الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
ولو يتقصَّى ربنا في المحاسبة على النعم لنفدت الحسنات بأقل نعمة في البدن؛ فإن أعمال العبد لا توافي نعمةً من نعم الله عليه، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "لن ينجِّيَ أحدًا منكم عملُه" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
الحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله، وأشكره سبحانه على جزيل عطائه وإنعامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، القائم بحقوق ربه، وحقوق خلقه، ومع ذلك قال: لن يَدْخل أحدكم الجنة بأعماله، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته وإفضاله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كملت معرفتهم بربهم، وبما يقرب من دار كرامته ورضوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله: إن الشكر على النعم هو الغاية والهدف الذي من أجله خلق الله الخلق وأمرهم بما أمر؛ بل هو أجلُّ المقامات وأعلاها، قال الله تبارك وتعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النّحل:78]؛ وأخبر –سبحانه- أنما يعبده مَن شكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته، فقال: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البَقَرَة:172].
وأثنى –سبحانه- على خليله إبراهيم بشكر نعمه، فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً، قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل:120-121]، فأخبر أنه كان (أُمَّةً)، أي: قدوة يؤتم به في الخير، وأنه كان (قَانِتًا لِلَّهِ)، أي: مقيما على طاعته، (حَنِيفًا) أي: مقبلا على الله معرضا عما سواه، ثم ختم له هذه الصفات بأنه كان: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ)، فجعل الشكر غاية خليله.
والشكرُ هو الاعتراف بالنعم باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، وصرفها فيما يحب مسديها وموليها، روى الترمذي من حديث القاسم بن محمد، عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله، إلا كتب الله له شكرها؛ وما علم الله من عبد ندامة على ذنب، إلا غفر الله له قبل أن يستغفره؛ وإن الرجل يشتري الثوب بالدينار ليلبسه، فيحمد الله، فما يبلغ ركبتيه، حتى يغفر له".
وروى الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وبدنًا على البلاء صابرًا، وزوجة لا تبغيه خونًا في نفسها ولا في ماله"، وروى الإمام أحمد بإسناده عن ثابت، قال: كان داود -عليه السلام- قد جزَّأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم يكن ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي فيها، قال: فعمهم الله تبارك وتعالى في هذه الآية: (اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سَبَأ:13].
ومن الشكر أن تَظهر على المرء آثار النعمة، فالله يحب من عبده أن يرى أثر نعمته عليه، فإن ذلك شكرها بلسان الحال، وفي صحيفة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلوا، واشربوا، وتصدقوا، في غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
والشكر يكون على المـَحابِّ، كالأكل، والشرب، والكساء، والهداية، وغير ذلك؛ وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- مواطن الشكر ومناسباته، فمنها ما روى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قبا النبي -صلى الله عليه وسلم- فانطلقنا معه، فلما طعم وغسل يديه قال: "الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطْعَم، منَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكلّ بلاءٍ حسَن أبلانا. الحمد لله غير مودع ربي، ولا مكافأٍ، ولا مكفور، ولا مستغنى عنه. الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسى من العري، وهدى من الضلالة، وبصَّر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا. الحمد لله رب العالمين".
وفي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها" فكان هذا الجزاء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء (الرضوان) في مقابلة شكره بالحمد.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ولا مال ولا ولد فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرى فيه آفةً دون الموت"، وكان -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أُخبر بأمر يسُرُّه خرَّ ساجدًا لله عز وجل".
وعلى كل حاسَّةٍ وجارحةٍ شُكرُ ما أُعطِيَتْ من النِّعَم، قيل لأبي حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟ قال:إنْ رأيتَ بهما خيرًا أعلنتَه، وإن رأيت بهما شرًا سترته. قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيرًا وعيته، وإن سمعت بهما شرًا دفعته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقًا لله هو فيهما. قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعامًا، وأعلاه علمًا. قال:فما شكر الفرج؟ قال: قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون:5- 7] قال: فما شكر الرجلين؟ قال: إن علمتَ ميتًا تغبطه استعملت بهما عمله، وإن مقتَّه رغبت عن عمله وأنت تشكر الله.
والرب -تعالى- يُحمد على إعطاء هذه الحواس وهذه الجوارح، من السمع والبصر، واليدين والرجلين، وإن قل ما في يد صاحبها من المال فهو غني بها. قال سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: إن رجلاً بسط له من الدنيا فانتزع ما في يده، فجعل يحمد الله ويثني عليه، حتى لم يكن له فراش إلا بارية. وبسط لآخر من الدنيا فقال لصاحب البارية: أرأيتك أنت! على ما تحمد الله؟ قال: أحمده على ما أعطيت به ما أَعْطَى الخلقُ لم أعطهم إياه. قال: وما ذاك؟ قال: أرأيت بصرك؟ أرأيت لسانك؟ أرأيت يديك؟ أرأيت رجليك؟.
وجاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له يونس: أيسرُّك ببصرك هذه مائة ألف درهم؟ قال: الرجل: لا. قال فبيديك مائة ألف؟ قال: لا. قال: فبرجليك مائة ألف؟ قال: لا. قال: فذكَّره نعم الله عليه. فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف، وأنت تشكو الحاجة؟!.
وقد يزوي الله بعض الدنيا عن عبده ويكون ذلك نعمة. قال أبو حازم: نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطاني منها، إني رأيته أعطى أقوامًا فهلكوا، وكل نعمة لا تُقرب من الله فهي بلية، وإذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره. وقال سفيان في قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعرَاف:182]، قال: يُسبغ عليهم النعم، ويمنعهم الشكر.
وحتى المصائب تكون نعمًا باعتبار، قال شريح: ما أصيب عبدٌ بمصيبة إلا كان لله عليه فيها ثلاث نعم: أن لا تكون كانت في دينه، وأن لا تكون أعظم مما كانت، وانها لابد كائنة فقد كانت. وقال عبدالعزيز بن ابي ثابت: رأيت في يد محمد بن واسع قرحة، فكأنه رأى ما شق علي منها. فقال: أتدري ماذا عليَّ في هذه القرحة من نعمة حين لم يجعلها في حدقتي، ولا طرف لساني، ولا على طرف ذكرتي؟ فهانت عليَّ قرحتُه.
والرب تعالى يذكِّر عبده يوم القيامة بأنواع نِعَمه التي أنعم بها عليه، قال حماد بن زيد، حدثنا ليث، عن أبي بردة، قال: قدمت المدينة فلقيت عبدالله بن سلام -رضي الله عنه- فقال لي: ألا تدخل بيتًا دخله النبي -صلى الله عليه وسلم- ونطعمك سويقًا وتمرًا؟ ثم قال: إن الله إذا جمع الناس غدًا ذكَّرهم بما أنعم عليهم. فيقول العبد: ما آية ذلك؟ فيقول: آية ذلك أنك كنت في كربة كذا وكذا فدعوتني فكشفتها، وآية ذلك أنك كنت في سفر كذا وكذا فاستصحبتني فصبحتك. قال: يذكره حتى يذكر. فيقول آية ذلك أنك خطبت فلانة بنت فلان وخطبها معك خُطَّاب فزوجتُك ورددتهم. يَقِفُ عَبْدَهُ بين يديه فيعدد عليه نعمه. فبكى، ثم بكى. ثم قال: إني لأرجو الله أن لا يقعد الله عبدًا بين يديه فيعذبه.
ولو يتقصَّى ربنا في المحاسبة على النعم لنفدت الحسنات بأقل نعمة في البدن؛ فإن أعمال العبد لا توافي نعمةً من نعم الله عليه، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "لن ينجي أحدًا منكم عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" وكان أبو المغيرة إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: أصبحنا مغرقين بالنعم، عاجزين عن الشكر، يتحبب إلينا ربنا وهو غني عنا، ونتمقت إليه ونحن محتاجون.
وروى الجريري عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى على رجل وهو يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة. فقال: "ابن آدم، هل تدري ما تمام النعمة؟" قال: يا رسول الله! دعوة دعوت أرجو بها الخير. فقال: "إن تمام النعمة فوز من النار، ودخول في الجنة".
فأوصيكم وإياي عباد الله بتقوى الله، والشكر عند النعماء. وليحذر المؤمن من نسبة النعم إلى غير الله، أو يظن أنها حصلت بمجرد الصدفة، أو يقول هذا بعملي وأنا محقوق به. قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: ما من عبد توكل بعبادة الله إلا عزم الله السموات والأرض تعبر رزقه فجعله في أيدي بني آدم يعملونه حتى يدفع عنه إليه، فإنِ العبدُ قبِله أوجب عليه الشكر، وإن أباه وجد الغنيُّ الحميدُ فقراءَ يأخذون رزقه ويشكرونه له.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:32-34].
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي وعد الشاكرين بالزيادة، فقال: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
وأشهد أن لا إله إلا الله الولي الحميد. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: "إذا أحب أحدكم أن يرى قدر نعمة الله عليه، فلينظر إلى مَن تحته، ولا ينظر إلى من فوقه" اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الشاكرين في السراء والضراء.
أما بعد: عبد الله: لقد كان للسلف الصالح النصيب الأوفر من الشكر والتقدير للنعم، ومعرفة أنواعها، كان الحسن البصري إذا ابتدأ حديثه يقول: الحمد لله، اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا، ورزقتنا، وهديتنا، وعلَّمتنا، وأنقذتنا، وفرَّجْت عنا؛ لك الحمد بالإسلام، والقرآن؛ ولك الحمد بالأهل، والمال، والمعافاة؛ كَبَتَّ عدونا، وبسطت رزقنا، وأظهرت أمننا، وجمعت فرقتنا، وأحسنت معافاتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا؛ فلك الحمد على ذلك حمدًا كثيرًا، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا، في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب؛ لك الحمد حتى ترضى، ولك الشكر إذا رضيت.
وروى الإمام أحمد بإسناده، عن عبدالله بن الحارث، قال :أوحى الله إلى داود: "أحِبَّني، وأَحِبَّ عبادي، وحبِّبني إلى عبادي. قال: يا رب! حبّك، وحبّ عبادك. فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: تذكُرُني عندهم، فإنهم لا يذكرون منِّي إلا الحسن".
وثبت في المسند والترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لمعاذ: "إني أحبك. فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك".
فاقتدوا -عباد الله- بخيرة خلق الله من الأنبياء والصلحاء، في الشكر عند النعماء، والصبر عند البلاء، وتدبروا ما في كتاب الله من الأمر بالشكر، والثناء على الشاكرين.
واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله..