اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
والله هو وحْده الحكيم ولا حكيم سِواه وحكْمة البشَر مُسْتَنْبَطةٌ من حِكْمة الله, فقد قال: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). [آل عمران: 6]، فبالحِكمة ستكون أسعد عباده ولو برزق يسير، وبالحُمق ستكون أشقى عباده ولو بالدخل الكثير، وبالحكمة تعيش هادئ البال مستريح الضمير تسوس الحياة برفق وتتقبل تنوعها، وعندها تكون السعادة والحياة الطيبة...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خاتم المرسلين، وسيد الأوليين والأخرين، ورحمة مهداة للعالمين، نشهد أنه قد أدى الأمانة، ونشر الديانة، ونصح لهذه الأمة، وأقام الله تعالى به الملة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين فجزاه الله خير ما جزا نبيا عن أمته وداعيا عن دعوته، وارض اللهم عن آل بيته الكرام، وعن أصحابه الأعلام، وعلى من سار على دربه من الأنام، ما تعاقب الليالي وأدبرت الأيام.
عباد الله: أوصيكم بخير الوصايا من رب البرايا، أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فهي مفتاح السعادة في الدارين، وهي تاج ملوك الآخرة، وزينة المؤمنين، وعدة الصابرين، وزاد الصالحين، بها التفاضل والنجاة، بين خلق الله.
عباد الله: ذكر ابن كثير في كتابه الشهير (البداية والنهاية) في ترجمة لقمان الحكيم الذي ذكره الله -عز وجل- في القرآن الكريم في ثماني آيات من سورة لقمان قال عنه : "هو لقمان بن عنقاء، وكان رجلاً صالحاً ذا عبادة وعبارة وحكمة عظيمة. وقيل: كان قاضياً في زمن داود -عليه السلام- فالله أعلم، ولقد أعطاه الله الحكمة، ومنعه النبوّة، وكان عبداً أسودا، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، وإن الله رفعه لحكمته".
ومن خلال أوصافه الخلقية التي ذكرها عنه ابن كثير إلا أن الحكمة هي التي رفعت قدر لقمان الحكيم، وهي التي حولته من عبد أسود لا يأبه له، إلى أن يكون علما من أعلام البشرية, فخلد الله ذكره في القرآن، وكثير من الناس بل سوادهم الأعظم يفتقد الحكمة في تصرفاته وقراراته، بل كثير منهم يفهمون الحكمة فهما غلطا، ويحصرونها في معنى ضيق، فالحكمة هي العلم بحقائق الأشياء, والعمل بمقتضاها, ومعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم وضبط النفس والطبع عند الغضب, كما تعني إصابة الحق في الأقوال والأفعال.
فمن الذي وهب لقمان هذا العطاء الكبير والخير الكثير حتى صار يضرب به الأمثال في الحكمة وسداد المنطق, إنه الله العلي الحكيم الحكم العدل، الذي يهب الحكمة من يشاء من عباده: (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [ البقرة 269]، إذاً ما كان فيه لقمان من حكمة مأثورة هي فيض وعطاء من الله -عز وجل-، فكيف تكون حكمته ؟ وكيف يكون معنى اسمه الحكيم -سبحانه وتعالى-؟.
الحكيم من أعظم أسماء الله -عز وجل- وأكثرها ذكرا في كتابه العزيز، وهو ثابت في الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، ذكر بعض أهل العلم واحدا وثمانين موضعا، منها قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحديد:1], كما ورد هذا الاسم بتصريفات لغوية أخرى مثل الحكم والحاكم مما يدل على أهمية العلم بمعاني ومضامين هذا الاسم العظيم. قال الله تعالى: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يونس: 109], وقال: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) [الأنعام: 114].
ومن السنة حديث سَعْد بن أَبِيِ وقاص -رضي الله عنه- قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- فَقَالَ عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقُولُهُ. قَالَ: "قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا, سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. قَالَ فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي فَمَا لِي؟ قَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي" [مسلم (2696)].
والحكيم له معان عديدة: فيأتي بمعنى مُحكِم, أي مُتقن, وهو المقدِّر التقدير الصحيح الذي يحكم الأشياء ويحسن دقائق الأمور ويتقنها, والحكيم الذي يتنزّه عن فِعل ما لا ينبغي, والحكيم من له العِلم والمعرفة المطلقة, ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها.
عباد الله: ومن خلال هذا العرض يتضح لنا أن الحكيم في لغة العرب يدور حول ثلاثة معانٍ: وضع الشيء في موضعه، ومن بيده الحكم، والمتقن العليم، وكلها أمور لا تجتمع إلا لله -عز وجل-، تقدست أسماؤه وتباركت صفاته.
أما عن كلام أهل العلم من سلف الأمة وخلفها حول تفسير اسم الحكيم من جهة إطلاقه على الله -عز وجل- فيدور حول هذه المعاني العظيمة، ومن هذه الأقوال:
قال ابن جرير: "الحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل". وقال ابن كثير: "الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محلها بحكمته وعدله". وقال الحليمي: "الحكيم هو الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم".
وقال ابن القيم في نونيته:
وهو الحكيم وذاك من أوصافه | نوعان أيْضا ما هما عِدْمَان |
حُكْمٌ وإحْكَامٌ، فكُلٌ مِنْهُمَا | نوعان أيضا ثابت البرهان |
وقد شرح العلاّمة السعدي هذين البيتين فقال: "وحكمته تعالى نوعان، إحداهما: الحكمة في خلقه فإنّه خلق الخلق بالحق وهذه يدركها كل الناس، وكان غايته والمقصود به هو الحق، فخلق المخلوقات كلها على أحسن نظام، ورتّبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه نقصا ولا فطورا، فلو اجتمعت عقول كل الخلق ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقاربه لم يقدروا على ذلك، وأنى لهم القدرة على شيء من ذلك, وقد تحدى الله عباده أن ينظروا ويكرروا النظر والتأمل هل يجدون في خلقه خللا أو نقصا وأنّه لا بد أن ترجع الأبصار كليلية وعاجزة على الاعتراض على شيء من مخلوقاته. (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك:3-4].
والنوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنّه تعالى شرع الشرائع وأنزل الكتب فهل هناك كرم أعظم من هذا؟ فإنّ معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له وإخلاص العمل له وحمده وشكره والثناء عليه أفضل العطايا لعباده، كما أنها السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية والنعيم الدائم، فلو لم يكن في شرعه إلا هذا لكان كافيا وشافيا، هذا وقد اشتمل دينه وشرعه على كل خير.
أيها المسلمون: وهنا يتضح لنا معنى وحقيقة اسم الله الحكيم، فالله -تبارك وتعالى- حكيم لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، حكيم في أقواله وأفعاله، يضع الأشياء في محلها بحكمته وعدله وعلمه, وهو أحكم الحاكمين الذي لا يجور، ولا يظلم أحداً, ولا يصدر منه الشرور ولا الفساد ولا الجور, وله في كل ما خلقه وشرعه حكَمُه البالغة, ونعَمُه السابغة, فلا حكم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه، الذي سلم له الحكم، ورد إليه الأمر، المحمود على حكمته بين العباد في الدنيا والآخرة، ولأنّه الحكيم يؤتي الحِكمة من يشاء من عباده، ومن أعطيها فقد أعطي خيرا كثيرا, ومن حرمها حرم خيرا كثيرا, قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة: 269], ومثل هذه النعمة ينبغي أن تغبط جاء في حديث ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" [البخاري (1409)].
عباد الله: ولا مقارنة بين حكمة الخالق صاحب العلم والقدرة والغنى والكمال والعظمة, وحكمة الإنسان الجهول الفقير الضعيف الظلوم, وذلك من وجوه كثيرة نورد بعضا منها:
أولاً: حكمة الله مطلقه وشاملة, له علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون, قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 18] وهو الموصوف بكمال الحكمة وبكمال الحُكم بين المخلوقات، واسع العلم والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، واسع الحمد، تام القدرة، غزير الرحمة الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره، فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال, وأوامره ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا، فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهي إلا عما مضرته خالصة أو راجحة, أما حكمة العبد فقاصرة يشوبها جهل وفتنه, ويعتريها نسيان وفشل.
ثانياً: الحكيم في حق الله تعالى خالق الأشياء في غاية الإحكام والإتقان والكمال، وهو الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويعلم خواصها ومنافعها، الخبير بحقائقها, أما الحكمة في حق العباد فهي الصواب في القول والعمل بقدر حدود وطاقة البشر.
ثالثا: حكمة الله -عز وجل- أصلية وذاتية وأزلية، أما حكمة المخلوق فمكتسبة من الله -عز وجل-، فهي غيض من فيض الحكمة الإلهية.
فحكمة الله بالغة والكون كله شاهد على حكمته البالغة، وبديع صنيعه في الخلق تحار معه العقول وتعجب من روعته النفوس، ويؤمن بقدرته أولو النهى والأبصار، لذلك قالوا : إن أكثر الناس إيمانا بالله هم أكثرهم به وبخلقه وكونه علما، ومشاهد حكمته -جل وعلا- كثيرة، تتجلى للمؤمنين، وتحجب عن الكافرين الغافلين، ومن هذه المشاهد والمظاهر التي تجلت فيها حكمته -عز وجل-:
من حكمة الله أن كلامه حكيم ومحكم في مضمونه ومقاصده, وفي أسلوبه الرائع, وفي هدايته ورحمته, وفي إيضاحه وبيانه، حكيم في كل ما اشتمل عليه, لا حشو فيه ولا نقص ولا عيب ولا تعارض ولا تناقض, لأنه كلام رب العالمين، وأحكم الحاكمين: (الر * كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1], لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, كما يكون في كلام البشر, وتقتضي حكمة الله أن يكون القرآن حكيما ومحكما في جميع شئون الحياة، لأن ما شرعه من الأحكام والمعاملات، والآداب والأخلاق، والحدود والشرائع في منتهى الحكمة والعدل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ*لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 41، 42]، فأوامره ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا، فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مضرته خالصة أو راجحة.
ومن حكمة الشرع الإسلامي كما أنه هو الغاية لصلاح القلوب، والأخلاق، والأعمال، والاستقامة على الصراط المستقيم، فهو الغاية لصلاح الدنيا، فلا تصلح أمور الدنيا صلاحاً حقيقياً إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا مشاهد محسوس لكل عاقل، فإنَّ أمة محمد لما كانوا قائمين بهذا الدين أصوله وفروعه وجميع ما يهدي ويرشد إليه، كانت أحوالهم في غاية الاستقامة والصلاح، ولما انحرفوا عنه وتركوا كثيراً من هداه ولم يسترشدوا بتعاليمه العالية، انحرفت دنياهم كما انحرف دينهم.
وانظر -أخي المبارك- إلى الأمم الأخرى التي بلغت في القوة، والحضارة والمدنية مبلغاً هائلاً عظيما، لما كانت خالية من روح الدين ورحمته وعدله وحكمته، كان ضررها أعظم من نفعها، وشرها أكبر من خيرها, وكيف عجز علماؤُها وحكماؤُها وساستُها عن تلافي الشرور الناشئة عنها، ولن يقدروا على ذلك ما داموا على حالهم. ولهذا كان من حكمته تعالى أن ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من الدين والقرآن أكبر البراهين على صدقه وصدق ما جاء به، لكونه محكماً كاملاً لا يحصل إلا به. فكيف يعرض الناس عنه إلى غيره وهو جزء لا يتجزأ من حكمة الله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].
أيها المسلمون: إنه يتوجب على الحكام أن يحكموا بين الناس بما أنزل الله، ولا يتعدوا حكم الله الذي شرعه لهم, كما قال -سبحانه-: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26]، وأمر -سبحانه- نبيه أن يحكم بين الناس بما أنزل إليه من الأحكام الربانية الحكيمة, التي شرعت ونزلت متناسبة ومتناسقة مع أحوالهم وطاقاتهم, وأن يترك ما سواها من الآراء والأهواء: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة: 49].
والإعراض عن حكم الحكيم -سبحانه- وعدم قبوله أمر منافٍ للإيمان, ولهذا وصف الله المؤمنين بأنهم لقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرضون, ولحكمه يسلمون, قال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51].
عباد الله: ومن مظاهر حكمته سبحانه أنه قد وضع كل شيء في الموضع الذي لا يصلح إلا له ولا يليق إلا به, ولو اجتمع علماء الأمة وأطباؤها وفلاسفتها ومفكروها على أن يضعوا شيئاً في مكانٍ خيرٍ من مكانه الذي وَضَعَهُ الحَكِيمُ فيه, لضلَّ سعيهم هدرا, وكان جهد في تباب, فقد خلق خلقه في أحسن وأتقن ما يكون عليه الخلق، فلا يدخل في تدبيره وتقديره خلل ولا يعتري صنعه نقص, وفي قصة يونس -عليه السلام- أعظم دليل على حكمته -سبحانه- في خلقه.
فعندما نُبِذَ بالعراء وأنبت الله عليه اليقطينة, كان السؤال المحير: لماذا شجرة اليقطين بالتحديد؟ وهذا ما دفع البحوث العلمية لمعرفة مكونات اليقطينيات, حيث أن لها أثر وقائي وعلاجي, فكثافة وكبر حجم أوراق اليقطين ظلّ رائع لا تصل أشعة الشمس المباشرة إلى جسده فتتلفه, ووجد أيضاً أن نبات اليقطين سريع النمو، والإزهار، والإثمار، وثماره تحتوي على المواد الغذائية اللازمة للجسم، وثماره تؤكل خضراء طرية، وتؤكل ناضجة، وقابلة للتخزين من دون تلف لمدة طويلة لسمك جدار الثمرة. لذلك اختار الحكيم -سبحانه- هذه النبتة فأنبتها على نبيه يونس -عليه السلام-.
فسبحان الله الحكيم الذي علِم أن يونس -عليه السلام- مريضاً وضعيفاً منهك القوى, لا يحتمل حرارة الشمس المباشرة, وضربات الرياح الحادة, وتطفل الحشرات المؤذية, فكانت نبات اليقطين هي الشجرة الأنسب لحالة مثل هذه، فتجلت حكمة الله في هذا الأمر.
ومن مظاهر كمال حكمة الله؛ هذه الآيات الكونية التي هي ملأ السمع والبصر أمام الخلق أجمعين، خير شاهد على هذه الحكمة الإلهية، منها البحار الزاخرات فلولا إمساك الله -تبارك وتعالى- لماء البحار بقدرته وحبسه له لطفح ماؤه على الأرض وعلاها فقتل أحيائها وأفسد معايشها, والشمس لو ابتعدت عن الأرض لنقصت كمية الحرارة ولتجمدت الكائنات على وجه البسيطة، ولو اقتربت الأرض من الشمس لارتفعت الحرارة وصارت الحياة غير ممكنة على الأرض وكذلك الجبال وغيرها.
ومن حكمته جعل ماء العين مالحاً وليس حلوا, وسائل الأذن مراً وليس حلوا, وسائل الفم عذبا وليس مراً, والحكمة في ذلك لأنه لو كان سائل العين حلوا لتجمدت, ولو كان سائل الأذن حلوا لملئت فيها الحشرات, لكن جعله مُرًّا حتى لا ترغب الميكروبات البقاء فيه, وليحفظها فشحمتها قابله للفساد فكانت ملاحتها صيانة لها, وسائل الفم عذباً ليدرك طعم الأشياء على ما هي عليه, إذا لو كانت على غير هذه الصفة لأحالها إلى غير طبيعتها.
اللهم علمنا الحكمة، وانفعنا بما علمتنا، وأفض علينا من بركاتك ونعمك الغزيرة, يا أرحم الراحمين, ويا أحكم الحاكمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مبلغ الراجي فوق مأموله، معطي السائل زيادة على مسؤوله، أحمده على نيل الهدى وحصوله، وأصلي وأسلم على محمد عبده ورسوله، ما تردد ذكره وفاح عطره من خلفه إلى قبوله.
عباد الله: الحكمة هي ضالة المؤمن, أنى وجدها أخذها واستمسك بها، كما ورد ذلك في حديث ضعيف أخرجه الترمذي وابن ماجه، والحديث وإن كان ضعيفا في إسناده إلا إن معناه في غاية الصحة, لأنه موافق لما دلّ عليه القرآن.
فالحكمة هي من أعظم نعم الله على العبد، والمؤمن إذا فقه معاني ودلالات اسم الله الحكيم، فإن ذلك يورثه الكثير من الخيرات, واهتدى لطريق التصرف في جلّ التزامات حياته وقراراته وخطواته، وتجعله يسير على هدى وبصيرة وعلم وصواب في كل أفعاله وأقواله.
وإن من ثمار الإيمان والفقه والعلم باسم الله الحكيم: معرفة مفهوم الحكمة والتي وهي وضع كل شيء في موضعه اللائق به، وليس الرفق واللين فحسب، بل ربما كان من الحكمة الشدة والقسوة إذا اقتضت المصلحة, فالشدة في موضعها حكمة, كما أن الحزم في موضعه حكمة, يقول أبو تمّام:
فقسا ليزدجروا ومن يَكُ حازمًا | فلْيَقْسُ أحيانًا على من يرحم |
ولذلك من الحكمة ألا تكن لينا فتعصر ولا صلبا فتكسر. ويقول المتنبي:
ووَضْعُ النَدَى في مَوْضِعِ السَيْفِ بالعُلَى | مُضِرٌ كَوَضْعِ السَيْف في موضع الندَّى |
إنْ أنْتَ أكْرَمْتَ الكَرِيم مَلَكْته | وإن أنت أكرمت اللَّئيم تَمَرَّدَا |
ومن الآثار: إدراك حجم وفداحة الظلم وعواقبه، فإن معرفتنا لمعنى الحكمة سندرك أنّ الحكمة ضدها الظلم، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه، والله حكيم لا يظلم أحداً: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة) [النساء:40].
ومن الآثار كذلك: أنه يَلزمُ من الإيمان باسم الله الحكيم لوازم قلبية تعبدية تفرض على العبد الاستسلام لشرع الله, فيحكم به ويتحاكم إليه، ويرفض كل شرع يخالف شرع الله حكما وتحاكما، ولا يخلو أمره وخَلقه من الصلاح والخير إن حالا أو مآلاً, ولو ظهر فيها شيء مما تكرهه النفوس وتتألم منه مما يقدره الله، فلنتأمل قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216], وقال عن الرجل يكره زوجه: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء:19]. فالعبد لا يدري، فلعل وراء المكروه خيرا ووراء المحبوب شرا.
فالله هو العليم بالغايات البعيدة، فلو فهمنا حكمَ الله في الوجود واستوعبتها قلوبنا وتشربت نفوسنا بمعانيها لتلاشت كل الأحزان في حياتنا, ولأورثتنا راحة القلب من الهموم والحسد، والحقد الذي هو في حقيقته معارضة لأحكام الله القدرية.
فشتان بين منهج وضعته عقول البشر ومنهج وضعه الحكيم الخبير, يقول -سبحانه-: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ)[القمر: 4- 6] حكمة بالغة أي: علم نافع يترتب عليه تحرى الصواب في القول والفعل, وهذا الذي جاءهم من أنباء الماضين، ومن أخبار السابقين فيه ما فيه من الحكم البليغة، والعظات الواضحة التي لا خلل فيها ولا اضطراب.
فالحكيم من البشر من اتبع منهج الحكمة وتعلمه: (كَمَا أَرْسَلنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ) [البقرة:151], وأيضاً اختيار الحكمة منهجا هاديا دليلا، يسعد به ولا يرضى عنه بديلا، لعلمه ويقينه أنه الأعلى شأنا والأسمى كمالا.
ومن آثار الايمان بهذا الاسم: أن يلتزم المسلم في دعوته الحكمة والموعظة الحسنة، وأن يتصف بالبصيرة والوسطية في دعوته للكتاب والسنة، قال تعالى: (ادْعُ إلى سَبِيل رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ) [النحل:125]، ولا ينبغي لمؤمن أو داعية أن يحيد عن هذه الضوابط في دعوته وهذه الآداب في نصحه, فهذه هي طريقة المبلغ الأمين محمد, وقال: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف:108].
ومن الآثار: إغلاق وإبطال باب الحيل، فالذي يحتال على الشرع يطعن في حكمة الله تعالى، لأنّه حرم عليه شيء من هذا الطريق وهو وصل إليه من طريق آخر، لذلك كان جزاء المحتال شديدا وهو اللعنة والمسخ إما معنا أو حسا، كما فعل الله تعالى بأصحاب السبت: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف:166], وروى الترمذي عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:"لَعَنَ الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ" ووصفه في رواية أخرى "بالتيس المستعار"، فمسخ المحلل معنويا، كذلك يدخل في هذا الباب الاحتيال في الربا, قال ابن القيم : "ولذلك كان من المستحيل أن يشرع الله ورسوله من الحيل ما يسقط به ما أوجبه، أو يبيح به ما حرمه ولعن فاعله، وآذنه بحربه وحرب رسوله، وشدّد فيه الوعيد لما تضمنته المفسدة من الدنيا والدين، ثم بعد ذلك يسوّغ التوصل إليه بأدنى حيلة".
ومن الآثار كذلك: أن يدرك العبد المؤمن الحكمة من وجوده وغاية خلقه، فإن الله -سبحانه- خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة، وهي عبادته -تبارك وتعالى-، ولم يخلقهم عبثاً وباطلاً كما يظن الكفار والملحدون، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار) [ص: 27].
والخلاصة: إن الحِكمة التي نستلهمها أو نتعلمها تفضي إلى أن نضع الشيء المُناسِب في المكان المُناسِب في الحجم المُناسِب وفي الوقت المُناسِب وبِالقَدْر المُناسِب وبِالأسْلوب المُناسب. والله هو وحْده الحكيم ولا حكيم سِواه وحكْمة البشَر مُسْتَنْبَطةٌ من حِكْمة الله, فقد قال: ( لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). [آل عمران: 6]، فبالحِكمة ستكون أسعد عباده ولو برزق يسير، وبالحُمق ستكون أشقى عباده ولو بالدخل الكثير، وبالحكمة تعيش هادئ البال مستريح الضمير تسوس الحياة برفق وتتقبل تنوعها، وعندها تكون السعادة والحياة الطيبة التي هي أمل كل إنسان على وجه الأرض، فانظروا إلى آثار العلم والفقه باسم الله الحكيم، وما فيها من خير وفضل وبركة ونعمة لا تعد ولا تحصى.
اللَّهُمَّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللَّهُمَّ بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.