النصير
كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...
العربية
المؤلف | محمد أكجيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
من أولى مبادئ الإسلام التي أرساها لإقامة مجتمع صالح سعيد، المؤاخاة بين المؤمنين، حين هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة فآخى بين المهاجرين والأنصار أُخوة عامة، ثم بين رجلين رجلين إلى أن كان أحدهما يرث الآخر... وما ترك الإسلام أمرًا يغذّي هذه الأخوة ويقويها إلا أمر به، ووعد عليه أجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلاً.
الخطبة الأولى:
الحمد لله جعل بين المؤمنين أُخوة في الدين، هي وثاق عرى إيمانهم، وبرهان صدق إسلامهم، فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وضع لهذه الأُخوة أساسها، وأشاد بنيانها، ورعاها حق رعايتها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وجميع من اهتدى بهديه وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
أما بعد: فإن من أولى مبادئ الإسلام التي أرساها لإقامة مجتمع صالح سعيد، المؤاخاة بين المؤمنين، حين هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة فآخى بين المهاجرين والأنصار أُخوة عامة، ثم بين رجلين رجلين إلى أن كان أحدهما يرث الآخر.
الأخوة في الدين من آخر وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته حين خطب جموع المسلمين في حجة الوداع قائلاً: "ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا".
إنها الأخوة التي لا حدود زمان أو مكان أو لون أو عرق تحدّها، أتى النبي – صلى الله عليه وسلم - المقبرة يومًا رفقة بعض أصحابه فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ووددت أنا قد رأينا إخواننا" قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: " أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد".
وفي دعاء المؤمنين اللاحقين منهم للسابقين يقول تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10].
جعل الله الأخوة في الدين تذكرة للمؤمنين تجاه بعضهم بعضًا، كي لا تظلم نفس أختها ولا تحقرها ولا تخذلها.
ذكَّر الله بها في النهي عن الغيبة فقال: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات: 12].
ذكّر الله بها في الرحمة بالأيتام والعطف عليهم فقال: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) [البقرة: 220].
ذكّر الله بها في الإصلاح بين الفئتين المتنازعتين من المسلمين فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10].
المسلم من أخيه بمنزلة نفسه منه، يقول تعالى: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) [الحجرات: 11]، وقال سبحانه: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور: 12]، وليس عاقلاً مَن يسعى في أذية نفسه والإساءة إليها.
وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما ضربه من مثل؛ حيث قال: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
التمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله أساس هذه الأخوة وقوامها، وضمان قوتها وتماسكها، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
وقال سبحانه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59].
ما ترك الإسلام أمرًا يغذّي هذه الأخوة ويقويها إلا أمر به، ووعد عليه أجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلاً.
أحق لها الحقوق، وأوجب لها الواجبات، فقال نبينا صلى الله عليه وسلم: "حق المسلم على المسلم ست، قيل: وما هن يا رسول الله، قال: إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتبعه".
أوجب الإسلام لها المحبة وشرطها لدخول الجنة، فقال نبينا –صلى الله عليه وسلم–: "والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".
وأرادها الإسلام محبةً ظاهرة غير مكتومة، تسري بين أفراد الأمة وتتغلغل في أعماقها، فقال نبينا صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه".
أعلن النبي –صلى الله عليه وسلم– محبته لمعاذ -رضي الله عنه- فخاطبه قائلاً: "يا معاذ، إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
وعد الله على هذه المحبة حلاوة يجدها المؤمن في قلبه جزاء من الله وإحسانًا، ففي الحديث: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، وذكر منها: "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله".
وعد الله على هذه المحبة محبةً منه ورضوانًا، ففي الحديث: "أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال أريد أخًا لي في هذه القرية. قال: هل لك من نعمة تربّها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه".
وعد الله على هذه المحبة علو منزلة في الآخرة وإظلالاً، ففي الحديث القدسي: "المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء".
وفي حديث آخر: ينادي الله عليهم يوم القيامة بين الخلائق: "أين المتحابون في جلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي".
عباد الله، وليس في شيء -وإن قل- مما هو إحسان إلى هذه الأخوة حقارة، ففي الحديث: "لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". وفي الحديث أيضًا: "وتبسمك في وجه أخيك لك صدقة".
فاعرفوا لأُخوتكم قدرها، وعظّموا أمرها، فإنها القوة والنصرة للإسلام والعُدة في شدائد الأيام، والزاد في الدنيا إلى الدار الآخرة (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]، (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].
الخطبة الثانية
الحمد لله...
عباد الله، وما ترك الإسلام أمرًا يفسد هذه الأخوة إلا نهى عنه، وحذر منه، ورتب عليه عقوبات عاجلة وآجلة.
حذّر تعالى من تصديق الأخبار من غير تثبت فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
نهى عن السخرية والتنادي بما يسوء المؤمنين من الألقاب فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
حذّر من الركون إلى الظنون التي لا تقوم على أساس يسندها، ونهى عن تتبع عورات المؤمنين وغيبتهم فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12].
وخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم – أمته قائلاً: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا؛ المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه».
وقال - صلى الله عليه وسلم- أيضا: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: "أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا".
وقال - صلى الله عليه وسلم- أيضًا: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيُعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ".
ألا فامتثلوا أمر ربكم واسترشدوا بهدي نبيكم تدم مودتكم، وتُحفَظ أخوتكم، وتسعدوا وتفلحوا في الدنيا والآخرة.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام، وارفع بهم الظلم والظلام، وانشر بهم العدل والنور والأمن والسلام.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا؛ ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم انصر دينك وعبادك المستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم رد عنهم كيد الكائدين وظلم الظالمين وعدوان المعتدين، اللهم عليك بمن سفك دماءهم وهتك أعراضهم، فإنهم لا يعجزون قدرتك يا رب العالمين.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.