير في ذلك.
وعلى الشخص الذي تعرض عليه امرأة أو فتاة ليتزوجها أن يتقي الله -عز وجل-، فإن رغب فالحمد لله، وإن لم يرغب فليعتذر بلطف، ولا يشيع هذا الخبر.
وإذا علم الله حُسن نية الولي ورغبته الصادقة في تزويج بناته يسر الله له تزويجهن، وقد يكون من يتزوج بهن بعد ذلك خيرا ممن عرض عليهم الأمر، كما حصل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث عرضه على عثمان ثم أبي بكر، ثم أقدم سيد الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم- على التزوج منها.
أيها الإخوة المسلمون: إن ما يحسن التنبيه عليه في هذا المقام خطورة ما يحصل من بعض الفتيات من التعرف على الرجال أو الشباب بدعوى البحث عن زواج أو عن زوج من خلال وسائل التواصل الحديثة، فهي أمور خطيرة جدا، وتفضي إلى مفاسد وقبائح ومناكر وجرائم لا يعلم مداها إلا الله، فالواجب الحذر والتحذير من هذا الأسلوب.
كما أن من المخالفات في هذا الباب ما قد تقوم به بعض الفتيات ناقصات العقل من تصوير أنفسهن وإشاعة صورهن في الجوالات أو وسائل التواصل الحديثة، وكم ترتب على هذا المسلك من أمور سيئة جدا!.
كما أن من المخالفات في هذا الباب ما تعمد إليه بعض الفتيات من التكشف والتعري في حفلات الأفراح والزواج؛ ظنا منهن أن ذلك سبب لجذب الأنظار إليهن أو السعي في التقدم إليهن، وكل ذلك أسباب غير شرعية.
فعلى المرء أن يتقي الله -عز وجل-، وأن يبحث عن الأسباب الشرعية، وأن يعلق أمله بالله -عز وجل-، وظنه بمن بيده ملكوت كل شيء، إذ لا يحصل في هذا الكون إلا ما قدر الله وقضى.
أسأل الله -عز وجل- أن ينور بصائرنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا وساوس نفوسنا، ونزغات شياطين الإنس والجن.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن اتبع هداه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
أيها الإخوة المسلمون: من الأمور التي يحسن التنبيه عليها -ولا سيما ونحن في بداية موسم الزواج- ما شاع عند بعض الناس من الحث على الزواج من الأجانب، وعدم القرب من الأقارب، حتى شاع القول الخاطئ: "الأقارب عقارب"!.
ويستدل بعضهم على مشروعية الزواج من الأباعد والأجانب من غير أقربائه وعدم القرب من أقربائه بحديث يروى في هذا، ولا يصح: "اغتربوا لا تضووا". ومعناه، كما في اللسان: تزوجوا في البعاد الأنساب لا في الأقارب لئلا تضووا أولادكم. وقيل: معناه انكحوا في الغرائب دون القرائب، فإن ولد الغريب أنجب وأقوى وولد الأقارب أضعف وأضوى، ومعنى لا تضووا: أي لا تأتوا بأولاد ضاوين، أي: ضعفاء.
كما يقول بعض الناس الذي يؤيدون زواج الأباعد ولا يرغبون في الزواج من الأقارب، يقولون: "إن الطب الحديث يرى أن الزواج من الأقارب يسبب انتشار الأمراض الوراثية وضعف الأولاد". وكل ما تقدم خطأ وبعد عن الصواب.
أما الحديث: "اغتربوا لا تضووا" فهو حديث لا أصل له، قال ابن الصلاح -رحمه الله-: "ولم أجد في هذا الحديث أصلا معتمدا"، قال السبكي: "فينبغي ألا يثبت هذا الحكم، وهو الزواج من الأباعد، لعدم الدليل".
وإذا تبين أن الحديث لا أصل له فهو غير صحيح، حديث باطل لا تجوز نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا ينبغي أن يستشهد به في هذا المقام.
وأما ما ينسب إلى علم الوراثة من أن الزواج من الأقارب يسبب الأمراض الوراثية فغير ثابت أيضا على سبيل القطع، يقول أحد أساتذة علم الوراثة عن القول الشائع الذي يقول بأن زواج الأقارب يسبب الأمراض الوراثية: "إن هذا اعتقاد خاطئ"، وقال: "إنه نتيجة للبحث العلمي في مجتمع ينتشر فيه زواج الأقارب، وآخر يكثر فيه زواج الأباعد، وآخر يكثر فيه الزواج بين الأجناس المختلفة، ثبت عدم وجود أي فرق بين هذه المجتمعات من ناحية انتشار الأمراض الوراثية".
وانتهى من ذلك إلى أن زواج الأقارب لا يشكل أي خطورة على الأجيال المتعاقبة، والواقع يؤيد هذا، فكم من رجال تزوجوا من أقاربهم، من بنات أعمامهم أو عماتهم أو أخوالهم أو خالاتهم ونحو ذلك ولم يظهر أي مؤشر على ما قيل من انتشار الأمراض الوراثية، اللهم إلا إذا علم في أسرة ما من خلال الكشف الطبي وجود مرض وراثي يمكن أن ينتقل عن طريق الزواج، وهذا -بحمد الله- يكتشف الآن عن طريق الإجراءات الطبية المعتمدة في إجراءات الزواج، فحينئذ لا بأس -عملا بالأسباب الشرعية- من أن يبحث الإنسان عن أسرة من أقربائه أو من غير أقربائه ليتزوج منها.
ثم لو رجعنا إلى سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لوجدنا (أنه زوج بناته من أقربائه)...
وبعد هذا فلا دليل يدل على ... (أفضلية) الزواج من الأجانب، بل إن في الزواج من الأقارب خيرا كثيرا؛ إذ فيه صلة رحم، وفيه تقارب للأسر أكثر، وفيه تعاون على البر والتقوى، ومعرفة للطبائع والعادات.
ومن الأمور المستهجنة أيضا في هذا الشأن ما يشاع عند بعض الأسر من تحبيس بناتهم لأقربائهم، وهذا خطأ أيضا، فالتحبيس، بألّا تتزوج المرأة إلا من ابن عمها فقط أو نحو ذلك، عادة جاهلية؛ بل الأمر يترك للاختيار، فإن اختار القريب ابنة عمه ورضيت هي كذلك فهذا خير وفضل، وإن لم يطلب القريب ذلك أو لم ترغبه الفتاة فلا يصح التحبيس هذا، بل هو عادة جاهلية؛ لأنه قد ينشأ منه أن تجلس الفتاة سنين طويلة فيذهب عمرها دون زواج...
نسأل الله -عز وجل- أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يوفق المسلمين لاتباع دينه، والتمسك بشريعة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-.
نسأل الله تعالى أن يردنا جميعا إلى دينه ردا كريما حميدا، إنه على كل شيء قدير...
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك...