الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
أما أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ضربوا أروع الأمثلة وأجمل المواقف في الاستسلام والخضوع لله -تبارك وتعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويكفيهم في ذلك عزاً وفخراً أنهم كانوا جنوداً مطيعين منقادين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقولون له في كل أمر: "سمعنا وأطعنا"...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن من أعظم العبادات وأجلها أن يسلم الإنسان وجهه لله ويستسلم له، وينقاد له ويذعن، فلا يعارض أمره، ولا يخالف قوله، ولا يرد كلامه، ولا يتردد في قبول كل ما جاء عن الله أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:112].
لقد قص الله -سبحانه وتعالى- علينا في القرآن الكريم قصصاً كثيرة تعد من أفضل النماذج وأعظمها في التسليم والإذعان، فهذا نبي الله نوح -عليه الصلاة والسلام- دعا ربه أن ينجي ولده يوم الغرق، فقال له: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود:45]، فرد الله عليه فقال له: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود:46]، فأسلم نوح -عليه السلام- لربه واستسلم له، فقال مباشرة: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [هود:47].
أما النموذج العظيم والمثل الكبير في التسليم: فهو سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فقد ضرب هو وأسرته أعظم النماذج في الاستسلام لله في مواطن عديدة، منها: حين نزل بزوجته وابنه إلى مكة، ومكة يومئذ واد مكفهر لا خضرة فيها ولا زرع بل ولا ماء، فنزل -عليه الصلاة والسلام- بأهله في ذلك الوادي استجابة لأمر الله وإذعاناً له بالنزول هناك، تمهيداً لبناء البيت العتيق ورفعه.
يقول ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: رَبِّ (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ) [إبراهيم:37]".
استجاب لأمر الله له بالنزول هناك، واستجابت زوجه كذلك لأمر الله، فلم تعترض، ولم ترد أمر الله، وتحملت كل الأعباء والتكاليف؛ إذعاناً لأمر الله واستسلاماً له، وقالت بكل إذعان وتسليم: "إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا".
واستجاب -عليه الصلاة والسلام- هو وابنه لأمر عظيم من أوامر الله -جل وعلا-، أمرٌ لا يمكن أن يتحمله أحد إلا من كان عظيم الإيمان شامخ الأركان أصيل البنيان، أمرٌ لا يمكن أبداً أن يتحمله إلا الرجال العظماء الذين جمعوا بين الرجولة والإيمان.
إنه أمر الذبح حيث أمره الله أن يذبح ولده ذبحاً بالسكين كما تذبح النعجة؛ فهل يطيق هذا الأمر أحد؟ وهل يستطيع أحد تنفيذ هذا الأمر وقبوله والتسليم به؟ لكن سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لم يتردد هو وابنه اسماعيل -عليهما السلام- لحظة واحدة في التنفيذ، يقول الله -سبحانه وتعالى- عنهما: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات:102].
وأما رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فقد بلغ القمة، ووصل الذروة، وصار النموذج الأكمل والأعظم في التسليم لله رب العالمين، فقد سلم أموره كلها إلى الله، ولجأ إليه، وانطرح بين يديه -سبحانه وتعالى-، يقول عبد الله بْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ - أَوْ: لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ - وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" [البخاري (1120)، مسلم (769) ].
فأعلن نبينا -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث العظيم استسلامه وانقياده لأمر الله ونهيه، والتسليم له في كل صغيرة وكبيرة، كما قال تعالى: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر:12]، وقال: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:20].
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الذي أكرمنا بهذا الدين العظيم، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله الذي أوصانا بالإسلام والتسليم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المسلمون: أما أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ضربوا أروع الأمثلة وأجمل المواقف في الاستسلام والخضوع لله -تبارك وتعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويكفيهم في ذلك عزاً وفخراً أنهم كانوا جنوداً مطيعين منقادين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقولون له في كل أمر: سمعنا وأطعنا ويقولون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فامض بنا يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد ....
كانوا -رضي الله عنهم- يعيشون في مجتمع كان يرى شرب الخمر أمراً عادياً، بل وشيئاً محموداً يعتزون به، ويفتخرون بشربه في مجالسهم وأشعارهم ومن الصعب جداً عليهم أن يفارقوا شربه أو يفارقهم، ولكن أمر الله فوق كل أمر، ونهيه فوق كل نهي، فلم يترددوا لحظة واحدة حينما نزلت آية تحريم الخمر في الانتهاء عنه وإراقته، يقول أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: مَا كَانَ لَنَا خَمْرٌ غَيْرُ فَضِيخِكُمْ هَذَا الَّذِي تُسَمُّونَهُ الفَضِيخَ، فَإِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ، وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: وَهَلْ بَلَغَكُمُ الخَبَرُ؟ فَقَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: حُرِّمَتِ الخَمْرُ، قَالُوا: أَهْرِقْ هَذِهِ القِلاَلَ يَا أَنَسُ، قَالَ: فَمَا سَأَلُوا عَنْهَا وَلاَ رَاجَعُوهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ [ البخاري: (4617) ].
فبمجرد أن أخبرهم النذير بنزول تحريم الخمر لم يرجعوا إلى شربها في مجلسهم ذاك، ولم يذهبوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتأكدوا من صحة خبر التحريم، لم يفعلوا شيئاً من ذلك -رضي الله عنهم وأرضاهم- وإنما أذعنوا واستسلموا وقاموا بإراقتها، يقول أبو النُّعْمَانِ،: "كُنْتُ سَاقِيَ القَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلاَ إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا، قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المَدِينَةِ، ..." [ البخاري (4620) ].
وإليكم مثالاً آخر من الأمثلة التي لا تحصر، والتي تدل على استسلام الصحابة -رضي الله عنهم- لأمر الله ونهيه، فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَنَزَلَتْ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 144] فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ [ مسلم: (527) ].
سبحان الله!! حينما سمعوا خبر تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وقد جاءهم الخبر وهم يصلون، لم يقولوا هذه الصلاة نحن فيها وسنكملها على هذا الاتجاه نحو بيت المقدس ثم نبدأ في الاتجاه نحو الكعبة من الصلاة القادمة، لم يقولوا شيئاً من ذلك، واتجهوا مباشرة إلى الكعبة، مع أنهم قد صلوا الركعة الأولى نحو بيت المقدس.
ونحن اليوم نسمع الأوامر والنواهي، ونعرف الحلال والحرام، ويأتينا الناصح فيقول لنا هذا لا يجوز، وهذا منهي عنه، ومع ذلك ومع علمنا السابق بالأمور؛ ما يجوز منها وما لا يجوز، وما يحل منها وما يحرم، إلا أننا وكأن لسان حالنا يقول: سمعنا وعصينا.
وليس هذا الاستسلام مقصوراً على رجالهم، فنساؤهم كرجالهم في هذا الأمر، فقد كن -رضي الله عنهن- يعشن في الجاهلية، وكان التبرج والسفور يعد من سمات تلك الحقبة وصفاتها، ولكن حينما جاء الإسلام ونزل الأمر بالحجاب ماذا حصل؟ اسمعوا ماذا حصل! تقول أم سلمة -رضي الله عنها-: "لَمَّا نَزَلَتْ: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) [الأحزاب: 59]، خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنَ الأَكْسِيَةِ" [أبو داود: (4101)].
فاتقوا الله -عباد الله- واستسلموا لله، وأذعنوا له، وإياكم ثم إياكم والمعاندة والمخالفة وعدم التسليم لله رب العالمين، أو الاعتراض على أي شيء من شرائع الدين، فإن هذا -والعياذ بالله- من صفات المنافقين، الذي قال الله عنهم: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور:48-50]، وقال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65].
لا يكن حال أحدنا كما هو حال بعض الذين يسمعون أوامر الله ونواهيه ثم لا يذعنون ولا ينقادون، وإذا قيل لهم: لماذا لم تلتزموا بدين الله وشرعه؟ تعذروا بأعذار واهية، فهذا يقول: ما كنت أعلم حرمة هذا الأمر وهو يعلمه، والآخر يتعذر بعدم وجود البديل، فإذا قيل له: لِم تضع أموالك في البنوك الربوبية؟ قال: البنك الإسلامي بعيد منا، أو لا يوجد في منطقتنا وهذا أقرب، أو لم تسمع الأغاني وقد جاء النهي الصريح عن سماعها؟ قال: لا يوجد بديل آخر، أو يتعذر باختلافات العلماء في بعض المسائل التي لا يسوغ فيها الخلاف، أو يقول بعضهم: إن ترك الأمر الفلاني بالنسبة لي صعب جداً ولا أستطيع ذلك، وينسى تلك المواقف العظيمة المذكورة لحال أولئك الرجال الأفذاذ الذين قدموا أوامر الله وشرعه على كل شيء، (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اجعلنا مكثرين لذكرك، مؤدين لحقك، مستجيبين لأمرك، خاضعين لك، مستسلمين لك. اللهم أعنا على أنفسنا، وأعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].