الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
من أهم أسباب الاستقامة: أن يُصلح الإنسان قلبه، فالقلب ملك الأعضاء، فمتى استقام القلب على معرفة الله عز وجل وخشية الله، وإجلاله ومهابته ومحبته، وإرادته ورجائه ودعائه، والتوكل عليه والإعراض عما سواه استقامت الجوارح كلها على طاعته، وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان؛ فإنه ترجمان القلب والمعبر عنها.
الخطبة الأولى:
الحمد لله لم يزل واحدًا أحدًا ولم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأشهد أن الله وحده لا شريك له، اختار من شاء إلى سبيل الاستقامة والهدى، وقضى على بعض الناس بالضلال والردى وهو العليم بخلقه الحكيم بقضائه وقدره، فلا يظلم ربك أحدًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله أشرف متبوع وأفضل مقتضى صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه صلاة مستمرة على مر الزمان أبدًا، وعلى من تبعهم بإحسان وسلك سبيلهم واقتفى.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المسلمون: اتقوا الله تعالى، واستقيموا على طاعته، واستغفروه، ولا تكونوا من الغافلين.
أيها الإخوة: إن مما أمرنا سبحانه به الاستقامة (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110]، وقال الله جل وعلا لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:112]، فهذا أمر له عليه الصلاة والسلام ولجميع أمته.
قال ابن عباس --رضي الله عنه-ما- عن هذه الآية: "ما أنزل الله على رسوله في جميع القرآن آية كانت أشد عليه من هذه الآية".
ولهذا جاء في سنن الترمذي أنهم قالوا: يا رسول الله قد أسرع إليك الشيب، فقال: "شيبتني هود وأخواتها"، قال الحسن البصري: "لما نزلت هذه السورة –أي: سورة هود- شمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فما رؤيا ضاحكًا".
إن الاستقامة كلمة جامعة تعني تحقيق التوحيد، وإخلاص العمل، وفعل الواجبات وترك المحرمات؛ خوفًا من الله ورجاء لثوابه، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب".
وقال علي وابن عباس -رضي الله عنهما-: "استقاموا": أدوا الفرائض"، وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته".
الاستقامة هي حقيقة السداد، وهو الإصابة بجميع الأقوال والأفعال والمقاصد، قال عليه الصلاة والسلام: "قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلا أَنْتَ، قَالَ: "وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ".
فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة وهي السداد، والإصابة بالنيات والأقوال والأعمال، فالمقاربة هي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، فإن لم يحصل فما ثم إلا التفريط والإضاعة والتلون كما قيل "كل يوم تتلون.. غير هذا بك أجمل".
أيها الإخوة : تكمن ضرورة الاستقامة في حاجة الإنسان إلى أن يستمر على معرفة ربه وطاعته وعبادته منذ استنار قلبه بالإيمان وحتى يموت، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "إن أهم ضروريات الحياة للإنسان هدايته إلى الصراط المستقيم، وتعريفه بربه وبرسوله وبكتابه، وإن حاجة الإنسان لذلك أشد من حاجته إلى الطعام والشراب؛ لأنه إن عدم الطعام والشراب غاية أمره الموت، والموت لا بد منه فإن كان ممن هداه الله فإلى الجنة وهي خير له من الدنيا، وإن كان قد حُرم الهداية فهو الخسران".
ولما كانت حاجته إلى الهداية بهذه المثابة، فإن الله قد أوضح له الطريق، وأقام له الدليل ويسر له ذلك كما يسر له الهواء والماء والطعام، فأقام له أدلة وجود الله، وأدلة صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدلة صحة نزول القرآن من عند الله تعالى.
أيها المسلمون: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة والاستمرار عليها، فهذا من أسباب الغفران والرحمة وسعة الأرزاق وظهور البركات (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن:16]، ولقد طلب سفيان بن عبدالله الثقفي -رضي الله عنه- من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعلمه كلامًا جامعًا لأمر الإسلام كافيًا لا يحتاج بعده إلى غيره فقال: "يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك" قال: "قل آمنت بالله ثم استقم". رواه مسلم.
وعند الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: "قل ربي الله ثم استقم" قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ فمسك بلسان نفسه ثم قال: "هذا".
قال ابن رجب -رحمه الله-: "الاستقامة هي سلوك الطريق المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فسارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها".
أيها المسلمون: الزموا طريق الاستقامة لتفوزوا بالرحمة والكرامة في جنات النعيم التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
عن رفاعة الجهني -رضي الله عنه- قال: أقْبَلْنَا معَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى إِذَا كُنَّا بِـ(الْكَدِيدِ)، أَوْ بِـ(قُدَيْدٍ)، فَحَمِدَ اللهَ، وقالَ خَيْرًا، وقالَ: "أَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ: لَا يَمُوتُ عَبْدٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، ثُمَّ يُسَدِّدُ، إِلَّا سُلِكَ فِي الْجَنَّةِ" رواه أحمد.
ومعنى يسدد أي: يستقيم، وقوله: إلا سلك في الجنة: أي: دخلها وسلك فيها.
أيها المسلمون: من أهم أسباب الاستقامة أن يُصلح الإنسان قلبه، فالقلب ملك الأعضاء، فمتى استقام القلب على معرفة الله -عز وجل- وخشية الله، وإجلاله ومهابته ومحبته، وإرادته ورجائه ودعائه، والتوكل عليه والإعراض عما سواه استقامت الجوارح كلها على طاعته، وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان؛ فإنه ترجمان القلب والمعبر عنها.
ولهذا جاء في الحديث: "إذا أصبح ابن آدم؛ فإن الأعضاء كلها تكفّر اللسان، فتقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".
فعلى الحازم أن يحذر غاية الحذر من كل ما يبطل الحسنات فتضيع الأوقات بالمحرمات، وإهمال الصلوات والحسد والرياء، والعجب بالعمل، وغيرها من السيئات، كيف يرضى عاقل لنفسه أن يفلس بعد الغنى يجمع الحسنات ثم يفرقها هنا وهناك.
تأمل رعاك الله لو أعطيت ملايين الريالات بما أسلفت من أعمال صالحة في رمضان وغيره، فلا أشك أنه لا يمكن أن تبيعها بذلك، ولو بملء الأرض ذهبًا، فكيف إذاً توزعها بدون مقابل؛ بظلم هذا، وأكل مال هذا، وسوء الظن بهذا، قال عليه الصلاة والسلام: "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: المفلس فينا ما ليس له درهم ولا متاع، قال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، فيأتي وقد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا؛ فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطايا من ظلمهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار" رواه مسلم.
وإذا كان الجادون ينتهزون مواسم الطاعات ليتزودوا بالأعمال الصالحات، فليس معنى أنه ما إن تنتهي هذه المواسم حتى يضيع المسلم ما جمع من الحسنات، ويخيم عليه الكسل والقعود عن الخيرات فينقطع عن صلاة الجماعة ويهجر كتاب الله، ويعاود الذنوب والمعاصي التي تاب منها في موسم الطاعة، بل عليه أن يواصل الخير بدون ملل قبل انقطاع العمل بنزول الأجل، فأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) [النحل: 92].
ولا ريب أن من صام رمضان ثم قضى ما عليه إن كان عليه قضاء، ثم احتسب وصام ستًا من شوال فهو ممن رغب في طريق الاستقامة وزيادة العمل الصالح، قال عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر".
اللهم وفقنا لطاعتك والاستقامة على دينك، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن عبادة الله -عز وجل- والاستقامة على دينه ممتدة في حياة المسلم الحازم إلى الممات كما قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
فمن يستشعر هذا ويعلم أنه سيغادر هذه الدنيا عن قريب فحقًّا عليه أن يبادر اللحظات، ويستغرق جميع الأوقات في طاعة الله سبحانه كما كان أهل الاستقامة يفعلون ذلك.
كان أبو مسلم الخولاني -رحمه الله- لا يفتر عن ذكر الله، فرآه بعض الناس فاستغرب حاله فقال لأصحابه: "أمجنون صاحبكم؟" فسمعه أبو مسلم، وقال: "لا يا أخي، ولكن هذا دواء الجنون".
وكان أحمد بن حرب إذا جلس بين يدي الحلاق ليحفي شاربه لا يفتر عن تسبيح الله واستغفاره، فيقول له الحلاق "اسكت قليلاً" فيقول له: "اعمل أنت عملك، وأنا في عملي"، فلربما جرح شفته وهو لا يعلم.
وكان الجنيد -رحمه الله- كثير العبادة والتهجد والقراءة، وكان يقول: "والله لو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها".
فهكذا فليكن المسلم يسدد ويقارب، ويجاهد نفسه ويقوم على محاسبتها عند كل عمل وبعد كل عمل، وبهذا يحصل له ثواب المستقيمين، وهذا يظهر للمؤمنين في الدنيا قبل الآخرة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) [فصلت:30- 32].
وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف: 13- 14].
اللهم اجعلنا ممن استقام على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام ..