العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحكمة وتعليل أفعال الله |
من تأمل الشريعة الربانية وجد أنها أَوْلَتْ معايش الناس وأرزاقهم عناية عظيمة، فسدَّتْ كل طريق لاحتكار الطعام، أو التضييق على الناس فيه، وفتحت كل طريق يؤدي إلى إطعام الطعام وبذله، ورتبت عليه الأجور العظام، وسبب ذلك أن الطعام ضرورةٌ لا انفكاك للإنسان عنها، ولا يُصبَر على فقدها، واختلال هذا الجانب يؤدي إلى ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكريم الفتاح أهل الكرم والسماح, المُجزل لمن عامله بالأرباح، سبحانه فالق الإصباح وخالق الأرواح، أحمده -سبحانه- على نعمٍ تتجدد بالغدو والرواح، وأشكره على ما صرف من المكروه وأزاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً بها للقلب انشراح. وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي أُرسل بالهدى والصلاح، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ما بدا نجم ولاح.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نُقدّم لأنفسنا أعمالاً صالحة مباركة تبيّض وجوهنا يوم نلقاه تبارك وتعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].
عباد الله: من تأمل الشريعة الربانية وجد أنها أَوْلَتْ معايش الناس وأرزاقهم عناية عظيمة، فسدّتْ كل طريق لاحتكار الطعام، أو التضييق على الناس فيه، وفتحت كل طريق يؤدي إلى إطعام الطعام وبذله، ورتبت عليه الأجور العظام؛ فالطعام ضرورةٌ لا انفكاك للإنسان عنها، ولا يُصبَر على فقدها، واختلال هذا الجانب يؤدي إلى الاضطراب والفتن وذهاب الأمن، والتاريخ القديم والمعاصر يدلان على ذلك؛ فكثير من الاضطرابات على مر التاريخ نتجت بسبب البطالة، والفقر والجوع.
أيها الإخوة: من أجل ذلك كان إطعام الطعام شعيرة من شعائر الإسلام تدلُّ على كريم معدن الإنسان، وتحمي المحرومين وتمنع من المهالك، من الجوع والمرض وغيرها.
نحن -معاشر المسلمين- مدعوون بكتاب ربنا وسنة نبينا إلى أن نكون أولَ من يُعنَى بذلك، وأن يقدّر النعمة قدرها، وأن يعرف للمنعِم -سبحانه- فضله، وأن يقوم بحق حفظ النعم وبواجب شكرها، وذلك كله يقتضي أن لا نسرف من جهة، وأن لا ننفق في غير الموطن الصحيح من جهة ثانية. قال الله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان:8-12].
ومن تدبر في أوائل الخطاب النبوي المكي في المرحلة السرية -يوم لم يكن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا حر وعبد- وجد الأمر بإطعام الطعام لازما؛ فقد سأله عمرو بن عَبَسَة: ما الإسلام؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "طِيبُ الْكَلاَمِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ" [مسند أحمد (19454) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/91)].
فكان إطعام الطعام حاضرًا في أول خطابات الدعوة المكية، ولما هاجر إلى المدينة كان أول خطاب له -صلى الله عليه وسلم- فيها فيه ذكر الطعام؛ إذ قال في مقْدمه للمدينة كما صح عن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" [ابن ماجه (3251) وصححه الألباني].
عباد الله: إطعام الطعام وإشباع الجائع، عبادة قد تكون عادية وسهلة، لكنّ قدرُها عظيم؛ لأنها جُعلت السمة الخيرية المميزة لهذا الإسلام. وهذا ما ورد عن سلف الأمة الصالحين، فقد قال بعض السلف: "لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعامًا يشتهونه، أحب إليَّ من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل". وقال أبو السوار العدوي: "كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد، فأكله مع الناس، وأكل الناس معه".
عباد الله: ولإطعام الطعام ثمرات عدة وفوائد كثيرة، منها:
أنه ينشأ عن عبادة إطعام الطعام عبادات أخرى كثيرة منها: التودد والتحبب إلى إخوانك الذين أطعمتهم، فيكون ذلك سببًا في دخول الجنة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا" [مسلم(54)]، كما ينشأ عنها مجالسة الصالحين، واحتساب الأجر في معونتهم على الطاعات التي تقووا عليها بطعامك.
كما أن إطعام الطعام وسيلة وسبب لدخول الجنة، والنجاة من عذاب النار، قال -سبحانه وتعالى-: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد:11-16]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: فَأَنْبِئْنِي بِأَمْرٍ إِذَا أَخَذْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "أَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَأَفْشِ السَّلَامَ، وَصِلِ الْأَرْحَامَ، وَصَلِّ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ" [البيهقي في شعب الإيمان (3874) وصححه الألباني.
فالشرع الحنيف لم يجعل إطعام الطعام سببا لدخول الجنة بل من موجباتها؛ فعن أبي شريح -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله: أخبرني بشيء يوجب لي الجنة. قال: "طِيبُ الْكَلَامِ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ" [البيهقي في شعب الإيمان (4943) وصححه الألباني]، فإطعام الطعام يوجب دخول الجنة، ويباعد عن النار وينجّي منها؛ فأين أنتم -يا عباد الله- من ذلك، ومن هذه الفضائل؟!.
ولم ينتهِ الوفاء والجزاء بدخول الجنة فحسب؛ بل أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن من خير غرف الجنة وأعلاها تكون لمن أطعم الطعام؛ فعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَريِّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ في الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلامَ وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ" [الحاكم في المستدرك (270) وصححه ووافقه الذهبي والألباني]. نسأل الله أن يجعلنا ممن أطعموا الطعام وألانوا الكلام، آمين.
وفي مقابل هذه الصورة الطيبة ذكر الله لنا في كتابه الكريم أن منع الطعام عن المحتاج إليه سبب للعذاب في الآخرة، فقد ذكر لنا من أوصاف أهل النار وأفعالهم التي أوجبت لهم النار أنهم حبسوا الطعام عن المحتاجين، ولم يدعوا غيرهم للإطعام قال تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ) [المدثر:42-44]، وفي آيتين أخريين، قال الله -جل وعلا- في وصف أهل الشر أنه كان لَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ، وهذا سمت يقع به فساد عريض في البشرية وانتظام حياتها، ولأنه كذلك دلالة على ضعف المعنى الإنساني في أولئك الناس.
وإن عدم التواصي بإطعام الطعام والبخل به من صفات الكافرين, قال تعالى -في صفات من أوتي كتابه بشماله-: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الحاقة:30-34].
وقد حذر -سبحانه- من أن نكون من أهل السوء؛ الذين يعمدون إلى إهمال المحرومين وعدم إكرامهم فقال: (كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر:17-18]، وقال -سبحانه-: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الماعون:1-3]. نعوذ بالله من البخل والحرص والشح، ونسأل الله السلامة والعافية.
أيها الأخوة: وفي مقابل هذه الأوصاف المنفّرة والتي تعبر عن جفاء صاحبها، وصلابة قلبه، أرشدنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى أن إطعام الطعام من خير الأعمال وأحبها إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال خير؟ فقال: "إدخالك السرور على مؤمن؛ أشبعت جوعته، أو كسوت عورته، أو قضيت له حاجته". [الطبراني في الأوسط (5081) وقال الألباني في صحيح الترغيب (954): حسن لغيره]. وعن صهيب الرومي -رضي الله عنه- قال: كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَرَدَّ السَّلَامَ" [مسند أحمد (23971) وصححه الألباني].
فلو كانت هذه الشعيرة والعبادة نصب أعيننا لما بقي بيننا جائع ولا عارٍ ولا ذو حاجة، ولذلك أريد أن أنبه وأبين عظمة هذه الشعيرة الإسلامية، ونحن نسميها شعيرة؛ لأن الشعائر هي التي تدل على حقيقة الإسلام، وهذه منتصبة كسمة بارزة في هذا الدين العظيم.
عباد الله: وإن من أفضل صور إطعام الطعام الإيثارَ مع الحاجة كما قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9]. قال أبو سليمان الداراني: "لو أن الدنيا كلها لي فيها لقمة، ثم جاءني أخ لأحببت أن أضعها في فيه". وقال الشافعي -رحمه الله-: "أحبُ للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان؛ اقتداء برسول الله ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم فيه بالعبادة عن مكاسبهم".
أيها الإخوة: في كثير من الأحيان، نرى بعض المسلمين عليه كفارات؛ بسبب عدم القدرة على الصيام أو نحو ذلك، ومن الممكن أن ينال ثواب إطعام الطعام، مع بذل الكفارات التي عليه، مع استحضار نية إطعام الطعام.
وهناك من الطعام ما يكون أحب الطعام إلى الله؛ فعَنْ جَابِرٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَى اللَّهِ مَا كَثُرَتْ عَلَيْهِ الْأَيْدِي" [الطبراني في الأوسط (7317) وحسنه الألباني]، فتجميع المسلمين على الطعام من أخلاق الصحابة: عن أنس أن جارًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فارسيا كان طيب المرق، فصنع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم جاء يدعوه، فقال: "وهذه؟" لعائشة، فقال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا"، فعاد يدعوه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وهذه؟"، قال: لا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا"، ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وهذه؟"، قال: نعم في الثالثة، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله. [مسلم(2037)].
وفي رفض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الاستجابة لدعوة الفارسي إلا أن تصحبه عائشة -رضي الله عنها-، شيء يبرز، الصورة الحية لجميل خُلقه مع أهله وعظيم رحمته وعاطفته تجاهها, أفيترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهله وهي إنما ترضى بالشظف أسوةً به؛ ليجلس من ورائها إلى مائدة شهية عامرة عند جاره الفارسي؟! ما كان خُلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرضى بذلك!! هذا، فضلاً عن كون رسول الله يريد ويحرص على أن تتلاحم الأسر المسلمة وتتزاور؛ لتسود أجواء الحب والرحمة والأخوة بين البيوت المسلمة.
والخير يبحث عن بيت يطعم فيه الطعام!؛ فعن الحسن بن علي: "للخير أسرع إلى البيت الذي يُطعَم فيه الطعام من الشفرة إلى سنام البعير".
عباد الله: ولقد كان للسلف الصالحين ذوق رفيع في إطعام إخوانهم والمحتاجين، فقد كان الحسن إذا دخل عليه إخوانه أتاهم بما عنده، وربما قال لبعضهم: "أخرج السلة من تحت السرير" فيخرجها فإذا فيها رطب فيقول: "إنما ادخرته لكم". قال أبو خلدة: دخلنا على ابن سيرين أنا وعبد الله بن عون فرحب بنا، وقال: ما أدري كيف أتحفكم؟ كل رجل منكم في بيته خبز ولحم.. ولكن سأطعمكم شيئًا لا أراه في بيوتكم فجاء بشهدة -شيء كالحلوى- وكان يقطع بالسكين ويطعمنا. قال الأعمش: "كان خيثمة يصنع الخبيص -كالحلوى- والطعام الطيب، فيدعو إبراهيم ويدعونا معه ويقول: كلوا ما أشتهيه، ما أصنعه إلا لكم!".
نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن نياتنا وأعمالنا، هدانا الله وإياكم لما ينفعنا من البر وحسن الخلق، وجعلنا من خير الناس للناس، وجنبنا وإياكم مساوئ الأخلاق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الداعي إلى رضوانه وعلى آله وصحبه وجميع إخوانه.
عباد الله: لا يخفى عليكم أن إطعام الطعام كان مما تميزت به العرب على غيرهم، وكانوا يتفاخرون بذلك ويعدون ذلك منقبة، كما هو واضح في إطعام الحجيج وسقيهم؛ فعن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: علمني عملاً يدخلني الجنة، فقال: "لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة، وفك الرقبة". فقال: يا رسول الله، أوليستا بواحدة؟ قال: "لا، إن عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكفّ لسانك إلا من الخير" [البخاري في الأدب المفرد (69) وصححه الألباني].
أيها الإخوة: إن إطعام الطعام في نظر العاقل المحتسب ليس للفقير إنما هو شكر لله -سبحانه وتعالى- الذي أغناك وأفقر غيرك، والذي دعاك إلى هذا وهو الذي سيجازيك عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك، فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك؟ وأنت رب العالمين، قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي" [مسلم (2569)].
وآه لو أدرك المسلمون حقيقة إسلامهم، ولو التزموا به!! لتحركوا بحثًا عن المحتاجين، ولتفقدوا جيرانهم، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد الخدري جعل النداء قويًا عظيمًا يهزُّ أحاسيس كل مؤمن ومسلم، بل يهز حتى أصحاب النفوس والضمائر الحية والمشاعر الإنسانية, عن أَنَس بْن مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ" [الطبراني في الكبير (751) وصححه الألباني].
وتأملوا معي -أيها الإخوة- هذا الحديث وهو أوسع في دلالته على المواساة وإطعام الطعام، وبذل الخير للمحتاج؛ فعن أبي سعيد الخدري، قال: بينما نحن في سفر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان معه فضل ظَهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له"، قال: "فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل" [مسلم(1728)].
ولو فعلنا ذلك في بيئاتنا الإسلامية -أقصد أن يجد من له فضل على من ليس له فضل- لما شهدت مجاعة ولا فقرًا، ولكان الأثر الأكبر يتعدى أمة الإسلام إلى عموم البشرية التي رأينا كيف انتكاستها في الإنفاق، ونحن -معاشر المسلمين- لسنا مبرئين من ذلك؛ فكم يمكن أن نحصي من الإنفاق الذي ننفقه نحن المسلمين على أمور من الكماليات لا ضرورة لها، وعلى أشياء ننفقها في أمور ثم تتلف ولا نستخدمها، بل وعلى أشياء من المحرّمات نصرف فيها الأموال، ثم إذا جاءت الحاجات في الإنفاق كان الأمر حينئذ يحتاج إلى نظر وحساب ومراجعة.
فما أجمل الشعور بآلام المحتاجين، وتلمس حاجاتهم؛ من إطعام الطعام، وقضاء الحاجات، وغيرها.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- وحسنوا أخلاقكم مع الخلق ما استطعتم، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، واعلموا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.