الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحياة الآخرة |
الأموات قد طُويت صحف أعمالهم، وقد خُتم عليها، فلا يستطيعون زيادة في الحسنات، ولا نقصاً من السيئات؛ وذلك لأنهم أنهوا حياتهم، ودخلوا في عالم البرزخ الذي هو أول منازل الآخرة، فكأنه ختم على أعمالهم، ولكن الأحياء قد يهدون إليهم بعض الأعمال. ويشهد لهذا كثير من النصوص الشرعية التي تفيد أن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي تفرد بالدوام والبقاء، وكتب على أهل هذه الدنيا الفناء، وجعلها دار امتحان وابتلاء، وجعل القبور بعدها لأهل الإيمان خير فناء، أحمده -سبحانه- وهو أهل الحمد والثناء، وأشكره في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واسع العطاء، ذو العظمة والجلال والكبرياء، وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله سيد الأصفياء، وخاتم الأنبياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء، وصحبه الأوفياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان مادامت الأرض والسماء.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فإنها أفضل عدة ليوم المعاد، وإن التمسك بها جهاد من أعظم الجهاد، لاسيما حين تدلهم الأمور ويستشري الفساد، يقول الله تعالى: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة:197].
معاشر المسلمين: من الذي تفرد بالبقاء والدوام؟! من الذي كتب الموت على جميع الأنام؟! من الحي الذي لا يموت ولا يزول؟! والأحد الذي لا يتغير ولا يحول؟! سبحانه هو الله الواحد القهار، العزيز الجبار، كتب الموت على العبيد، تعالى أن يفنى أو يبيد، يقول -سبحانه-: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88].
تفكروا -عباد الله- من كان الموت طالبه كيف يلذ له قرار، ومن كان القبر منزله كيف يتخذ الدنيا أفضل دار، لقد ألهتنا الأموال والدور، وشغلتنا الأولاد والقصور، عن التفكير في المصير إلى القبور، فإلى الله نشكو قسوة القلوب، مع كثرة القوارع والخطوب.
أيها الإخوة: إنه من أقوى علاج للقلوب ذكر الموت وزيارة القبور ومعاينة المحتضرين، فجدير بمن تسلط عليه الشيطان، وهاجت نفسه الأمارة بالسوء، أن يفزع إلى المقابر، ويقف بتلك المنازل، ويتذكر أنه يومًا سيسكن في تلك القبور. وسيكون وحده؛ لا أحد معه سوى عمله؛ فإما أن يكون عملاً صالحًا يؤنسه وينير قبره، فيكون روضة من رياض الجنة؛ وإما أن يكون عملاً سيئًا، تشتد معه ظلمة قبره، ويضيق عليه، ويكون حفرة من حفر النار. نعوذ بالله من سوء الختام وضيق القبور.
وإذا نسي الإنسان نفسه وسها ولها وغفل، فقد رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في زيارة القبور بعد النهى عنها؛ لما فيها من التذكرة بالموت، والموعظة للأحياء، أنهم سيكونون في لحظة من اللحظات في باطن الأرض بعد ما كانوا على ظهرها، يتمتعون، ويضحكون، ويلعبون، فيتذكرون الموت، فيعملون له ويفيقون من غفلتهم، فعن بريدة بن خصيب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإن في زيارتها تذكرة"[ أبو داود (3235) وصححه الألباني] أي: أن زيارة القبور تذكر الأحياء بالموت والقبر والسكرات، وعن بريدة أيضاً عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجراً" [ النسائي ( 2032) وصححه الألباني] أي من جاء زائرًا القبور فليعتبر بحال أهلها ولا ينطق سوءاً ولا يعترض على قضاء الله وقدره.
وإذا زار المسلم قبر أخيه فليسلم وليدع له، ويسأل الله أن يغفر له، فعن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن، كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا عرفه ورد عليه السلام" [قال العيني في عمدة القاري( 8 /100) إسناده صحيح ].
أيها الإخوة: وقد أرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى آداب زيارة القبور، فعن عائشة-رضي الله عنها- قالت: "قلت يا رسول الله: كيف أقول إذا دخلت المقابر؟" قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمتأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون" [مسلم(974)]، وفي الصحيحين أنه -عليه السلام- كان يزور القبور وينصح النساء وضعاف القلوب أن يصبروا، فقد مرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على امرأة تبكي عند قبر لها، فقال لها: "اتقي الله واصبري" [البخاري (1283)] الحديث.
وهذه الأحاديث تشتمل على فقه عظيم، وهو جواز زيارة القبور للرجال والنساء، والسلام عليها، ورد الميت السلام على من يسلم عليه، وجواز بكاء النساء عند القبر، ولو كان بكاؤهن وزيارتهن حراماً لنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- المرأة، ولزجرها زجراً يزجر مثله من أتى محرماً، وارتكب منهياً.
وما روي من نهي النساء عن زيارة القبور فغير صحيح، والصحيح الإباحة، إلا أن عمل النساء في خروجهن مما لا يجوز لهن، من أجل تبرج أو كلام أو غيره أو عويل أو تسخط على الأقدار، فذلك المنهي عنه، وقد أبيح لك أن تبكي عند قبر ميتك حزناً عليه، أو رحمة له مما بين يديه، كما أبيح لك البكاء عند موته.
أيها الإخوة: لقد حذَّر -صلى الله عليه وسلم- من كثرة البكاء المصحوب بالجزع والتسخط والشكوى، وأخبر أن هذا التسخط والتشكي قد يكون سببًا في تعذيب الميت إن كان ذلك الأمر من عادة أهله ولم ينهاهم عن ذلك، فضلاً عن أن يكون قد أوصى بذلك، فعَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنْهُمَا– قَالَ: "لما طعن عمر أُغمي عَلَيْهِ، فصيح عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاق قَالَ: أما علمْتُم أَن رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء الْحَيّ" [مسلم (927)].
وَعَن عبد الله بن عمر أَيْضًا فِي هَذَا الحَدِيث، قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ" [البخاري (1286) مسلم (928)]. وعن عمر بن الخطاب قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- :" الْمعول عَلَيْهِ يعذب" [مسلم(927)]، قال محققو أهل اللغة يقال: عول عليه، وأعول لغتان، وهو البكاء بصوت.
أيها الإخوة: يجوز البكاء على الميت عند موته، وبعد دفنه، وعند زيارة قبره، ولكن الْبكاء عِنْد الْعَرَب هو الْبكاء الْمَعْرُوف بدمع العين وحزن القلب، بخلاف النِّيَاحَة التي يكون مَعهَا الصياح وَضرب الخدود، وشق الْجُيُوب، وَلَا يُعلم خلافٌ أَن ذَلِك حرَام، وَقد ورد الْوَعيد على هَذَا كُله، سواء قبل الدفن وبعده.
عباد الله: صحيح أن الأموات قد طُويت صحف أعمالهم، وقد خُتم عليها، فلا يستطيعون زيادة في الحسنات، ولا نقصاً من السيئات؛ وذلك لأنهم أنهوا حياتهم، ودخلوا في عالم البرزخ الذي هو أول منازل الآخرة، فكأنه ختم على أعمالهم، ولكن الأحياء قد يهدون إليهم بعض الأعمال.
ويشهد لهذا كثير من النصوص الشرعية التي تفيد أن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره، وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"[البخاري (1952)]، وأما عن وصول ثواب الحج فهذا أمر ثابت أنه يصل للميت ثواب الحج إذا أداه عنه الحي، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: "إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجَّ عَنْهَا؟" قَالَ: "نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟" قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَالَ: "اقْضُوا اللَّهَ الَّذِي لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ" [البخاري (7315)]. وقال- عليه السلام- للرجل الذي حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"[صحيح الجامع للألباني (3128)]. وروي أن عائشة -رضي الله عنها- اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته وأعتقت عنه.
وأما وصول ثواب الصدقة فجاء في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم" [البخاري (1388) ومسلم (1004)]. وقال سعد للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟" قال: "نعم" قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء" [النسائي (3666) وصححه الألباني] وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته، أنها حدثته عن جدته، أنها جعلت على نفسها مشياً إلى مسجد قباء، فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها.
ولا شك أن الأموات ينتفعون بدعاء الأحياء لهم، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) [الحشر:10]، نحن ندعو بهذا للذين سبقونا بالإيمان ولو لم نعرفهم، ولو كان بيننا وبينهم مائة سنة أو مئات أو ألوف السنين، فدل ذلك على أنه مشروع، وأنه ينفعهم، وكذا ينتفعون بالصلاة عليهم، فالصلاة على الميت هي أول شيء يزود به الميت، ولو لم يكن له أجر ونفع فيها لم تشرع، إذاً هذا من الذي ينتفعون به، وهو الدعاء لهم.
وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة، فعن عوف بن مالك: أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى على ميت، يقول عوف: فحفظت من دعائه قوله: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله". يقول عوف: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت؛ لدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له [مسلم (923)]، وهذا تعليم منه لأمته أن يدعوا بمثل هذه الدعوة وإن لم تكن معينة مخصصة، بل يدعون بها وبما يماثلها، ولو كان ذلك لا ينفع الميت لم تشرع هذه الصلاة التي هي صلاة الجنازة.
وكذلك بعد الموت وبعد الدفن، فقد جاء أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر أصحابه أن يسألوا له التثبيت، ويقول: كما صح من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" [أبو داود (3221) وصححه الألباني]. فيقولون: "اللهم ثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أو اللهم ثبته عند اللقاء"، وما أشبه ذلك، فدل على أنه ينتفع بذلك.
كذلك ما ورد من الدعاء للأموات عند زيارة المقابر، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يسلموا عليهم والسلام دعاء، فعلم أم المؤمنين عائشة الدعاء للموتى، فعن عائشة- رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله: كيف أقول إذا دخلت المقابر؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمتأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون" [مسلم(974)].
كذلك الأعمال التي كانوا سبباً فيها، يبقى لهم أجرها، فإذا تصدق أحدهم بصدقة، واستمرت تلك الصدقة، فإن الأجر مستمر، وذلك مثل: الأحباس والأوقاف التي ينتفع بها، فهذه يصل أجرها إليهم، وهكذا البيوت التي ينتفع بها كالمساجد، فإذا بنى مسجداً فإنه يأتيه أجره ولو بعد موته بمائة سنة أو أقل أو أكثر، ما دام يصلى في هذا المسجد، وهكذا إذا بنى مدرسة لتحفيظ القرآن، أو لطلب العلم النافع؛ فإن ذلك -أيضاً- يجري عليه أجره.
وكذلك غلات الأوقاف، فإذا جعل غلة هذا الوقف في صدقات أو في جهاد -يعني: في أسلحة للمجاهدين ونحوهم- كان ذلك من النفقة النافعة التي يأتي إليه أجرها بعد موته، وكذلك إذا كان قد ورث علماً ينتفع به، إذا ألف كتباً كتبها، وجعل فيها علوماً نافعة، فإنه ما دام يُقرأ فيها، ويدعى لمن ألفها وكتبها، فلا شك أن ذلك مما يستمر أجره عليها.
وهكذا إذا نشر علماً: فكتب أو طبع مصاحف ونشرها، أو كتب علم طبعها وأنفق عليها ونشرها، وصارت ينتفع بها وتقرأ، ويدعى لمن نشرها، لا شك أن ذلك من النفقات المالية التي يستمر أجرها له بعد موته.
وكذلك كل إنسان كان متسبباً في عمل من الأعمال النافعة، ذكروا من ذلك الأحباس التي في الطرق ينتفع بها، كالمياه التي يشرب منها أبناء السبيل ونحوهم، وحفر الآبار التي ينتفع بها المارة ونحوهم، وإجراء الأنهار، وإصلاح الطرق التي يمر بها المسلمون وينتفعون بها، وإضاءتها -مثلاً- إذا احتاجت إلى إضاءة وتنوير، وجعل المرافق فيها كالمياه وما ينتفع به كل ذلك من الأعمال الخيرية التي إذا فعلها احتساباً كان له أجر.
وهكذا إذا جعل غلته في تجهيز الأموات، وحفر القبور، وتحنيط الميت وتغسيله، وقيمة الأكفان وما أشبهها، فإن ذلك من الأعمال الصالحة، فيستمر له أجر ذلك ولو بعد موته بعشرات السنين؛ وذلك لأن هذا مما أنفق فيه.
أيها الإخوة: ومن أهل العلم من منع وصول ثواب الأعمال البدنية إلى الميت، واستدلوا على عدم وصول العبادات التي لا تدخلها النيابة بحال، كالإسلام والصلاة والصوم وقراءة القرآن، وأنه يختص ثوابها بفاعله لا يتعداه، كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره بما روى النسائي بسنده، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: "لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة" [النسائي في الكبرى (2918) ].
ولكن ذلك محمول على الأحياء، فالأحياء القادرون لا يجوز لأحدهم أن ينوب عن أحد، فلا تقل لولدك: صل عني الظهر أو العصر، أو نحو ذلك؛ لأن هذه العبادة تتعلق ببدنك، فلا ينوب فيها عنك أحد، وكذلك لو أحرمت بنفسك فلا تقل لولدك أو لعبدك: طف عني طواف الإفاضة، أو قف عني بعرفة أو نحو ذلك، فإن هذا عمل بدني لا يقوم فيه أحد عن أحد، وكذلك إذا كنت قادراً فلا تقل -مثلاً-: صم عني هذا اليوم من رمضان، أو صم عني هذا الشهر لأنه لا يجوز التوكيل في مثل هذه الأعمال؛ لأنها متعلقة بالبدن؛ ولأن الحكمة فيها أن يخضع ذلك العامل ببدنه، وأن يشعر بذله واستضعافه بين يدي ربه، فإذا كان المتذلل غيره لم يتأثر بذلك.
وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي، ومن غير تركته، فقد دل على ذلك حديث أبي قتادة ، حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الآن بردت عليه جلدته" [مسند أحمد (14576) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1812)] ، وكل ذلك جارٍ على قواعد الشرع، وهو محض القياس، فإن الثواب حق العامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك، كما لم يُمنع من هبة ماله في حياته، وإبرائه له منه بعد وفاته.
وقد استدل بعض علمائنا على قراءة القرآن على القبر، بحديث العسيب الرطب الذي شقه النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً، ثم قال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا" [البخاري (1361)].
وكذا ينتفع الآباء بدعاء الأبناء واستغفارهم، فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : "إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول أنى هذا ؟ فيقال باستغفار ولدك لك" [ابن ماجه (3660) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1617)].
هذه أدلة لمن قال بأنه ينتفع الميت بأعمال الحي التي يهديها له، وانتفاعه بالأقوال كالذكر إذا أهدي له، وكذلك الاستغفار له والدعاء وما أشبه ذلك، دليله الأحاديث التي تحث على الاستغفار للأموات والدعاء لهم؛ وذلك لأن دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، وقد ورد أنه إذا دعوت لأخيك الغائب يقول الملك: آمين، ولك بمثل، وسواء كان ذلك الذي دعوت له حياً أو ميتاً. وكذلك أخبر الله تعالى بأن الملائكة تستغفر للمؤمنين، فدل على أنهم ينتفعون بأعمال غيرهم؛ وذلك لأن هذا العمل الذي يهدى إليهم يعتبر تبرعاً من ذلك العامل.
نسأل الله حسن الخاتمة، وبرد العيش بعد الموت، ربنا اغفر لنا وارحمنا، وعافانا واعف عنا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه. واعتبروا بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب.
أيها الإخوة: وقد ذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء إلى الميت ألبتة من أعمال الأحياء، لا الدعاء ولا غيره. وقولهم مردود بالكتاب والسنة، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم:39]، وقوله: (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس:54]، وقوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة:286].
وهذا مردود عليه بالنصوص السابقة الثابتة في وصول ثواب الصدقة والحج والصيام، وانتفاع الميت بالدعاء وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به" [مسلم 1931]، فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه.
ولا شك أن الآية إنما فيها الملكية، أي: لا يملك الإنسان إلا سعيه، أما سعي غيره فلا يقدر عليه، فلا يقدر الميت أن يأخذ من أعمال أولاده، ولا يقدر أن يأخذ من أعمال زوجاته، ولو كانوا يحبونه. ولعل هذا في الدار الآخرة، فقد ورد في تفسير قول الله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37] أنه يلقى الرجل ولده فيقول: يا بني! أنا خير أب لك، أنا الذي أعطيتك، أنا الذي نفعتك وربيتك.
فيقول: صدقت ونعم الأب! فيقول: إني بحاجة إلى حسنة أو حسنات ليثقل بها ميزاني، فيقول الابن: وأنا بحاجة إلى ما أنت بحاجة إليه، نفسي نفسي! ويأتي إلى زوجته، فيذكرها صحبته، فيسألها حسنة أو حسنات، فتمتنع وتقول: أريدها لنفسي، أخشى أن يخف ميزاني وهكذا، ففي الدار الآخرة لا ينتفع أحد إلا بعمله، وأما في الدنيا فلا مانع من أن يهدي الحي للميت، ومن أن يعطيه، ومن أن يتصدق عنه ويدعو له، لا مانع من ذلك؛ حيث إنه تبرع بذلك.
ويحتمل أن يكون قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) [النجم:39] خاصاً في السيئة بدليل ما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "قال الله -عز وجل-: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشراً إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة" [مسلم(128)] والقرآن دال على هذا قال الله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160] وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) [البقرة: 261] ، وقال في الآية الأخرى: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ) [البقرة: 265] وقال: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) [البقرة: 245] وهذا كله تفضل من الله تعالى، وطريق العدل: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 39]، إلا أن الله -عز وجل- يتفضل عليه بما لم يجب له ،كما أن زيادة الأضعاف فضل منه ،كتب لهم بالحسنة الواحدة: عشراً إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة.
وعن أبي هريرة أنه قال إن الله- عز وجل- يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال الراوي: فقضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا فلقيته، فقلت: بلغني عنك حديث، أنك تقول سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله- عز وجل- يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة" قال أبو هريرة: لا بل سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول إن الله -عز وجل- يعطيه ألفي ألف حسنة، ثم تلا (يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 40] [مسند أحمد (10770) وفي سنده مقال انظر السلسلة الصحيحة (7/389)].
عباد الله: وإذا كان الله الرحيم قد تفضل على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل، فما ظنك بعمل المؤمن عن نفسه أو عن غيره؟! نسأل الله من واسع فضله.
أيها الإخوة: وإنما طولنا النفس في هذا المسألة، لأن الشيخ الفقيه القاضي الإمام مفتي الأنام عبد العزيز بن عبد السلام -رحمه الله- كان يفتي بأنه لا يصل للميت ثواب ما يقرأ، ويحتج بقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 39]، فلما توفي -رحمه الله-، رآه بعض أصحابه ممن كان يجالسه وسأله عن ذلك, وهنا وقفة أن المنامات تسر ولا تغر فليست شرع ولا دين وإنما حكايات تروى للبشرى أو التذكرة فقط, فقال له صاحبه: إنك كنت تقول: إنه لا يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ ويهدي إليه، فكيف الأمر؟ فقال له: إني كنت أقول ذلك في دار الدنيا، والآن فقد رجعت عنه لما رأيت من كرم الله تعالى في ذلك، وأنه يصل إليه ذلك.
وقد حكي أن امرأة جاءت إلى الحسن البصري -رحمه الله- فقالت: إن ابنتي ماتت، وقد أحببت أن أراها في المنام، فعلمني صلاة أصليها لعلي أراها، فعلمها صلاة، فرأت ابنتها وعليها لباس القطران، والغل في عنقها، والقيد في رجلها، فارتاعت لذلك، فأعلمت الحسن فاغتم عليها، فلم تمض مدة حتى رآها الحسن في المنام، وهي في الجنة على سرير، وعلى رأسها تاج، فقالت له يا شيخ: أما تعرفني؟ قال: لا، قالت له: أنا تلك المرأة التي علمت أمي الصلاة فرأتني في المنام، قال لها: فما سبب أمرك؟ قالت: مر بمقبرتنا رجل، فصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان في المقبرة خمسمائة وستون إنساناً في العذاب فنودي: ارفعوا العذاب عنهم ببركة صلاة هذا الرجل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم: مات أخ لي فرأيته في المنام فقلت: ما كان حالك حين وضعت في قبرك؟ قالت: أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعياً دعا لي لرأيت أنه سيضربني به.
عباد الله: إن الموت من أعظم المصائب، وقد سماه الله تعالى مصيبة في قوله: (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة: 106] فالموت هو المصيبة العظمى والرزية الكبرى، وأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وقلة التفكر فيه، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر، فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.
فتذكروا -رحمكم الله- حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا. اللهم يا سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيرًا لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.