العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن في السيرة تفصيل كامل عن مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكيف تربى؟ وكيف عاش في هذه الحياة؟ وما هي المواقف والأحداث التي مر بها؟ وكيف تصرف معها؟ وماهي الصفات التي كان يحملها حتى اختاره الله نبياً؟ وما هي الغزوات والمعارك التي قادها وشارك فيها؟ وغير ذلك من الأمور التي تربي النفس على ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، هدى البشر إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على رسوله المجتبى الأمين، الذي تربّى على تعاليم القرآن الكريم، وتخلّق بما جاء فيه من الهدى والتربية حتى وصفه ربه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، ورضي الله عن آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الأمة الإسلامية تشتكي من أزمات متعددة، وأمراض كثيرة، واختلالات كبيرة، ومن أعظم هذه الأزمات والمخاطر الأزمة التربوية، وما تعانيه الأمة من ضعف حاد لدى كثير من أبنائها في الجانب التربوي.
ونحن اليوم بحاجة إلى التعرف على التربية النبوية وأهميتها للأمة الإسلامية؛ لأن أعظم مربٍّ للأمة هو إمامها وقائدها وقدوتها -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-. يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2]. فذكر الله في هذه الآية الكريمة أنه بعث رسوله -صلى الله عليه وسلم- لأجل أن يبين للناس آيات القرآن، ويزكيهم، ويعلمهم، وهذه هي التربية بعينها.
وفي آية أخرى يقول: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران:164]. وهذه الآية أعم من تلك فهي تخاطب المؤمنين جميعاً وليس العرب الأميين فقط بأن يقدّروا هذه النعمة العظيمة من الله لهم، حيث أرسل لهم خير الرسل مزكياً ومعلماً ومربياً، فعليهم أن يتعلموا هديه، ويتأسوا بأخلاقه، ويتربوا بتربيته -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: إذا أردنا أن نعرف مدى أهمية التربية النبوية لنا فإن علينا أن نتأمل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ونقرأ في أخباره العطرة، وأيامه الجميلة، وذكرياته العبقة، حتى نعرف فضله، ونفهم قيمته، ونتأسى به في كل أفعالنا وأقوالنا ومشاعرنا، فتكون تربيتنا تربية نبوية.
لقد قصّرنا كثيراً في قراءة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والاعتبار بها، بل منا من لا يعرف شيئاً عنها إلا النزر اليسير، فأنى لقوم أن يعتبروا بشيء لم يسمعوا به، ولم يعرفوا عنه شيئا. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
إني أنصح كل واحد منا أن يأخذ من اليوم كتاباً في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشمائله الكريمة، ككتاب الرحيق المختوم مثلاً، ويقرأه ويعتبر بما جاء فيه من أحداث نبوية، وشمائل محمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
إن في السيرة تفصيل كامل عن مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكيف تربى؟ وكيف عاش في هذه الحياة؟ وما هي المواقف والأحداث التي مر بها؟ وكيف تصرف معها؟ وما هي الصفات التي كان يحملها حتى اختاره الله نبياً؟ وما هي الغزوات والمعارك التي قادها وشارك فيها؟ وغير ذلك من الأمور التي تربي النفس على التربية النبوية الشاملة الكاملة الجامعة بين خيري الدنيا والآخرة والدين والدنيا.
أيها المسلمون: ومما يجعل المرء يتربى بالتربية النبوية: أن يكثر من قراءة الأحاديث النبوية الشريفة، والاطلاع على كلامه المبارك -صلى الله عليه وسلم- حتى يتعظ به، ويستفيد منه؛ فإن في كلماته -صلى الله عليه وسلم- بركة، وتكسوا من يقرأها ويتأملها إيماناً وتربية. روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ -وذكر منها - : أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ..." [البخاري:7013، مسلم:523]. وفي لفظ البخاري "قَالَ مُحَمَّدٌ -أَبُو عَبْدِ اللهِ-: "وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللهَ يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ".
إن هناك كتب كثيرة مليئة بالأحاديث النبوية الشريفة، ككتب الصحاح -كصحيح البخاري ومسلم- وغيرها من كتب المسانيد والسنن التي احتوت على الألاف من الأحاديث النبوية، و كتاب رياض الصالحين، فلنقتني كتاباً من هذه الكتب حتى نختمه ونبدأ في الذي يليه، حتى تعمنا البركة بتأمل الكلم الذي قال الله عنه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4]، وحتى نتربى بالتربية النبوية التي احتوتها هذه الأحاديث الشريفة.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ " [أحمد:17447].
فإذا كان القرآن المرجع الأول في التربية لهذه الأمة، فإن السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي في كل شيء ومن ذلك التربية. روى أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-، قَالَ: "كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا : تَكْتُبُ وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأَمْسَكْتُ، حَتَّى ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَقَالَ: اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ" [أحمد:6803] -صلى الله عليه وسلم-.
ومما يجعل المسلم يهتم بالتربية النبوية: أن يتدبُّر أقوال وأفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويسعى سعياً دائماً ودؤوباً لمقاربتها والاقتداء بها واتباعها؛ لأنها المقياس الذي أمرنا أن نَزِنَ به أعمالنا، وهي الوسيلة التي نمارس بها النقد والتمحيص لكل تصرفاتنا، كما قال -تعالى-: (قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:31].
إن من سعى في التمثل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتشبه به والاقتداء بهديه فإنه سيتربى على سنته، ويكون من المتشبهين به، وستظهر التربية النبوية على ظاهره وباطنه، وبذلك يكون من خير أتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لا نستحقر أنفسنا، أو نقول من نحن حتى نكون كالرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ وماذا عندنا حتى نقتدي بالصحابة؟ صحيح أننا لن نساويهم شيئاً، ولن نصل إلى ما وصلوا إليه أبداً، ولن نكون مثلهم مهما عملنا وفعلنا، ولكن يكفينا الاقتداء بهم والتأسي بهم.
أَبداً تَحنُّ إِلَيكُمُ الأَرواحُ | وَوِصالُكُم رَيحانُها وَالراحُ |
يا صاحِ لَيسَ عَلى المُحبِّ مَلامَةٌ | إِن لاحَ في أُفق الوِصالِ صَباحُ |
فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكُونوا مِثلَهُم | إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ |
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: ومما يجعل النفوس تتربى بالتربية النبوية وتتأثر بها: صحبة الصالحين، ومسايرة المتقين، لأن هؤلاء هم ورثة الأنبياء، وخير خلف لخير سلف، فصحبتهم غنيمة، والسير معهم هدى وفلاح، وحضور مجالسهم قدوة وتربية. يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
إن الصالحين هم النموذج الحي للتربية النبوية، والعلماء الربانيين هم القدوة الحقيقية للأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام-، ومن ساير هؤلاء وعايشهم فإنه ولابد سيتأثر بهم، ويأخذ من تربيتهم المستمدة من التربية النبوية، ويكون مثلهم في أخلاقه وتربيته وتعامله.
عباد الله: إن الخلل التربوي العظيم الموجود اليوم في هذه الأمة؛ إنما سببه الأساسي هو بعدها عن هدي نبيها -صلى الله عليه وسلم- ومنهجه في التربية، وتأثرها بمناهج التربية الشرقية والغربية، وجعلها من علماء التربية في الشرق والغرب قدوات يقتدى بها، ويرُجع إلى مناهجها، ويعتمد على نظرياتها في كل الأمور التربوية.
لقد حصلت الاختلالات التربوية العميقة في واقعنا لأننا لم نقتدِ بمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في التربية، فأنى للمتربي أن يتربى في بيت يعج بالمنكرات، ومدرسة تضج بقرناء السوء وقدوات الشر، وشوارع فيها كل المنكرات والموبقات التي نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- ومجتمع بعيد كل البعد عن هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف:158].
فالله الله في الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التربية، والتأسي به في منهجه التربوي، فإن ذلك والله هو الفلاح والنجاح، والخير والصلاح في الدنيا والآخرة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) [الأنفال:20-21].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.