الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن ناصر الزاحم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
واعلموا -عباد الله- أن الإصلاح ليس وظيفة تحتكر لجهة معينة، أو لأفراد بأعينهم، إنها عملية ضخمة واسعة تتسع للجميع، ينبغي للجميع المساهمة فيها، كل بحسبه وموقعه، وما أعطاه الله من طاقات وإمكانات، فالكاتب بقلمه، والخطيب والداعي بكلمته، والمعلم بتوجيهه وتربيته، والأب في منزله، والموظف في مكتبه، والإمام في مسجده، وساكن الحي في حيه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله -عز وجل- خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، واستعمرهم في الأرض ليعمروها، وينشروا الخير فيها.
فكان الإصلاح هو سبيل أئمة المصلحين من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو منهجهم، فشعيب -عليه السلام- يقول لقومه: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود:88]، وأوصى موسى -عليه السلام- أخاه هارون فقال: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف:142].
فالله -عز وجل- نهى عن الإفساد، فقال -سبحانه-: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف:56]، وأخبر -جل وعلا- أنه لا يحب الفساد ولا يحب المفسدين، فقال مبيناً حال بعض الناس: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة:205].
وأمر بالإحسان، ونهى عن الفساد فقال: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:77].
وبين -جل وعلا- الفارق العظيم بين أهل الإصلاح وأهل الفساد، فقال: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص: 28].
عباد الله: إن أشد الناس إفسادا هم المنافقون، ويحاولون أن يلبسوا ثياب المصلحين ويظهروا أنفسهم بأنهم يريدون الإصلاح: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) [البقرة:11-12].
وأقبح من ذلك أنهم يتهمون المصلحين بالإفساد، وهذا مذهب إمام المفسدين فرعون، الذي اتهم موسى بالإفساد، وحاول أن يقنع قومه بذلك، يقول -جل وعلا-: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26]. فيا عجبا! فرعون الطاغية يزعم أنه يخاف على الدين من موسى -عليه السلام-! ويزعم أنه يريد حماية مجتمعه من فساد موسى -عليه السلام-!.
معاشر المؤمنين: إن الله -عز وجل- مع أهل الإصلاح، يتولاهم وينصرهم ويعينهم على المفسدين، وقد أمر الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للمشركين: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف:196]، وقال -جل وعلا-: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].
فالله -عز وجل- يعطي كل عبد على نيته، فهو -جل وعلا- يعلم مَن نيته الإفساد ومن قصده الإصلاح، قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة:220].
فأمْر أهل الإفساد مكشوف، بل إن الله -جل وعلا- يبطل عمل المفسدين، ويحبط مخططاتهم، قال -جل شأنه- في معرض أخبار موسى مع فرعون: (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:81].
معاشر المؤمنين: إن صور الإفساد في الأرض متعددة، على رأسها الاعتداء على الأموال والأرواح وإخلال الأمن، وهذا أمر يعرفه الجميع.
ولكن؛ من صور الإفساد التي يظن بعض الناس أنها ليست من الإفساد، وهي منه: أكل أموال الناس بالباطل، والتعامل بالربا، وطلب الرشوة أو أخذها، والفساد الإداري في الأجهزة والإدارات المختلفة، وكذلك الاعتداء على حقوق الآخرين بسرقة أو نحوها، واحتكار المواد الغذائية وخاصة الضروري منها.
ومن الفساد: تغيير منار الأرض وعلاماتها، ويدخل في ذلك تعمد إفساد اللوحات الإرشادية التي تضعها الدولة لدلالة الناس وإرشادهم.
ومن الإفساد: الإعانة على نشر البدع والمنكرات، وإشاعة الفاحشة، ومحاربة دين الله، والاستهزاء بأحكامه وأهله ودعاته، والحكم بغير ما أنزل الله، وإثارة الفتن، وتخريب وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة.
ومنه: بيع المحرمات كالدخان والمخدرات، والمجلات الماجنة، والأفلام الهابطة.
هذه بعض من أنواع الإفساد التي قد يقع فيها بعض الناس وهم لا يشعرون أنهم يفسدون. فالإفساد يدخل في جوانب متعددة من نواحي الحياة.
كما أن ميدان الإصلاح واسع وشامل، فلا يمكن بأي حال من الأحوال قصر الإصلاح على جوانب محددة، بل هو عملية متكاملة تدخل جميع جوانب الحياة، ابتداء من نشر التوحيد ومحاربة الشرك، ثم تعليم الناس العبادات والمعاملات والأخلاق، بناء على أسس وقواعد شرعية.
فالإصلاح لم يدع شاردة ولا واردة مما يمس حياة الناس الخاصة والعامة، الفردية والجماعية، القريبة والبعيدة، الداخلية والخارجية، إلا وشملها.
هذا منهج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن بعده خلفاؤه الراشدون، ساروا على نهجه، ثم تبعهم من خلفهم من الخلفاء والعلماء على مر العصور، كانوا يسعون إلى الإصلاح في كل باب من أبواب الحياة، وفي كل فن من الفنون.
تلك هي الوظيفة التي شرف الله بها هذه الأمة، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما هي إلا نهي عن الفساد ومحاربة له، وأمر بالإصلاح ودعوة إليه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110].
وقال -تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].
وفي الحديث، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابه".
فالإصلاح والصلاح سبيل النجاة، وهو حصن للأمة من الشرور والفتن، قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117] وقال: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص:59]. ومن الظلم: الاستمرار على المعاصي والمنكرات، وعدم قبول نصح المصلحين.
نسأل الله -جل وعلا- أن يرحمنا برحمته، وأن يدخلنا في عباده الصالحين.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأعراف:85].
أيها المسلمون: لقد أخبر الله -تعالى- عن طغاة ثمود الذين كانوا يدعون قومهم إلى الضلال والكفر، وتكذيب نبي الله صالح -عليه السلام- فقال: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [النمل:48].
كما أخبر -تعالى- أنه فرق أهل الأرض إلى طائفتين لا ثالث لهما، فقال: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ) [الأعراف:168]، فالطائفة الأولى هم الصالحون، والثانية مَن هم دون ذلك.
وهذا -أيضا- في الجن، قال -تعالى- حكاية عن بعض الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) [الجن:11].
وأخبر -جل وعلا- أن العاقبة في النهاية تكون لأهل الإصلاح، وأنهم الذين سيتولون زمام الأمور، فقال -سبحانه-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105].
فالله خلق الأرض للصلاح ولأهل الإصلاح، وما يحصل من الفساد فإنما يكون لفترة مؤقتة ولحكمة يريدها الله، ثم يجعل العاقبة للمتقين.
وقص الله علينا عاقبة أهل الفساد والطغيان فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) [الفجر:6-13].
أيها الأحبة في الله: المصلحون هم الذين يريدون مصلحة البلاد والعباد ويبحثون عنها، والمفسدون هم الذين يسعون لخراب البلاد والعباد.
المصلحون لا يرضون بالمنكرات في المجتمع، بل يسعون جاهدين لإزالتها وإقصائها، ويحاربون الشهوات المحرمة، وما نشاهده ونلمسه في واقعنا اليوم من الخير إنما هو بفضل الله -عز وجل-، ثم بفضل البقية الباقية من أهل الإصلاح.
عباد الله: إن في المجتمعات قضايا لا يمكن أن تتغير إلا إذا تصدى لها المصلحون الصادقون.
واعلموا -عباد الله- أن الإصلاح ليس وظيفة تحتكر لجهة معينة، أو لأفراد بأعينهم، إنها عملية ضخمة واسعة تتسع للجميع، ينبغي للجميع المساهمة فيها، كل بحسبه وموقعه، وما أعطاه الله من طاقات وإمكانات، فالكاتب بقلمه، والخطيب والداعي بكلمته، والمعلم بتوجيهه وتربيته، والأب في منزله، والموظف في مكتبه، والإمام في مسجده، وساكن الحي في حيه.
ومما ينبغي الإلمام به أن يعلم كل فرد منا أنه لا يشترط لمن أراد أن ينضم للمصلحين أن يكون كاملا خاليا من كل نقص وعيب، طاهرا ظاهرا وباطنا، فهذا يصعب إدراكه، ومن طلبه فإنما يطلب المستحيل، وهذه مسألة يثيرها أهل الفساد؛ الذين يتصيدون على أهل الإصلاح، فإذا كان لدي نقص أو تقصير في جانب فإنه لا يمنعني من حب الخير ونشره والإصلاح، مع السعي لإصلاح أحوالي ما استطعت.
فاحذروا -عباد الله- أن توقفكم هذه النقطة، تلمس -يا أخي- مواطن النقص والخلل في نفسك، وعالجها، وسد الخلل، وأكمل النقص وأنت تمارس العملية الإصلاحية في آن واحد؛ فإن العمر يفنى، ولو عمرت عمر نوح فالخلل موجود، وهذه طبيعة البشر.
واعلموا -عباد الله- أن الله -جل وعلا- قد جعل المصلحين شوكة في نحور المفسدين من أهل الشهوات والنفاق، فإذا حاولوا تجهيل الناس، أظهر الله عليهم من يحيي العلم وينير الطريق لهم، وإن حاولوا إسقاط راية الجهاد، أظهر الله في الأمة من يبعثها، وإذا حاولوا إشاعة المنكرات بين الناس، أظهر الله من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذه الأمة أمة مباركة، والخيرية باقية فيها إلى قيام الساعة، أمة كالغيث، لا يُدرَى: هل الخير في أوله أم في آخره؟.
نسأل الله -عز وجل- أن يحفظنا بحفظه...
ثم صلوا وسلموا على خير البشرية أجمعين، وقائد الغر المحجلين...