الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | جماز بن عبد الرحمن الجماز |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - التوحيد |
أحقُ من ذكر، وأحقُ من عبد، وأحق من حمد، وأولى من شكر، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأعفى من قدر، وأكرم من قصد، وأعدل من انتقم، حكمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته، ومنعه عن حكمته، وموالاته عن إحسانه ورحمته.
ما للعباد عليه حقٌ واجبٌ | كلا ولا سعي لديه ضائعُ |
إن عذبوا فبعدله أو نعموا | فبفضله وهو الكريم الواسع |
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عمت رحمته كل شيء ووسعت، وتمت نعمته على العباد وعظمت، ملك ذلت لعزته الرقاب وخضعت، وهابت لسطوته الصعاب وخشعت، وارتاعت من خشيته أرواح الخائفين وجزعت، كريم ٌ تعلقت برحمته قلوب الراجين فطمعت، بصير بعباده يعلم ما كنت الصدور وأودعت، عظيم عجزت العقول عن إدراك ذاته فتحيرت، نحمده على نعم توالت علينا واتسعت.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها من النار يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي جاهد في الله حق جهاده، حتى علت كلمة التوحيد وارتفعت.
اللهم فصل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ما ابتهلت الوفود بالمشاعر العظام ودعت.
أما بعد:
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصاب من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله -تعالى-".
هذا الحديث، أصل من أصول الإيمان، وينفتح به باب عظيم من أبواب سر القدر وحكمته.
وهذا النور الذي ألقاه عليهم سبحانه وتعالى، هو الذي أحياهم وهداهم، وأتمه بالروح الذي ألقاه على رسله -عليهم الصلاة والسلام-.
والنور الذي أوحاه إليهم، نورٌ على نور، فأشرقت منه القلوب، واستنارت به الوجوه، ثم دلها ذلك النور، على نور آخر، هو أعظم منه وأجل، وهو نور الصفات العليا، الذي يضمحل فيه كل نور سواه، حتى كأنها تنظر إلى عرش الرحمن -تبارك وتعالى- بارزا، وإلى استوائه عليه، كما أخبرنا سبحانه وتعالى في كتابه، وكما أخبر به عنه صلى الله عليه وسلم، يُدبر أمر الممالك، يأمر وينهى، ويخلق ويرزق، ويميت ويحي، ويقضي وينفذ، ويعز ويذل، العظيم المهيمن، الجبار المتكبر، القوي القهار، الكبير المتعال، الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وهو القاهر فوق عباده، ويسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، عزيزٌ ذو انتقام، قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، وسع كل شيء علماً، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقد وصف سعة علمه بقوله جل جلاله: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[الأنعام: 59].
ويتضعضع الفؤاد، ويرجف القلب، عند التأمل في قصة موسى -عليه السلام-، لما قال: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)[الأعراف: 143].
فقال الله -جل وعز-: (لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً)[الأعراف: 143].
وفي الصحيح: أنه لما فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية، قرأها، وقال بيده هكذا، وضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر، وقال صلى عليه وسلم-: "فساخ الجبل".
والمعنى: أنه ما تجلى إلا هذا القدر، فساخ الجبل، والله -جل جلاله- كما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
فوجهه جل شأنه، موصوف بالجلال والإكرام، له من البهاء والعظمة والنور العظيم، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره.
معاشر المسلمين: النصوص من الكتاب والسنة، في عظمة ربنا كثيرة، إذا تأملها المسلم، ارتجف قلبه، وتواضعت نفسه، وخضعت أركانه، وازداد خشوعه، للعلي العظيم، للسميع العليم، لرب الأولين والآخرين، والمقصود، أن استشعار عظمة الرب -جل ثناؤه-، من أنفع الأشياء في علاج ضعف الإيمان، فهو خالق السماوات والأرضين، ما شاء كان، كما شاء، في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء، أمرُه وسلطانه نافذ في السموات وأقطارها، وفي الأرض وما تحتها وما عليها، وفي سائر أجزاء العالم، يقلبها ويصرفها، ويحدث فيها ما يشاء، قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمة وحكمة، ووسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على تفنن حاجاتها، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات، أحاط بصره بجميع المرئيات، فيرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء.
سبحانه من إله -جل جلاله-، ما أعظمه -جل جلاله-، ما أعلمه، يعلم السر وأخفى من السر، الذي انطوى عليه العبد وضميره، وخطر بقلبه، ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه ما لم يخطر بقلبه بعد، فيعلم أنه سيخطر بقلبه كذا وكذا، في وقت كذا وكذا، له الخلق والأمر، وله الملك وله الحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، شملت قدرته كل شيء، ووسعت رحمته كل شيء، وسعت نعمته إلى كل حي: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرحمن: 29].
يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمن روعه، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، يمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، قلوب العباد ونواصيهم بيده، وأزمة الأمور معقودة بقضائه وقدره: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)[الزمر: 67].
يقبض سمواته كلها بيده الكريمة، والأرض بيده الأخرى، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، أنا الذي بدأت الدنيا، ولم تكن شيئاً، وأنا الذي أعيدها كما بدأتها، هو الملك، الذي لا شريك له، والفرد فلا ند له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد له، ولا صاحبة له، والعلي فلا شبيه له، ولا سمي له: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)[القصص: 88].
وكل ملك زائلٌ إلا ملكه، وكل ظل قالصٌ إلا ظله، وكل فضلٍ منقطع إلا فضله، لن يطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يعصى إلا بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسّر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82].
هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء.
لو أن أهل سمواته وأرضه، وأول خلقه وآخرهم، وأنسهم وجنهم، كانوا على أتقى قلب رجل منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو أن أول خلقه وآخرهم، وأنسهم وجنهم، كانوا على أفجر قلب رجل ٍ منهم، ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، ولو أن أهل سمواته وأرضه، وأنسهم وجنهم، وحيهم وميتهم، ورطبهم ويابسهم، قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كلاً منهم ما سأله، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذره، ولو أن أشجار الأرض كلها، من حين وجدت إلى أن تنقضي الدنيا، أقلام، والبحر وراءه سبعة أبحر، تمده من بعده مداد، فكتب بتلك الأقلام، وذلك المداد، لفنيت الأقلام، ونفد المداد، ولم تنفد كلمات الخالق -تبارك وتعالى-، وكيف تفنى كلماته -جل جلاله-، وهي لا بداية لها ولا نهاية، والمخلوق له بداية ونهاية، فهو أحق بالفناء والنفاد.
أحقُ من ذكر، وأحقُ من عبد، وأحق من حمد، وأولى من شكر، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأعفى من قدر، وأكرم من قصد، وأعدل من انتقم، حكمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته، ومنعه عن حكمته، وموالاته عن إحسانه ورحمته.
ما للعباد عليه حقٌ واجبٌ | كلا ولا سعي لديه ضائعُ |
إن عذبوا فبعدله أو نعموا | فبفضله وهو الكريم الواسع |
معاشر المسلمين: فإذا أشرقت على القلب أنوار هذه الصفات، اضمحل عندها كل نور وراء هذا ما لا يخطر بالبال، ولا تناله عبارة.
فاتقوا الله -عباد الله-: واستشعروا عظمة الله -عز وجل-، وتعرفوا على أسمائه وصفاته، تدبروا فيها، واعقلوا معانيها، وليستقر هذا الشعور في القلب، وليسري إلى الجوارح، لتنطق عن طريق العمل بما وعاه القلب، فهو ملكها، وهي بمثابة أتباعه، فإذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت.
أقول ما تسمعون، وأستغفرك اللهم وأتوب إليك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي وسع كل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزةً وحكماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكفى بالله حسيباً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وأصحابه، ومن تعبد وتمسك بسنته إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر: إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديّان لا يموت، فراقبوا الله حق مراقبته، فإنه رقيب عليكم، ومُطلعٌ على أعمالكم، وسيتولى جزاءكم، ويقول لكم: "يا عبادي إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه".
إلهنا، إنا عبادك، الفقراء إليك، الأسرى بين يديك، مقرون بذنوبنا، أمرتنا فلم نأتمر، وزجرتنا فلم نزدجر.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، واجعلنا من حزبك المفلحين، ومن كتبت لهم المغفرة والرحمة، يا أرحم الراحمين، يا أمان الخائفين، يا رجاء المذنبين، يا من دبر الدهور، وقدر الأمور، وعلم هواجس الصدور، يا من عز فارتفع، وذل كل شيء له وخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأغناها.
يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا عظيم المنّ، ويا كريم الصفح، يا صاحب كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا رافع كل بلوى، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى.
إلهنا، من نقصد وأنت المقصود، وأنت صاحب الكرم والجود، ومن الذي نسأله، وأنت الرب المعبود، يا من عليه يتوكل المتوكلون، وإليه يلجأ الخائفون، وبكرمه وجميل عوائده، يتعلق الراجون، وبواسع عطائه وجزيل فضله، تبسط الأيادي ويسأل السائلون، نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، تحصنا بالله الذي لا إله إلا هو.
إلهنا إله كل شيء، واعتصمنا بربنا ورب كل شيء، وتوكلنا على الحي الذي لا يموت، واستدفعنا الشرّ بلا حول ولا قوة إلا بالله، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الرب من العباد، حسبنا الخالق من المخلوق، حسبنا الرازق من المرزوق، حسبنا الذي هو حسبنا، حسبنا الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، حسبنا الله وكفى.
سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله مرمى، حسبنا الله الذي لا إله إلا هو، علية توكلنا، وهو رب العرش العظيم.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
ربنا هب لنا من لدنك رحمة، وهيئ لنافي أمرنا رشداً.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين.
اللهم أمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا والمسلمين أجمعين، اللهم وفقهم للعمل بوظائف دينك القويم، اللهم وفقهم لمعالم الخير والرشاد، واجزهم عنا خير الجزاء في يوم المعاد.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.