الوهاب
كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
المؤمن الكيس الفطن ينتظر رمضان على أحر من الجمر ليشمر عن ساعد الجد، وينافس المشمرين في الطاعات.. لا وقت لديه للتفاهات!! ولا للمسلسلات.. ولا المباريات التي تمنع من فريضة أو نافلة خاصة برمضان كصلاة التراويح، ويمكن لذلك إن كان مباحاً أن يُعاد.. حري بنا جميعاً أن نثبت ولا نفرط بالساعات الفضيلة، وأن نجعل شعارنا في رمضان وغيره لن يسبقنا إلى الله أحد.. فأحلى لحظات رمضان: بكاء الساجدين.. ودعاء الصائمين.. وخشوع الذاكرين.. ورحمة المؤمنين.. والإحسان للمساكين.. وتلاوة القارئين...
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: غداً أو بعد غدٍ هو الأول من شهر رمضان ذلكم الشهر العظيم، والضيف الكريم... ضيفٌ تزدان به الدنيا وتشرق أنوارها... وتهب رياح الإيمان وتنساب بين أرجائها... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بمقدمه أصحابَه رضي الله عنهم بقوله: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ". رواه أحمد والنسائي بسند صحيح.
مرحبًا بك يا شهرَ رمضان، حبيبًا جئت على ولَهٍ منا وطولِ انتظار، جئت بعد غياب عامٍ مات فيه أقوامٌ ووُلِدَ آخرون، واغتنى قومٌ وافتقر آخرون، وسَعِدَ قومٌ وشقي آخرون، واهتدى قوم وضلَّ آخرون.
مرحباً بك يا شهر القرآن؛ فالقرآن فيك أنزل كما رُوي بيان نزوله عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن القرآن أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزة في السماء الدنيا، كما قال تعالى: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القد:1]. وقال سبحانه: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) [الدخان:3]، ثم نزل به جبريل -عليه السلام- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك مفرّقًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة.
وكان جبريل -عليه السلام- يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيدارسه القرآن كل ليلة في رمضان كما في الصحيحين، وكان يعارضه القرآن في كل عام مرة، وفي العام الذي توفي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عارضه جبريل القرآن مرتين..
رمضان شهر القرآن فيشرع الإكثار من قراءته وتأمله، قال أهل العلم: ومما ينبغي أن يُعلم أن ختم القرآن ليس مقصوداً لذاته، وأن الله عز وجل إنما أنزل هذا القرآن للتدبر والعمل لا لمجرد تلاوته والقلب غافل لاهٍ، قال سبحانه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29]، وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24]، وقد وصف الله تعالى في كتابه أمماً سابقة بأنهم (... أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ..) [البقرة: 78] ، وهذه (الأمية) هي أمية عقل وفهم، وأمية تدبر وعمل، لا أمية قراءة وكتابة، و(الأماني) هي التلاوة -كما قال المفسرون-، بمعنى أنهم يرددون كتابهم من غير فقه ولا عمل..
وأكد نبينا -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى حين حدث أصحابه يوماً، قَال أَبُو الدَّرْدَاءِ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ العِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ»، فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا القُرْآنَ، فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟» رواه الترمذي وصححه الألباني.
أيها الصائمون: إذن، فختم القرآن ليس مقصوداً لذاته، وليس القصد من تلاوته هذَّه كهذِّ الشِّعر، دون تدبر ولا خشوع ولا ترقيق للقلب ولا وقوف عند المعاني، ليصبح همُّ الواحد منا الوصول إلى آخر السورة، أو آخر الجزء، أو آخر المصحف...
ومن الخطأ أيضاً أن يحمل أحدنا الحماس عندما يسمع الآثار عن السلف التي تبين اجتهادهم في تلاوة القرآن وختمه؛ فيقرأ القرآن من غير تمعن، ولا تدبر، ولا مراعاة لأحكام التجويد، أو مخارج الحروف الصحيحة، حرصاً منه على زيادة عدد الختمات.
وكون العبد يقرأ بعضاً من القرآن جزءاً أو حزباً أو سورة بتدبر وتفكّر خير له من أن يختم القرآن كله من دون أن يعي منه شيئاً، وقد جاء رجل لابن مسعود رضي الله عنه، فقال له: إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة، فقال ابن مسعود: "أهذّاً كهذِّ الشِّعر؟! إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع"..
وقال الحسن البصري: "والله ما تَدَبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن [كله] ما يُرى له القرآنُ في خلق ولا عمل". رواه ابن أبي حاتم .
أيها الإخوة: القرآن قال عنه ربنا -تبارك وتعالى-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29]، ومعنى (مُبَارَكٌ) أي: فيه خير كثير، وعلم غزير، فيه كل هدى من ضلالة، وشفاء من داء، ونور يستضاء به في الظلمات، وكل حكم يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب، ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه اللّه.
وحثنا ربنا على تدبره فقال: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.
(وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) أي: أولو العقول الصحيحة، يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب، فدل هذا على أنه بحسب لبّ الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب. ا هـ.
قال ابن رجب رحمه الله: "ومن أعظم ما يُتقرَّب به العبد إلى الله تعالى مِنَ النَّوافل: كثرة تلاوة القرآن، وسماعهُ بتفكُّر وتدبُّرٍ وتفهُّمٍ"، قال خباب بن الأرت -رضي الله عنه- لرجل: "تقرَّب إلى الله ما استطعتَ، واعلم أنَّك لن تتقرب إليه بشيءٍ هو أحبُّ إليه من كلامه"..
نعم أحبتي: لا شيءَ عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذَّةُ قلوبهم، وغايةُ مطلوبهم.. قال عثمان: "لو طَهُرَتْ قلوبُكم ما شبعتُم من كلام ربكم". وقال ابنُ مسعود: "من أحبَّ القرآن فهو يُحب الله ورسوله"..
وقال أحد العباد لرجل يُظهر التنسك والتعبد: "أتحفظُ القرآن؟ قال: لا فقال: وا غوثاه بالله! متنسك لا يحفظ القرآن فبم يتنعم؟! فبم يترنم؟! فبم يُناجي ربه عز وجل؟!"
ولذلك أيها الإخوة: تجدنا نتأثر بأحاديث الحث على تلاوة القرآن في رمضان، ونقبل على التلاوة في أول الشهر إقبالاً كبيراً، ثم تبدأ الهمم بالضعف شيئاً فشيئاً، ثم نقصر في القراءة فتقل يوماً بعد يوم، ثم ينقطع بعضنا عن القراءة آخر الشهر..!
وعلاج ذلك أيها الإخوة: إدراكنا لضرورة تدبر القرآن وأهمية فهم معانيه؛ فلو جعلنا لنا جلسة نقرأ فيها التفسير ونتأمل الآيات لوجدنا خيراً كثيراً، ووجدنا دافعاً قوياً للاستمرار بقراءة القرآن.. لكن لسان حال كثير منا يوحي بأننا متعبدون بالتلاوة فقط، دون تأمل للمعاني..! وهذا موضع الخطأ..
إخواني: الأولى أن نخصص جزءًا من وقتنا مع مجموعة من الأصحاب، ولو وجد فيهم طالب علم لكان حسناً لقراءة تفسير: مثل تفسير الشيخ السعدي، أو تفسير ابن كثير أو زبدة التفسير أو تفسير الشيخ محمد العثيمين أو التفسير الميسر الذي طبعته وزارة الشئون الإسلامية.. أو قرأتها مع الأسرة أو لوحدك المهم حدد وقتاً في هذا الشهر لذلك، وحدد مقدارًا من التفسير..
ومتى ما فهمنا المعاني وعلمنا أسرار الآيات ازدادت رغبتنا في قراءة القرآن وأحسسنا أن ربنا يخاطبنا فيه.. بارك لنا في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا.....
الخطبة الثانية:
رمضان أحبتي: شهر ينبغي لنا حساب أوقاته بالثواني لفضله وشرفه.. هيا بنا نشمر.. هيا بنا نشمر.. فهل من مشمر إلى الجنة؛ فإن الجنة لا خطر لها.. وفي شهر رمضان تفتح أبوابها ويزينها ربنا ويقول لها: يوشك أن يلقوا عبادي عنهم المئونة ويصيروا إليك..
ومجالات الخير المطروحة فيه سنوية لا تُعاد! إلا في العام القادم لمن بقي منا حياً ووفقه الله للطاعة.. فالتراويح لا تُعاد، وقيام الليل، وليلة القدر، والرحمة والمغفرة والعتق من النار لا تكون إلا في رمضان ولا تعاد..
المؤمن الكيس الفطن ينتظر رمضان على أحر من الجمر ليشمر عن ساعد الجد، وينافس المشمرين في الطاعات.. لا وقت لديه للتفاهات!! ولا للمسلسلات.. ولا المباريات التي تمنع من فريضة أو نافلة خاصة برمضان كصلاة التراويح، ويمكن لذلك إن كان مباحاً أن يُعاد..
حري بنا جميعاً أن نثبت ولا نفرط بالساعات الفضيلة، وأن نجعل شعارنا في رمضان وغيره لن يسبقنا إلى الله أحد.. فأحلى لحظات رمضان: بكاء الساجدين.. ودعاء الصائمين.. وخشوع الذاكرين.. ورحمة المؤمنين.. والإحسان للمساكين.. وتلاوة القارئين..
لنجاهد أنفسنا، ونعلم أن جهاد النفس كلمة إطلاقها سهل وبسيط، ولكن فعلها لا يقوى عليه إلا مجاهد صنديد صادق قد وضع الجنة أمام عينيه، واستشعر فضل الله عليه...
اللهم بلغنا رمضان..