البحث

عبارات مقترحة:

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

العزيز

كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...

كفى بالله كفيلا

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أركان الإيمان - التوحيد
عناصر الخطبة
  1. اسم الله «الكفيل» في القرآن والسنة .
  2. معاني اسم الله الكفيل .
  3. حظ المؤمن من اسم الله الكفيل .
  4. حسن التوكل على الله والثقة به   .
  5. الحياة في ظلال اسم الكفيل. .

اقتباس

والكفيل لغةً يدل على معاني الحفظ والرعاية، والضمان والإعالة. والكفيل -سبحانه- هو القائم بأمر الخلائق كلهم، المتكفل بأقواتهم وأرزاقهم، والمدبر لأمورهم، ورعاية مصالحهم، وهو الذي خلق الأرزاق والمرزوقين، وخالق الحاجات والمحتاجين...

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. [حديث خطبة الحاجة أخرجه أبو داود (2118) وصححه الألباني].

يا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظِّموه حق تعظيمه، وثقوا بربكم، واطمئنوا بذكره، وأحبوا الكفيل الرحيم -سبحانه-؛ لما يغذوكم به من نعم، فلو سمع الواحد منا عن رجل له كثير من الأولاد؛ يرعاهم وينفق عليهم، ويعلّمهم ويحنو عليهم، وهو متعدد الزوجات، يعدل بينهن، ويقوم عليهن نصحًا وتعليمًا، وله أبوان وجدان يشملهم بعطفه ورعايته، وله عمّات أرامل وخالات عجائز، وهو في ذلك كله يرعى وينفق، ويحنو، ويسع الجميع، ويحرص على بذل الخير للجميع، ويرعى الفقير، ويساعد الأرملة والمسكين، وهو راضٍ سعيد، ماذا يدور في ذهنك عن كرم رجلٍ كهذا، وشهامته ومروءته، وكمال سؤدده، لأنه يكفل كل هؤلاء ويرعاهم؟.

ولله رب العالمين المثل الأعلى في السموات والأرض, يكفل سائر خلقه، وينفق عليهم مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم، صغيرهم وكبيرهم، ويشملهم جميعًا بمنّه وكرمه -سبحانه وتعالى-، فكيف يكون حب البشر لخالقهم ورازقهم والكفيل بهم -سبحانه-!!.

أيها المسلمون: اعلموا أن ربكم -سبحانه- هو الجليل الذي جلَّ عن كل نقص، واتصف بكل كمال وجلال، وهو الجميل الذي له مطلق الجمال في الذات والصفات والأسماء والأفعال, وهو الكريم الذي لو أن أول الخلق وآخرهم وإنسهم وجنهم قاموا في صعيد واحد فسألوه؛ فأعطى كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، ومن كرمه -سبحانه- أنه يقابل الإساءة بالإحسان، والذنب بالغفران، ويقبل التوبة، ويعفو عن التقصير، وهو الرقيب على عباده، العليم بأفعالهم، الكفيل بأرزاقهم وآجالهم ومآلهم, المجيب لدعائهم وسؤالهم وإليه المصير, الواسع الذي وسع كل شيء علمًا، وسع خلقه برزقه ونعمته وعفوه، ورحمته عفوًا وحلمًا, الحكيم في خلقه وتدبيره إحكامًا وإتقانًا، الحكيم في شرعه وقدره عدلاً وإحسانًا، له الحكمة البالغة، حكمه عدل، وشرعه عدل، وقضاؤه عدل، فله الشكر والحمد وهو على كل شيء قدير.

عباد الله: أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الكفيل، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) [النحل:91]، ولم يرد اسم الله الكفيل في القرآن بهذا اللفظ إلا في هذا الموضع، قال الطبري في تفسيره عند هذه الآية: "أي: وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعيًا، يرعى الموفّي منكم بعهد الله الذي عاهد على الوفاء به والناقض".  وقال القرطبي: "قوله تعالى: (وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً) يعني شهيدًا. ويقال: حافظًا، ويقال: ضامنًا". [تفسير القرطبي 10/170]. وقال الشوكاني في فتح القدير: "(وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً) أي شهيدًا، وقيل: حافظًا، وقيل: ضامنًا، وقيل: رقيبًا؛ لأن الكفيل يراعي حال المكفول به" [فتح القدير 3/272].

أيها المؤمنون: وقد أثنى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على ربه، وهو أعرف الخلق به فوصفه وسماه كفيلاً، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ ذَكَرَ "رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً. قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاً، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا" [البخاري 2291].

قال الحافظ ابن حجر: "وَفِيهِ طَلَب الشُّهُود فِي الدَّيْن، وَطَلَب الْكَفِيل بِهِ, وَفِيهِ فَضْل التَّوَكُّل عَلَى اللَّه، وَأَنَّ مَنْ صَحَّ تَوَكُّله تَكَفَّلَ اللَّه بِنَصْرِهِ وَعَوْنه".

يا عباد الله: والكفيل لغةً يدل على معاني الحفظ والرعاية، والضمان والإعالة. والكفيل -سبحانه- هو القائم بأمر الخلائق كلهم، المتكفل بأقواتهم وأرزاقهم، والمدبر لأمورهم، ورعاية مصالحهم، وهو الذي خلق الأرزاق والمرزوقين، وخالق الحاجات والمحتاجين؛ وهو الذي توكّل بحياة الخلائق كافة، وتكفّل بأرزاقهم، مؤمنهم وكافرهم، البشر والحيوان وسائر المخلوقات.

فالله -سبحانه- هو الكفيل بجميع المخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو متمتع برزقه، مغمور بكرمه، فهو -سبحانه- القائم على كل نفس بما يقيمها من قُوتِها، وسع الخلقَ كلهم رزقُه ورحمتُه، لا يخص بذلك مؤمنًا دون كافر، ولا وليًّا دون عدو، يسوقه إلى الضعيف الذي لا حيلة له، كما يسوقه إلى الجلد القوي، متكفل بالأقوات وإيصالها، بحيث يأخذ كل كائن نصيبه من هذه الأرزاق، قال تعالى: (كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء:20].

عباد الله: إن خزائن الله -عزَّ وجلَّ- مملوءة بكل شيء، يعطي منها جميع الخلائق ولا تفنى، قال الله تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل: 96]، بل لو سأله جميع الخلائق فأعطاهم لم ينقص ذلك من ملكه شيئًا؛ لأن فضل الله عظيم، وفضله لا يصفه الواصفون، ولا يخطر بقلب بشر، بل وصل فضله وإحسانه إلى ما وصل إليه علمه، تبارك ربنا وسع كل شيء رحمة وعلمًا، فعمّ بفضله وإحسانه وعلمه ورحمته جميع الخلائق.

فليس في وسع أحد أن يرزق نفسه، أو يدبّر أمر نفسه، ويستقلّ بذاته عن الله الوكيل الكفيل -سبحانه-، وإنما الرزاق وحده هو الله الذي تكفل برزق كل حي، من الإنس والجن، والحيوان والطـير، قال -سبحانه-: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النحل: 91]. ولذلك فكل من صدق مع الله، ووثق به، وتوكل عليه، ورضي به -سبحانه- كفيلاً، كان الله كفيله وحسيبه، فأعانه على الوفاء، ويسّر له الأمر من حيث لا يحتسب.

وقد قضى الكفيل -سبحانه- ألا يقبض أحدًا حتى يستوفي رزقه الذي قُسم له، كما تكفل بإيصاله إليه، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، قال الله تعالى: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:11].

والكفيل -سبحانه- هو العائل والضامن، قال -سبحانه-: (وَلاَ تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) قيل: حافظًا، وقيل ضامنًا. وقال -جل وعلا-:  (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) [آل عمران: 37]،  وقال تعالى: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران: 44]، أي يضمها لرعايته. قال الراغب الأصفهاني في (المفردات): "الكفالة الضمان، والكفيل الحظ الذي فيه الكفاية، كأنه تكفَّل بأمره".

وإذا أيقن العبد بهذه المعاني أيقن أن الكفيل -سبحانه- هو الضامن والوكيل والمعطي على الحقيقة؛ لذلك صح عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّهَا النَّاسُ! اتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ" [أبو نعيم في الحلية وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2607)].

فلتهنأ القلوب بكفالة الرب الرحيم -سبحانه-، ولتسعد الأرواح برعاية رب العالمين، ولتطمئن النفوس إلى رب قادر كفيل رحيم، -سبحانه وتعالى-.

قال ابن القيم في نونيته (ص: 207):

يَا مَن يُريد وِلايةَ الرَّحمنِ دُوْنَ   

 وِلايةَ الشَّيْطَان وَالأَوْثَانِ

فَارِقْ جَمِيْعَ النَّاسِ في إِشْرَاكِهِم  

 حَتَّى تَنَالَ وِلايةَ الرحمنِ

يَكْفِيْكَ مَنْ وَسعَ الخَلائِقَ رَحْمَةً

وَكِفَايَةً ذُو الفَضْلِ وَالإِحْسَانِ

يَكْفِيْكَ مَنْ لَمْ تَخْلُ مِن إِحْسَانِهِ

في طَرْفَةٍ كَتَلَقُّبِ الأَجْفَانِ

يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلِ أَلْطَافُـهُ   

   تَأْتِي إِلِيْكَ بِرَحْمَةٍ وَحَنَانِ

يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلْ فِي سَتْرِهِ  

 وَيَرَاكَ حِيْنَ تَجِيءُ بِالعِصْيَانِ

يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلْ في حِفْظِهِ  

 وَوِقَايةٍ مِنْهُ مَدَى الأَزْمَانِ

يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلْ في فَضْلِهِ  

  مُتَقَلِّبًا في السِّرِّ والإِعْلانِ

يَدْعُوْهُ أَهْلُ الأَرْضِ مَع أَهْلِ السَّمَا

ءِ فَكُلُّ يَوْمٍ رَبْنُا في شَانِ

وَهُوَ الكَفِيْلُ بِكُلِّ مَا يَدْعُونَهُ   

لا يَعْتَرِي جَدْوَاهُ مِن نُقْصَانِ

وهو الحفيظ عليهم وهو الكفيل

بحفظهم من كل أمر عانِ

فَتَوَسُّطُ الشُفَعاءِ والشُّركَـاءِ

 والظُهرَاءِ أَمْرٌ بَيّنُ البُطْلانِ

وقال الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الصَّرْصَرِيُّ:

يَا مَنْ لَهُ الْفَضْلُ مَحْضًا فِي بَرِيَّتِهِ

وَهُوَ الْمُؤَمَّلُ فِي الْبَأْسَاءِ وَالْبَاسِ

عَوَّدْتَنِي عَادَةً أَنْتَ الْكَفِيلُ بِهَا  

 فَلَا تَكِلْنِي إلَى خَلْقٍ مِنْ النَّاسِ

[الآداب الشرعية لابن مفلح 3/600].

اللهم إنا نسألك من واسع رزقك وكرمك يا رزاق يا كريم، والطف بنا فيما جرت به المقادير، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: ما أجمل الثقة واليقين برب العالمين، فإذا تيقن المسلم أن الكافل والرازق في الحقيقة هو الله رب العالمين لم يخضع إلا له، ولم يذل لغيره، وكان حرًّا من سيطرة كل مخلوق، وإذا فهم ذلك على الحقيقة أطاعه واستسلم له راجيًا الخير كله منه، ولم يلجأ للعصيان طلبًا لما يتصوره خيرًا، فالزواج رزقٌ ضمنه الكفيل؛ فلا تطلبه الفتاة لنفسها، والأم لابنتها بوسائل تُغضِب الكفيل -سبحانه-، والمال يملكه الكفيل، فلا يجمعه العبد من الحرام، والجاه والمكانة والعزة والرفعة ليست إلا بيد الكفيل -سبحانه- وتعالى، فإذا اجتنب العبد طريق العصيان كان بعيدًا عن الخذلان، قريبًا من الرحمن الرحيم -سبحانه-.

وفي صورة رائعة يرسم لنا النبي -صلى الله عليه وسلم -صورة رائعة للمؤمن بأنه رجل لا يخاف في الله لومة لائم، ويعرف أن الكفيل بالأرزاق والأعمار هو رب العالمين، ولذلك لا يمنعه خوفُ الناس من أن ينطق بالحق ويصرّح به، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ" [مسند أحمد (3/50) وصححه الألباني].

فلن يقرِّب العبدَ من الموت، ولا يُدْنِي أجله، ولا يؤخر عنه رزقه، إذا هو ذكَّر بحق العظيم الكفيل -سبحانه-، ودار مع أمره حيث دار، وانتهى عن نهيه، وأعلن الحق في غير شطط ولا غلو، ولا مجافاة للآداب الشرعية.

ولننتبه -إخواني- كم من إنسان منا جعل الله على نفسه كفيلاً ووكيلاً في قَسَمه ووعده، ولم يوفِّ بعهده، وحنث في حلفه، ولم يؤد ما وعد به، وكثيرًا ما يقسم العباد ويعطون العهود والمواثيق ولا يوفون بما عاهدوا الله عليه.

واعلموا -أيها المسلمون- أنه يجب على العبد المؤمن أن يؤمن إيمانًا صادقًا بالكفيل -سبحانه-، وأنه هو الوكيل -سبحانه- الضامن لأرزاق عباده ومصالحهم، ولذلك فإن الله -سبحانه- يكون وكيل المؤمنين الذين جعلوا اعتقادهم في حوله وقوته، وخرجوا من حولهم وطولهم، وآمنوا بكمال قدرته، وأيقنوا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فركنوا إليه في جميع أمورهم، وجعلوا اعتمادهم عليه في سائر حياتهم، وفوَّضوا إليه الأمر قبل سعيهم، واستعانوا به حال كسبهم، وحمدوه بالشكر بعد توفيقهم، ورضوا بما قسمه بعد ابتلائهم، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2].

قال القرطبي: "فيجبُ على كل مؤمن أن يعلم أن كلَّ ما لا بدَّ له منه، فالله -سبحانه- هو الوكيـل والكفيل المتوكِّل بإيجاده وإيصاله إلى العبد، إما بنفسه فيخلقُ له الشِّبَع والرِّي كما يخلق له الهداية في القلوب، أو بواسطة سببٍ كمَلَك أو غيره يوكَّل به. حتى الهداية، فإن الله -سبحانه- وتعالى يرى عبدَه ضالاً فيهديهُ، عندما يجده يأوي بقلبه إليه، ويطمع في فضل الله عليه بالهداية، لذا فوِّض أمرك -أخي- إليه، ثمَّ بعد ذلك تنعّم بفضله عليك".

يا عباد الله: استمعوا معي -يا رعاكم الله- إلى ما يقوله الشيخ الفوزان تفسيرًا لقول الله تعالى: (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً)، يقول: "والمعنى أن الله -سبحانه- وتعالى ينتقم ممّن نقض العهد؛ لأنّهم إنّما وثِقوا بكم ووثقتم بهم باسم الله -سبحانه- وتعالى، فصار الله -سبحانه- كفيلاً وحسيبًا ورقيبًا على الجميع، ومن كان الله حسيبَه ورقيبَه ومحاسبه، فإنّه لن يفوت على الله -جل وعلا-، ولا يخفى ما في قلبه وفي نيّته من النّيات الباطلة والغدر، فالله يعلم ما في القلوب، فكيف إذا ظهر ووقع، (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، هذا الكفيل ليس كغيره من الكفلاء، فالكفيل من الخلق قد يغفل، وقد يجهل، ولا يعلم بما يحصل من المكفول، ولكنّ الله -جل وعلا- لا تخفى عليه أفعال خلقه وأعمال عباده، فهو يعلم أفعالكم ونيّاتكم، ومقاصدكم وأهدافكم، وما ترمون إليه، فاحذروا من الله -سبحانه- وتعالى، احذروا من هذا الكفيل العليم الخبير القدير الذي لا يخفى عليه شيء ولا يُعجزه شيء". [كتب العقيدة 4/4].

فكل من صدق مع الله، ووثق به، واتخذه كفيلاً، وأيقن فيه، وتوكل عليه، ورضي به -سبحانه- كفيلاً، كان الله كفيله وحسيبه، فأعانه على الوفاء، ويسّر له الأمر من حيث لا يحتسب، فاصدقوا مع ربكم، وثقوا به، وأحسنوا التوكل عليه، لتحيوا الحياة الطيبة.

اللهم اشملنا بعفوك ومنِّك وكرمك، وأفض علينا بجودك وكرمك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، زدنا ولا تنقصنا، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.