البحث

عبارات مقترحة:

الواسع

كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...

الخلاق

كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...

القادر

كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...

من أصول التعامل بالمال في الإسلام

العربية

المؤلف صالح بن محمد الجبري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الزكاة - المعاملات
عناصر الخطبة
  1. المال قضية اجتماعية إنسانية أساسية .
  2. معنى الاقتصاد في الإسلام .
  3. أركان وضوابط التعامل مع المال في الإسلام ونتائج السلبية لعدم تطبيق ذلك .
  4. أهمية وفوائد إخراج الزكاة لمستحقيها .
  5. عقوبة مانع الزكاة في الدنيا والآخرة .
  6. أضرار منع الزكاة على مانعها وعلى المجتمع .
  7. العلاقة بين الإيمان والاقتصاد الإسلامي وشواهد ذلك .
  8. أصول ومعايير الحكم على الاقتصاد في الإسلام والنظريات الغربية وبعض أخطاء البنوك الإسلامية .

اقتباس

أيها الإخوة المؤمنون: المال قضية اجتماعية إنسانية أساسية، وتعامل الإنسان مع المال تعامل أساسي فطري لا بدَّ منه، فالعيش إذ يُطلَقْ فركنه المال، قال الله -عز وجل-: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)[العاديات:8]. قال المفسرون: بأن الخير هنا هو المال، وكلّ المعاملات والتعاملات المتعلقة بالمال أصبحت اليوم علماً مستقلاً، وقائماً بذاته. هذا العلم الذي يُنظِّم قواعد التعامل مع المال يسمى اليوم علم الاقتصاد، هذا بشكل مبسَّط ومختصر. ولو سأل سائل عن...

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فيا أيها الإخوة المؤمنون: المال قضية اجتماعية إنسانية أساسية، وتعامل الإنسان مع المال تعامل أساسي فطري لا بدَّ منه، فالعيش إذ يُطلَقْ فركنه المال، قال الله -عز وجل-: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)[العاديات:8].

قال المفسرون: بأن الخير هنا هو المال، وكلّ المعاملات والتعاملات المتعلقة بالمال أصبحت اليوم علماً مستقلاً، وقائماً بذاته.

هذا العلم الذي يُنظِّم قواعد التعامل مع المال يسمى اليوم علم الاقتصاد، هذا بشكل مبسَّط ومختصر.

ولو سأل سائل عن معنى الاقتصاد في الإسلام.

نقول: أنه يقصد به أصول التعامل مع المال في الإسلام.

ونريد أن نوضح أن أصول التعامل مع المال في الإسلام أصول إنسانية؛ لأنها جاءت لنفع الإنسان حين يكون فرداً، وعندما تكون أسرة، أو مجتمعاً أو دولة.

وبمعنى آخر: فإن أصول الإسلام التي تضبط حركة المال في المجتمع المسلم، تقوم ابتداءً على ركنين أساسيين -نتمنى من كل أفراد المجتمع، وكل أفراد المجتمع يتعاملون بالمال رجالاً ونساءً، أطفالاً وكباراً، مسؤولين ومسؤولاً عنهم، أن يفهموا ويدركوا هذين الركنين الأساسين في حسابهم وتعاملهم- وهذين الركنين هما:

أولا: اجتناب كسب الحرام في الكسب.

وثانيا: وفعل ما أمرنا الله به في الإنفاق.

بعبارةٍ أخرى: كن متحرياً للحلال في كسبك، وأدِّ ما وجب عليك أن تؤديه في إنفاقك.

ولو أن كل الذين يتعاملون في المال قاموا بهذين الأمرين البسيطين في فهمهما، والسهلين في إمكانية تطبيقهما، فلن يكون هنالك فقر في المجتمع، ولن يكون استهلاك يؤدي إلى تضييع وضياع، ولن يكون هنالك تضخم يؤدي إلى بعد الشقة بين أفراد المجتمع.

والدليل ما نراه اليوم من طغيان مادي من قِبل أشخاص على حساب آخرين.

الفارق بين الإنسان والإنسان في مجتمعاتنا اتسع، والخَرق اتسع على الراقع، وما عاد الأمر أمر فروق بين الغني والفقير، بل أضحت الفروق كبيرة جدا، بين إنسان وإنسان حتى ولو كانا أخوين.

فسترى أحدهما غني إلى حدّ الغنى الفاحش، والآخر فقير إلى حد الحاجة والضرورة.

وهذا نتيجة طبيعية لعدم تطبيقنا للأصلين السابقين.

هل لنا أن نتخيل أن مجتمعا ما، أساس التعامل فيه مع المال قائم على اجتناب الحرام، وعدم الغش، أو الربا، أو الربحَ الفاحش، أو الاحتكار، أو الرشوة، أو الاختلاس، أو الاستغلال، أو الكذب، لو أن هذا المتعامل بالمال اجتنب كل هذه الرذائل المحرَّمة، وأدّى النفقات المتوجبة عليه من زكاة أولاً، بشكل دقيق محسوب فيما يخص المال، وقام بتأدية ما وجب عليه من إنفاقات بدءًا من الزكاة وانتهاءًا بما يجب أن ينفقه على من أوجب الله نفقته عليه من زوجة وولد، وقريب وصديق، وجار وسائل...إلخ.

لو أن هذا الإنسان في مجتمعنا قام بذلك، فلن يكون هنالك فقر أو حاجة، أو هذا الذي ذكر من عيوب تمسّ المجتمع فيما يخص الاقتصاد.

ولو رجعنا إلى الأحاديث النبوية الشريفة المتحدثة عن ذلك، لوجدنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه".

وموطن الشاهد: "وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه".

أنت يا من تملك مئة ريال أو ألف ريال، و يا من تملك مليون ريال أو مليار ريال، أو بالعملات الأخرى، أيا كانت، من أين اكتسبت مالك؟

إسأل نفسك عن مصدر كسبك لهذا المال الذي بين يديك، لأنك ستُسأل عن كسبه، كيف اكتسبته قرشاً قرشاً؟

وأنا أريد منك أن تحدِّث نفسك، بينك وبين نفسك، عن هذا المال حتى ولو كان قليلاً، هل كان هنالك شيء من الحرام لامس وخالط هذا الكسب؟ هل كان هنالك أمر محظور اكتنف هذا الكسب؟ هل اشتغلتَ بالربا؟ هل اشتغلتَ بالظلم؟ هل اشتغلتَ بالاحتكار؟ هل اشتغلتَ بالغش؟ هل اشتغلتَ بالربح الفاحش؟ هل اشتغلتَ بالاستغلال؟ أنت أدرى بنفسك، ولا تقولنَّ بأنني لا أعرف فيما إذا كان هذا الأمر استغلالاً أو لا، لا تقل هذا، ولا تظهر احتجاجك الذي يدلُّ على غبائك، فأنت لست غبياً، وأنت تعلم أن سيدنا النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "استفتِ قلبك، وإن أفتوك وأفتوك، البر ما أطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك، وتردد في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، استفتِ قلبك وإن أفتوك وأفتوك".

أنت تعلم، ولا بد أن تُطبِّق علمك على نفسك فيما يخص كسبك المال.

دعونا الآن نتحدث في مثل هذه الخطب عن أنفسنا، وكفانا أن نتحدث عن غيرنا وعما يحدث في العالم، وعما يحدث في أمريكا وأوروبا، وعما يحدث في أمكنةٍ قريبة منا، نريد أن ننشغل بغيرنا عن أنفسنا، مع أن أنفسنا بحاجة إلى بناء؟

 لذلك، فالحديث عن الآخر من دون الالتفات إلى بناء النفس المتحدثة حماقة وضياع.

نحن نتحدث عن أمر أساسي، وإذا أردنا وصدقنا في نية التطبيق فسيعود علينا الأمر بالنجاح في مجتمعنا ودنيانا، وبالفوز في أخرانا، وإلا فالقضية خطيرة، وأنا أعلم أن كثيراً منا يريد أن نتحدث عن أمر لا يلامسنا، يحب أن نتحدث عن كارثة وقعت هنا أو هناك؛ لأن حديثنا عن هذا الأمر سيجعلنا ننشغل بغيرنا عن محاسبة أنفسنا، وحسبنا حينما نسمع حديثاً عن قضية لا تلامس أنفسنا وسلوكنا أن نقول في النهاية: "حسبنا الله ونعم الوكيل".

وبذلك نُغلق هذا الملف بأكمله.

أما إذا عن حُدِّثنا عن قضية تمسّ سلوكنا وحياتنا وواقعنا، ربما رفض بعض كثير منا هذا؛ لأنه يشعر أن القضية أصبحت جِدَّية، وها هو الكلام يتسلل إلى سلوكنا من أجل أن نغيِّر، والكلام قد غدا حُجة، وأصبحنا على مرأى من هذا الذي يجب أن نعمل، ومن هذا الذي يجب أن نُهمل وأن نترك، يقول عليه الصلاة والسلام: "إذا أدّيتَ زكاة مالك، فقد قضيتَ ما عليك".

والسؤال، ونحن لا نتحدث هنا عن الأثرياء الذين يخرجون زكاة أمولهم كما أمر الله، بل يزيدون عليها من الصدقات، فبارك الله لهم في أموالهم وأعمالهم، لكنا نتحدث عن الآخرين، ونسأل ومن باب التناصح: هل يقوم من وجبت عليه الزكاة بدفع الزكاة وفق قوانينها الشرعية؟ هل يدفع مُحصِياً ما يملك بشكل دقيق وموثّق؟ وهل ينفق الطيب والأنفع للفقير؟ أم أنه فيما يخص الزكاة يشتغل على الإجمال من حيث الحساب، ويشتغل على الإهمال من حيث نوع ما يعطي ويقدِّم؟ فإن وجد لديه بضاعة كاسدة جعلها زكاة، وإن وجد أن زكاته ستكون كثيرة حاول أن يقلل من ممتلكاته ليقولَ عن تلك الأرض التي أعدّها للتجارة لا ليست للتجارة، بل من أجل ولدي حتى أبني عليها أرضاً ومزرعة له.

ثم يسأل بخبث هل على المزرعة زكاة؟!

لا، إذاً هذه الأرض مزرعة؛ لأنه وجد أن الزكاة ستكون كبيرة، ولا سيولة.

هكذا يقول، وهو يعلم أنه يكذب على نفسه وعلى الناس؛ لأن نصاب الزكاة ليس كبيرا، فهي تتراوح من "2، 5 %" في النقود والتجارة، إلى "5%" في الزرع المسقى بالآلات، إلى "10%" فيما سقي بغير الة، إلى "20%" في الركاز "المعادن" وفيما يعثر عليه من الكنوز، فكلما كان جهد الإنسان أكبر كانت النسبة أقل.

ومع ذلك يتهرب عبيد المال من إخراجها للفقراء والمحتاجين، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلما- عندما قال فيهم وفي أمثالهم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم".

وهنا سؤال مستحق، وهو: هل يؤدي من وجبت عليه الزكاة زكاته بالطرق والقوانين والضوابط والقواعد الشرعية؟ هل يعطي الزكاة للمستحقين فعلا؟

للأسف، لا، فبعضهم يعطي الزكاة لأصحاب المناصب والمصالح، لتعود عليه بالفائدة.

وبعضهم يعطيها للأغنياء من طبقته، حتى يعودون عليه بزكاتهم عند حلول وقتها، تماما كما فعل اليهود من أصحاب السبت.

وبعضهم يخصص زكاته لإعلانات شركاته، أو جوائز للمسابقات، أما الفقراء، فليبكوا على أنفسهم.

بل إن بعضهم يرفض إخراج الزكاة، مع علمه بمصير مانع الزكاة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا إن تركها جحودا لها فهو كافر بالإجماع، فيستتاب وإلا قتل ردة، وإن تركها تكاسلا وبخلا، فهي كبيرة من الكبائر، وتؤخذ بالقوة منه ولا يقتل، ولكنه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، لكن لو امتنع عن دفعها بالقتال قوتل كما ذكر أهل العلم، قال تعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ)[التوبة:5].

وللعلم، فالدولة الإسلامية في عهد سيدنا أبي بكر هي أول دولة فيما يعرف التاريخ، تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين، والفئات الضعيفة في المجتمع، التي طالما أكلتها الطبقات القوية، ولم تجد عونا لدى الحكام الذين كانوا يقفون دوما في صف الأغنياء والأقوياء.

ولا شك أن منع الزكاة عن مستحقيها له ضرر على مانعها وعلى المجتمع أيضا.

فأما الضرر على مانعها، فهو وعد الله له بالعذاب الأليم على مانعها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[التوبة: 34].

وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا أحميت يوم القيامة، فجعلت صفائح من نار، فكوي بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"[أخرجه مسلم].

وكذا يُحرم بركة الرزق عقوبة له من الله، وحكم الشرع فيه أن تؤخذ منه قهرا، ويعاقب بأنواع من العقوبات منها في الدنيا ومنها في الآخرة.

وأما الأضرار التي تلحق المجتمع؛ فمنها: أنهم يتسببون بمنع القطر من السماء بسبب منع الزكاة، مما يؤدي إلى انتشار الجوع؛ كما في الحديث: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا"[رواه ابن ماجة وصححه الألباني].

وإذا لم يجد الفقراء حاجتهم من الزكاة أدى هذا إلى سخط الفقراء على الأغنياء، واتساع دائرة الكراهة والشحناء بين المسلمين، وسادت الطبقية، وانتشرت الجريمة، وقل المعروف بين الناس، وترتب على ذلك كل مساوئ الفقر والفاقة.

وفي خبر نشرته إحدى الصحف المحلية، أنه يمكن حل مشاكل الفقر ومعاناة الضعفاء لو أن أثرياء المملكة أخرجوا زكوات أموالهم التي تفوق 60 مليارا في العام الواحد.

وتخيلوا لو وزع هذا المبلغ الهائل بالعدل والإنصاف على المحتاجين، كيف سيكون الحال؟

أيها المسلمون: المحتاجون كثيرون من أقاربنا من إخواننا، جيراننا، من أبناء ديننا، من أولئك الذين ننظر إليهم على أنهم أتقى منا، لكنهم في حاجة، لكنهم في بؤرة الضرورة يعانون، ونحن ننظر إليهم ولا نتحرك، ولا نفعل، ولا نطبق، ولا ننفذ.

بل ننظر إليهم ونكتفي بقولنا: "حسبنا الله ونعم الوكيل" نسأل الله ألا يبتلينا، وإن دفعنا إليهم شيئاً فإننا أولاً، ندفع أقلّ بكثير جداً مما وجب علينا، أو ربما سندفع من مالٍ هو في أصله خبيث، تقول عن أخيك هذا الذي بجانبك سواء كان أخا في النسب أ في الدين، إنه أخي.

يسألك وأين تُصرف هذه الكلمة؟ إن كنتُ محتاجاً فأين عطائك لي؟ وإن كنتُ في ضرورة فأين إسعافك لي؟

ثم تأتي وتتحدث عن أخوتك لي، فأين تُصرف هذه الكلمة؟

نقول ونحدث الغرب والشرق عن أخوة الإسلام، وعن أخوتنا في الإيمان، وتقول لهم المسلمون إخوة، ثم يأتي هذا الذي تحدِّثه عن أخوةِ الإسلام إليك، فيسأل عن أخيك في النسب والدين، وأنت الذي تسكن في الحيّ الراقي، يسألك عن أخيك فتقول له بأنه يسكن في منطقةٍ متواضعة، في بيت يتألف من غرفة أو غرفتين، يسألك عن أخيك الذي درس معك، فتقول له: "حسبي الله ونعم الوكيل" إنه في فقرٍ مُدقِع، وقد وقع فريسةَ مرضٍ خطير، ولكنه لم يستطع أن يُؤمِّن ما يدفع به هذا المرض فراحَ ميتاً.

الحال قاسية، ما أكثر كلامنا حينما نتحدث عن الأقدار التي تنزل بإخواننا، وما أقلَّ حركتنا ونحن نسعى لنجدة إخوتنا الذين يعيشون معنا؟! هل هذه هي الأخوة الإسلامية التي تعلمناها من ديننا؟

نحن كنا نسمع عن أخوةٍ بين الصحابة الكرام، عن أخوة إيثارية، كنا نسمع ونردد يوم كنا صغاراً قولاً ينسب للإمام علي بن أبي طالب حينما كان يقول:

إن أخاك الحق من كان معك

ومن يضرُّ نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك

شتَّتَ فيه شمله ليجمعك

كنا نسمع الآيات التي طبقها الصحابة تطبيقاً كاملاً: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:9].

كان الواحد يقول لأخيه: هذا مالي فخذ نصفه، لن نقول الآن افعلوا هذا، لكننا نقول: "إذا أديتَ زكاة مالك فقد قضيت ما عليك".

ليتك أديت الزكاة التي عليك، وبتأدية النفقة، وبالسعي للكسب الحلال، ومن مصدر حلال، سيقول بعض الناس إذا سعينا إلى الكسب الحلال ومن مصدر حلال فسنموت، لن نعيش في حاجة؛ لأننا سنموت، نقول لهؤلاء: هذا الجهد الذي تبذلونه في الكسب الحرام، اجتهدوا أن تحوّلوا مسارَه إلى الحلال، أكثروا من التوبة والاستغفار فإن ذلك يجلب الرزق والبركة، قللوا من استهلاككم للكماليات، ابحثوا عن عمل أفضل، طوروا قدراتكم، تكاتفوا مع غيركم ويد الله على الجماعة، كما جاء في الحديث الصحيح.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10-12].

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله...

وبعد:

ومن الأصول الاساسية أيضا للاقتصاد الإسلامي: انطلاقه من الإيمان، وهذه خاصية له لو نزعت منه لم ينجح.

وننوه هنا إلى أن الإيمان هو الاسم الوارد في الكتاب والسنة، بدل كلمة العقيدة، وذلك لدلالته على الهدف الأسمى من الإيمان وهو الأمن، فلفظ الإيمان يطوي تحته هذا المعنى العظيم، كما قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].

فالإيمان كلمة خفيفة على النفس، وحروفها سهلة، وتشعر النفس بانجذاب نحوها، كما أنها تدل أيضا على الانقياد، بمعنى أن الله -تعالى- يريد بالإيمان التصديق الذي يتبعه انقياد، وكلمة الإيمان تدل على هذا المعنى، ذلك أن معناها ليس التصديق فقط، وإنما تصديق مع انقياد.

ومما يدل على ارتباط الاقتصاد بالإيمان: قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[الأعراف:96].

ففي هذه الآية الكريمة: بيان أن الإيمان والتقوى أهم أسباب الازدهار في الاقتصاد الإسلامي، وهما سبب للبركات والرفاه، كما يقول الاقتصاديون، أن هدف الاقتصاد هو تحقيق مجتمع الرفاهية.

فالله -تعالى- يقول في هذه الآية، إذا أردتم اقتصادا سليما، يحقق الرفاهية، فعليكم بتقوى الله -عز وجل- والإيمان.

كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"[رواه ابن ماجة].

وفي هذا تأكيد للعلاقة بين الإيمان والاقتصاد الإسلامي.

وهذا -كما هو واضح- لا علاقة له بالأمور المادية، ولكن علاقته بالأمور الإيمانية.

ومن أمثلة ذلك: ما نسمعه عن الذين دخلوا البورصة بأثمان بيعهم لبيوتهم، ثم خسروا وانكسروا، فهذا البعد، بعد إيماني غيبي لم ينبه عليه إلا في الاقتصاد الإسلامي، ولا يعترف به الاقتصاد الملحد الذي لا يبني الاقتصاد على الإيمان بالله -تعالى-، الممحوق البركة، الذي ملأ العالم جشعا وفسادا.

ومن الأمثلة أيضا: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"[رواه مسلم من حديث أبي هريرة].

فهذا المعيار خاص في الاقتصاد الإسلامي، وفيه يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الزيادة والنقصان للمال، تؤثر فيهما الصدقة على الفقراء ابتغاء وجه الله -تعالى-، وذلك من جهتين:

أحدهما: أن الله -تعالى- يدفع عن المسلم من البلاء والمصائب، بسبب الصدقة، بما لو لم يتصدق لاجتاحت ماله وهو لا يدري.

 الثانية: أن الله -تعالى- يجعل في المال القليل نفعا أكثر من المال الكثير.

ثانيا: أن الاقتصاد الإسلامي، اقتصاد مستقل مصدره الوحي، فليس هو حصيلة أفكار مرقعة شرقية، أو غربية، ولا مصدره من بشر قد يبدلونه، ويغيرونه تبعا لأهوائهم وأفكارهم.

ولنعلم أن من أهم خصائص الإسلام بشكل عام، أنه لا يعتمد إلا على الوحي، فهو نظام مستقل قائم بذاته مصدره الوحي الإلهي.

وفي الإسلام، كل النظريات في الاقتصاد وغيره، إنما تقاس على الوحي، فما عارض الوحي منها ردّدناه ورفضناه، فالمعيار المطلق، والميزان الدقيق، هو موافقة الوحي فقط، والواقع الذي نعيشه هو موضع تطبيق الأحكام من حلال أو حرام، وليس مصدرا للأحكام والتشريعات.

بينما في الاقتصاد الرأسمالي مثلا، المعيار هو النفعية، ذلك أن العلمانية هي وعاء الاقتصاد الرأسمالي، وهي مبينة على أساس أن الواقع القائم على الفائدة النفعية، هو مصدر الحكم.

وأسس العلمانية الثلاث التي تقوم عليها، هي: المادة، والنفعية، واللذة؛ يقابلها عندنا الإيمان بالله –تعالى، والرسول، والسعادة الأخروية؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "الأصول الثلاثة التي اتفق عليها الرسل هي الإيمان بالله والرسل والمعاد".

ومن هنا فنحن ننبه إلى أن بعض البنوك الإسلامية تأثرت بالرأسمالية الجشعة، وذلك من جهة الحرص على المنفعة وجعلها مصدر الحكم أحيانا، تحت غطاء من الحيل.

ومن الأمثلة على ذلك: أن الفكرة في أرباح البنك الإسلامي مبنية على المضاربة، حيث يدخل السوق، ويوفر فرص العمل وينوع السلع، وينافس بالأسعار، ويحرك الاقتصاد، ويضخ إلى السوق النقد والبضائع، ويحرك الدورة الاقتصادية، فيأخذ أموال المستثمرين ويوظفها في مصلحة الجميع.

وهذا يحتاج إلى إيمان وصبر، وبه يتحقق الخير العام للمجتمع.

ولكن للأسف، فقد استبطأت بعض البنوك الإسلامية هذه العملية، ولهذا لجأت إلى حيل توفر عليها الجهد، وتعجل الفائدة، مثل توسيع الأمر في نظام المرابحة، وقد وسعت بعض البنوك الإسلامية أرباحها من هذا المصدر؛ لأنها وجدته أسهل وأسرع في تحصيل الربح المضمون، ذلك أنها جعلت نظام البيع بالمرابحة، ما هو إلا جعل البنك الإسلامي نفسه وسيطا بين البائع أو التاجر والعميل، فهو لا يحتاج إلا إلى أوراق وطاولة وموظف، يعرف الزبون أن يوقع على الوعد بالشراء، ثم يتصل البنك الإسلامي بالشركة التي تبيع السلعة، وبالهاتف يقول للبائع هناك اشترينا منك السلعة الفلانية، قل: بعت، فيقول البائع هناك بعت، ثم يوقع الزبون عند البنك الإسلامي، على عقد البيع، ويعطي البنك الإسلامي ثمن السلعة نقدا، ويقسط الزبون بالفوائد، هكذا دون أي عناء، سوى توقيع واتصال هاتفي فقط، ويسمون هذا بيعا شر عيا، ومضاربة شرعية -للأسف-.

وأنت إذا تأملت في هذه العملية وجدت أن البنك الإسلامي، لم ينفع أحدا إلا نفسه، ولم يزد شيئا في السوق، ولم يقم بأي دور في الاقتصاد العام للمجتمع، وإنما حمل الزبون دينا مع زيادة الفوائد، وهي نفس فكرة البنك الربوي، أو الفرد المرابي الذي يقول: أنا لا أريد أن أعمل، إنما أجلس وأعطي نقودا، وآخذ نقودا زيادة، فلا أدخل السوق ولا أوفر فرصا للعمل، ولا أساهم في تنمية البلد، بل أجمع نقودا فقط "تماما كما ذكر الأمير مقرن بن عبد العزيز وفقه الله لكل خير عن البنوك، أنها كالمنشار، طالع آكل، نازل آكل".

وهو أسلوب سهل لكسب المال دون تعب، ويؤدي إلى تكديس الأموال بيد المرابي، وتكديس الديون على الناس.

والمرابحة بهذه بالطريقة توسعوا فيها -كما ذكرنا- قد ظهرت صورتها النهائية، نفس صورة العملية الربوية، ونتائجها هي نفس نتائجها، وهي جعل المجتمع مدينا، وجعل البنك هو الدائن العام لأفراد المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله.

في الحقيقة لقد أساء البعض إلى الاقتصاد الإسلامي بسوء التطبيق المرتبط بالجشع والطمع، ولو أنهم التزموا بما في الاقتصاد الاسلامي من مبادئ وقيم رائعة، لنفعوا البلاد والعباد، ونفعوا أنفسهم قبل ذلك.

لذلك نقول لهم: راجعوا أنفسكم، وطبقوا المبادئ الحقيقية للاقتصاد الإسلامي، القائمة على العدل، والرأفة، والرحمة، و"ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

فهل يراجعون أنفسهم؟ ويتوبون إلى الله ويستغفرونه؟

نرجو ذلك ونتمناه، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.