اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | عبدالرحمن بن فهد الودعان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
إن من علامات قبول العمل الصالح أن يُتبع بعمل صالح مثلِه، وقد شرع الله لنا في ختام شهرنا العظيم أعمالاً صالحات متنوعة؛ ليعلم العبد أنه لا نهاية لطاعة الله تعالى، ولا منقَطَعَ عن عبادته، فهو في عبادة مستمرة دائمة للرب -جل وعلا-، يتقلب بين أنواع العبادات ليحقق بها عبوديتَه لربه -جل وعلا- وليتوصل بها إلى مرضاته، ولا يزال في عبادة إلى أن ياتيَه الأجل المحتوم، قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، يعني الموت.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فاللهمّ لك الحمد حمداً كثيرا طيبا مباركا فيه على ما أكرمتنا به من بلوغ شهر رمضان، وعلى ما يسرت من صيامه وقيامه، وعلى ما يسرت من الأعمال الصالحة فيه، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به من تلاوة كتابك الكريم، والاستماع إليه.
إنها لَنِعْمَةٌ عظيمة حُرِمها خَلْقٌ كثير، وأنعم الله تعالى بها علينا، فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
إن من أعظم نعم الله علينا أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وواجب علينا أن نكثر من حمده على نعمه العظيمة، فليست النعم التي يحمد عليها الكريم -جل في علاه- هي النعم الدنيوية من سعة الرزق ورغد العيش والأمن والطمأنينة فحسب، بل إن أعظم النعم التي يحمد الرب عليها ويشكر هي نعمة التوفيق للطاعة والعبادة، فكم من أناس حرموا هذه النعمة فلم يتلذذوا بها، ولم يوفقوا إليها، ولم يتحصلوا على ثوابها: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
عباد الله: إن شهرَنا الكريمَ قد عزَم على الرحيل، ولم يبقَ منه إلاَّ الزمنُ القليلُ، فمَنْ كان منا محسِناً فليحمدِ اللهَ على ذلك، ولْيَسْألْه القَبولَ، ومَنْ كان منا مهملاً فلْيتبْ إلى اللهِ، ولْيَعْتَذِرْ من تقصيرِه، فالعذرُ قبْلَ الموتِ مَقْبولٌ.
بالأمْسِ أقبَل مُشرقَ الميـلادِ | شَهرُ التُّقـاةِ وَمَوْسِمُ العُبَّـادِ |
واليَوْمَ شَدَّ إِلَى الرَّحِيلِ مَتَاعَهُ | قَدْ زوَّدَ الدُّنْيـا بخيرِ الـزَّادِ |
لا أوْحَشَ الرحمنُ منكَ مَنَازِلَاً | ذِكْرَاكَ تعلو في الرُّبَى والوادي |
انقضى رمضان وحال الصالحين يقول:
رمَضَـانُ وَلَّـى دَاوِنِـيْ يا راقـي | وأرِحْ فؤاديَ مِن لَظَى الأشواقِ |
صِف لـي دواءً مـن كتـاب الله لا | مِن ماجِنٍ لاهٍ ولا مِن ساقـي |
شهرُ الصِّيـامِ مَضَى فأعقَبَ لوعَةً | فِي خَاطِرِي تَسعَى إِلى إِحْرَاقِي |
شـهرٌ إذا ما هَـلَّ أشـرقَ نـورُهُ | في العَالَمِينَ وَفِـي ذُرا الآفَاقِ |
أنا لستُ مِمَّـن يرقبـون رحيلـَه | شَوْقَـاً لكـأسٍ بالْمُـدَامِ دِهاقِ |
أنا إنْ بَكَيْـتُ عَلَى الفِراقِ فَعَاشِـقٌ | صَـبٌّ يؤرِّقُـهُ دنـوُّ فـِراقِ |
إن من أعظم نعم الله تعالى على عباده أن يمن عليهم بتمام عباداتهم، ثم بقَبولها، إن من أعظم نعم الله على العبد أن يوفقه للعمل الصالح، وها قد مضى الشهر الكريم، وقد شمر منَّا المشمرون، وجدَّ منَّا المجتهدون، لقد تعودنا على الحرص الأكبر على صلاة الجماعة، وتعودنا على الحرص على صلاة الفجر في المسجد، ولَرُبَّما مرت بنا هذه الأيام المباركة ولم تفت الواحد منا صلاةُ الفجر مع الجماعة، وتعودنا على قراءة القرآن، بل لعل كثيرا منا ختمه مراتٍ ومراتٍ، ولربما قرأنا من كتب التفسير ما نستعين به على فهم آياته الكريمات؛ لنتوصل إلى فهم كلام ربنا ونستمتع به، فالحمد لله وحده على ما يسَّر وسهَّل ووفَّق للعمل الصالح.
فبعد هذا، لنجعل رمضان كما أراده الله تعالى كمحطة للتزود بالوَقود النافع في هذه الحياة الدنيا، إن أعظم الوَقود النافع هو وَقود رمضان، إنه التقوى التي تَزَوَّدنا بها فيه، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197]، فليكن عزمنا صادقا ليكون منطلَقَنَا إلى الاستمرار في هذه الأعمال الصالحة، قل لنفسك: أنا من اليوم أعزم على عدم ترك صلاة الجماعة، وأنا اليوم أعزم على عدم التفريط في صلاة الفجر، وأنا اليوم أعزم على وضع وِردٍ يومي لقراءة القرآن، وأنا اليوم أعزم على الاستمرار في البذل والصدقة كلما تيسر لي ذلك، وهكذا نكون قد تزودنا من رمضان بزاد من التقوى كبير:
تزوَّدْ مِنَ التَّقْوَى فإِنَّكَ لا تَدْرِي | إذَا جَنَّ ليلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلى الفَجْرِ؟ |
لقد تعودنا في رمضان على قيام الليل وصلاة الوتر، فهل نتركها بعد ذلك فلا نكاد نصليها؟ قال عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل" رواه البخاري ومسلم، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها-: "وكان أحب الدِّين إليه ما داوم صاحبه عليه" متفق عليه. وفي الحديث: "إن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قلّ"، وكان عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- ديمةً، كما في البخاري.
إن من علامات قبول العمل الصالح أن يُتبع بعمل صالح مثلِه، وقد شرع الله لنا في ختام شهرنا العظيم أعمالاً صالحات متنوعة؛ ليعلم العبد أنه لا نهاية لطاعة الله تعالى، ولا منقَطَعَ عن عبادته، فهو في عبادة مستمرة دائمة للرب -جل وعلا-، يتقلب بين أنواع العبادات ليحقق بها عبوديتَه لربه -جل وعلا- وليتوصل بها إلى مرضاته، ولا يزال في عبادة إلى أن ياتيَه الأجل المحتوم، قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، يعني الموت.
فمن هذه العبادات العظيمة آخِرَ الشهر زكاةُ الفطر، وهي فريضة على الكبيرِ والصغيرِ والذكَرِ والأُنثى من المسلمينَ، قال عبدُ الله بنُ عَمرَ -رضي الله عنهما-: فَرَضَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- زكاةَ الفطر مِن رمضانَ صاعاً من تَمْرٍ أو صاعاً من شعيرٍ على العبدِ والحرِّ والذكر والأنثى والصغيرِ والكبيرِ من المسلمين. متفق عليه.
ولا تجبُ عن الحَمل الذي في البطن إلاَّ أنْ يُتطوعَ بها فلا بأسَ، فقدْ كانَ أميرُ المؤمنينَ عثمانُ -رضي الله عنه- يخرجُها عن الحمل، ويجبُ إخراجُها عن نفسِه، وكذلك عمَّن تَلْزَمُه مَؤُونَتُه من زوجةٍ أو ولد. ولا تَجِبُ إلاَّ على مَنْ وَجَدَها فاضلةً زائدةً عما يحتاجُه مِن نفقةِ يومِ العيدِ وليلتِه.
والواجبِ في زكاة الفطر: صاعٌ بصاعِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من طعامِ الآدميين من تمرٍ أوْ بُرِّ أوْ رزٍّ أو غيرها من طعامِ الآدميين، ويقدر الصاع بثلاثة كيلو جرام تقريبا (مجموع فتاوى ابن باز 14/201).
ولا يجزئ إخراجُ قيمةِ الطعامِ في قول أكثر أهل العلم؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فرضَها من الطعامِ فلا يُتَعَدَّى ما عيَّنَه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-، وإخراج القيمة خلافُ ما أَمَرَ به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد ثبتَ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قالَ: "مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ"، ومعنى رَدٌّ مردودٌ.
ولأنَّ إخراجَ القيمةِ مخالف لعمل الصحابة -رضي الله عنهم- حيث كانوا يخرجونَها صاعاً من طعامٍ، وقد قال النَبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسُنَّتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ من بعْدِي".
ولأنَّ إخراج القيمةِ يُخْرِجُ الفطرةَ عن كَوْنِها شعيرةً ظاهرةً إلى كونها صدقةً خفيةً، فإن إخراجَها صاعاً من طعامٍ يجعلُها ظاهرَةً بين المسلمينَ، معلومةً للصغير والكبير، يشاهدون كَيْلها وتوزِيعَها، ويتعارفونها بينهم، بخلاف ما لو كانت دراهم يُخْرِجها الإِنسانُ خفية بينه وبين الآخذ.
ولا يجوز إخراج الرديء في زكاة الفطر، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة:267].
عباد الله: الواجب إخراج زكاة الفطر قبْلَ صلاةِ العيدِ، ويجوز إخراجها قبْل العيدِ بيوم أو يومين، لحديثِ ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمَرَ بزكاةِ الفطر أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاةِ. متفق عليه. قال نافع: كانَ ابنُ عمرَ يعْطِي عن الصغير والكبير، حتى وإنْ كانَ يعطِي عن بَنِيَّ، وكان يُعْطِيها الَّذِين يَقْبلونَها، وكانُوا يُعْطَون قبْلَ الفطرِ بيومٍ أو يومين.
قال شيخنا العلامة ابن باز -رحمه الله تعالى-: وبذلك يُعلم أنه لا مانع من إخراجها في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين والثلاثين وليلة العيد، وصباح العيد قبل الصلاة؛ لأن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعة وعشرين، كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. (مجموع فتاوى ابن باز 14/32).
وعن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: فرضَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- زكاةَ الفطرِ طُهرةً للصائمِ من اللغوِ والرفثِ، وطعمةً للمساكين، فمن أدَّاها قبل الصلاةِ فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومن أدَّاها بعدَ الصلاةِ فهي صدقةٌ من الصدقاتِ. رواه أبو داودَ وابنُ ماجه.
ومن أخَّرها لعذرٍ فلا حرج عليه، مثلُ أن يصادفَه العيدُ في الْبَرِّ ليس عنده ما يدفعُ منه، أو ليسَ عنده مَنْ يدفُع إليه، أو يأتَي خبرُ ثبوتِ العيدِ مفاجِئاً بحيثُ لا يَتَمَكَّنُ مِن إخراجها قبْلَ الصلاةِ، أو يكون معتمداً على شخصٍ في إخراجها فينسى أنْ يُخْرِجَهَا، فلا بأسَ أن يخرجها ولو بعدَ العيدِ؛ لأنَّه معذورٌ في ذلك.
والواجبُ أنْ تصلَ إلى مستحقِّها أو وكيْلِهِ في وقتِها قبلَ الصلاةِ، فلو نَوَاها لشخصٍ ولم يصادفْه ولا وكِيْلَه وقتَ الإِخراجِ فإنه يدفعها إلى مستحِقٍّ آخرَ، ولا يؤخِّرُها عن وقتِهَا.
ومن نسي إخراجَها أو وكَّل مَن يُخرجها وتَرَكَ ذلك عمدًا أو نسيانًا حتى خرج وقتُها؛ فالواجب عليه المبادرة بإخراجها أولَ ما يذكرُ أو يعلمُ قضاءً لما فاته؛ لأنها باقية في ذمته لم تسقط بذلك.
وإن كان قد تعمد تركَها أو تهاونَ في ذلك وتكاسلَ حتى خرج الوقتُ فيجب عليه إخراجُها مع التوبة إلى الله تعالى لتفريطه فيما وجب عليه.
والأفضل دفع زكاة الفطر في الموضع الَّذِي فيه الإنسان وقت الإِخراج، سواء أكانَ محل إقامتِهِ أم غَيره، وإن وكَّل مَن يدفعها عنه في أي مكان أجزأ ذلك.
والمستحِقُون لزكاةِ الفطرِ هُمْ الفقراءُ والمساكين، ويجوزُ توزيعُ الفطرةِ على أكثرَ من فقيرٍ، ويجوزُ دفعُ عددٍ من الْفِطَر إلى مسكينٍ واحدٍ؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَدَّر الواجبَ ولم يقدِّر مَنْ يدفعُ إليهِ. ويجوز للفقير الذي أخَذَ الفطرةَ أن يدفَعَ منها عن نفسِه وعائلتِهِ ما يجب عليه من الزكاة.
عباد الله: إن الحكمة في مشروعية زكاة الفطر تتلخص في أمرين: أولهما يتعلق بالصائمين في شهر رمضان، وما عسى أن يكون قد شاب صيامَهم من لغو القول ورفث الكلام، فإن الصيام الكامل هو الذي يصوم فيه اللسان والجوارح كما يصوم البطن والفرج، فلا يسمح الصائم للسانه ولا لأذنه ولا لعينه ولا ليده ولا لرجله أن تتلوث بما نهى الله ورسوله عنه من قول أو فعل، وقَلَّ أن يسلم أحدٌ من ذلك، فجاءت زكاة الفطر في ختام الشهر لتجبر ذلك كلَّه، وتغسل ما قد يكون علق بالصائم مما يكدر صومه، ويُنقَص أجره، كما إن فيها إظهارَ شكرِ نعمةِ الله بإتْمامِ صيامِ شهرِ رمضانَ وقيامِه، وفعلِ ما تَيَسَّرَ من الأعمالِ الصالحةِ فيه.
وثاني الأمْرَيْن يتعلق بالمجتمع، ففي زكاة الفطر إشاعة المحبة والمسرة في جميع أنحاء المجتمع، وبخاصة المساكين وأهل الحاجة، وذلك لأن العيد يوم فرح وسرور، فينبغي تعميم هذا الفرح والسرور ليشمل جميع فئات المجتمع ومنها الفقراء والمساكين، ولن يدخل السرور إلى قلوبهم إلا إذا أعطاهم إخوانهم، وأشعَروهم أن المجتمع يدٌ واحدةٌ يتألم بعضه بألم بعضه الآخر، ويفرح لفرحه.
عباد الله: ومن العبادة المشروعة آخِرَ الشهر التكبيرُ ليلةَ العيد ويومَه إلى أن يدخل الإمام لصلاة العيد، يرفع الرجال أصواتَهم بذلك، وتخفض النساء أصواتهن، ويكون ذلك في البيت والمسجد والسوق والعمل، وكل مكان يمكن ذكر الله فيه، وهي سنة من السنن التي هجرها كثير من الناس، مع أن الله تعالى أمر بها في كتابه فقال تعالى: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185].
ويبدأ وقت التكبير من بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فإذا ثبت هلال شوال ليلة الثلاثين فيبدأ التكبير من ليلة الثلاثين التي هي ليلة العيد، وإلا فمن الليلة التي تليها بعد إتمام شهر الصيام.
وصفة التكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. أو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا. أو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر وأجل، الله أكبر على ما هدانا. وكلّها ألفاظ صحيحة ثابتة عن السلف -رضي الله عنهم-.
عباد الله: أكثروا من الدعاء بقبول العمل، فلقد كان سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- يدعون ربهم بعد رمضان ستة أشهر أن يتقبله الله منهم، وما ذلك إلا اعترافا منهم بالتقصير في حق مولاهم، واتهاما لأنفسهم بعدم القيام بحقه كما ينبغي، كان ابن عمر يقول: مَن لي بركعتين مُتَقَبَّلَتَيْن؟! فإن الله تعالى يقول: (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المـُتَّقِينَ) [المائدة:27].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن ليلتنا هذه الآتية هي ليلةُ سبعٍ وعشرينَ، وهي أقربُ أوْتارِ السبعِ الأواخرِ التي ترجى فيها ليلة القدر، لحديثِ أبيِّ بن كعب -رضي الله عنه- أنه قال: والله لأعلم أيُّ ليلةٍ هي الليلةُ التي أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيامِها، هي ليلةُ سبعٍ وعشرينَ" رواه مسلم.
عباد الله: يقول الله جل في علاه: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:1-3].
عباد الله: ليلةُ القدرِ يُفْتح فيها الْبَاب، ويقرَّبُ فيها الأحْبَابُ، ويُسْمَع الخطابُ، ويُكْتَبُ للعاملينَ فيها عظيمُ الثواب؛ ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألف شَهْر، فاجتهدُوا -رحمكم الله- في طلبِها، فهذَا أوانُ الطَّلب، واحذَرَوا من الغفلةِ، ففي الغفلة العَطَب.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- آمرا بالحرص على هذه الليلة العظيمة: "تَحَرِّوا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخر من رمضانَ" متفقٌ عليه. ويقول أيضا -صلى الله عليه وسلم-: "تحروا ليلةَ القدرِ في الْوِترِ من العشرِ الأواخر من رمضان" رواه البخاري. ويقول أيضا -صلى الله عليه وسلم-: "التمِسُوَها في العشر الأواخر (يعني ليلةَ القدْرِ)، فإن ضعف أحدُكم أو عجز فلا يُغْلَبَنَّ على السبعِ البواقِي" رواه مسلم.
عباد الله: احرصوا على اغتنام ما بقي من هذا الشهر الكريم عسى أن يوفق العبد إلى مرضات ربه جل وعلا، وأن يوفق إلى قيام هذه الليلة الشريفة فيوافق مغفرة الله تعالى، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
عباد الله: لقد شرع الله لنا إتمامًا لنعمة الصيام صلاةَ، العيد فليكن حرصنا عليها كبيرًا، فقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يأمر بها أصحابَه -رضي الله عنهم-، حتى النساءَ، بل حتى الْحُيَّضَ وذواتِ الخدور، ولما قالت امرأة: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب! قال: "لِتُعِرْها أختها من جلبابها".
ولنعلم أن العيد بما فيه من المشروعات عبادة ودين يثيب الله عليه، فإنه يستحب التجمّل للعيد، ولبس أحسن الثياب، والطيب، فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يفعلون ذلك، ويقرّهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه.
أما النساء فيبتعدن عن الزينة إذا خرجن، لأنهن منهيات عن إظهار الزينة للرجال الأجانب، ويُحَرَّم على من أرادت الخروج أن تمسّ طيبًا إذا كانت سوف تتعرّض للرجال في طريقها.
ويستحبّ الاغتسال قبل الخروج لصلاة العيد، فقد صحّ في الموطأ وغيره أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى، وصحّ ذلك أيضًا عن علي -رضي الله عنه-، قال النووي رحمه الله: اتفق العلماء على استحباب الاغتسال لصلاة العيد. فكل هذا مما يثيب الله عليه، فلا يكن مجرد عادة تتخذ، بل هي عبادات مأمور بها يحبها الله تعالى.
عباد الله: والسُّنَّة أن لا يخرج لصلاة العيد حتى يأكل تَمَرات، لما روى البخاري عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، وإنما استحب الأكل قبل الخروج مبالغة في النهي عن صوم ذلك اليوم، ومبادرة لأمر الله تعالى بالفطر فيه كما بادرنا بالصيام في رمضان، فنصوم بأمر الله، ونفطر بأمر الله.
عباد الله: إن عيدنا -أهل الإسلام- هو عيد وفرحة وسرور، وهو أيضا عبادة لله تعالى، فواجب علينا ونحن نستقبل أعيادنا العظيمة أن نراعي فيها حدود الله تعالى، ولا نبتعد عن شرعه طرفة عين، لتكون أيام عيدنا أيام فرح وعبادة نتقرب فيها إلى ربنا جل في علاه، فمما يجب الحرص عليه في هذه الأعياد: صلة الأرحام، وترك التقاطع لأي سبب من الأسباب، فمن كان له رحم قد قطعه فالعيد فرصة لصلة الأرحام المقطوعة، وما أجمل ما تفعله بعض العوائل من الاجتماعات العائلية على الخير والبر والصلة!.
ومن الأمور التي يجب الحذر منها في العيد وغيره:
أولا: إحياء أيام العيد بالأغاني المحرمة؛ ففي صحيح البخاري من حديث أبي عَامِرٍ أو أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيَكُونَنَّ من أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ". ولم يستحلوها إلا لأنها محرمة في شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ثانيا: التزين بحلق اللحية؛ فإن حلقَها معصيةٌ وحرام، وكثير من الناس يحلقونها لعادةٍ ألِفوها، والواجب تركها، اقتفاءً لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ليألفوا الخير، فإن الخير عادة، ففي الصحيحين، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ"، وفي لفظ لهما: "أَعْفُوا اللِّحَى".
ثالثا: التزين بالثياب المسبلة، فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إسبال الثياب في أحاديث عديدة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك ففي النار"، قال ذلك ثلاث مرات: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا" صححه ابن حبان.
رابعا: تزين بعض النساء، بل كثير منهن، بالنَّمْص المحرم الذي لَعَنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعلته ومَن أعانها عليه، والواجب الحذر منه، وعلى أولياء النساء منعهن من ذلك.
ومن ذلك أيضا التزيُّن بالتشقير المحرم في قول جمهور الفقهاء المعاصرين، ومنهم اللجنة الدائمة للإفتاء، وذلك لأنه تشبُّهٌ بالنَّمْص المحرَّم، وقد قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد. فالمشقِّرة متشبهة بالنامصة الملعونة.