القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | محمد أكجيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
من لم يعبد الله تعالى، عبد بشرًا ضعيفًا مخلوقًا مثله، لا يملك له ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا .. وشتان شتان بين من عبد إلهًا حقًّا واحدًا خالقًا مالكًا مدبرًا، قويًّا قادرًا غنيًّا كريمًا رحيمًا، ومن أوقع نفسه فريسة لمعبودات شتى تتنازعه وتتقاذفه، أنى له أن يجد معها راحة واطمئنانًا؟!
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد، فإن الله تعالى خلق الخلق لغاية نبيلة، ومهمة عظيمة كبيرة، تلكم عبادة الله التي قال الله عنها: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، من أجلها خلق الله السماوات والأرض والشمس والقمر، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) [الأنبياء: 16].
من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25].
الجميع عبيده سبحانه؛ كرهًا كانت عبودية الخلائق أو اختيارًا، يقول تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) [مريم: 93].
أمر الناس بعبادته فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21]؛ لا ليتكثر بهم من قلة، ولا ليتمنع بهم من هلاك وشدة، سبحانه سبحانه، هو الذي لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15]، (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم: 8].
العبودية التي أمر الله الناس بها: هي التوجه إليه سبحانه بما شرع، طوعًا واختيارًا، محبة له وتعظيمًا، رجاء لثوابه، وخوفًا من سخطه وعقابه.
العبودية التي أمر الله الناس بها: تشمل ظاهر الإنسان وباطنه؛ قلبه ولسانه وجوارحه، تنتظم حركته وسكونه، ورضاه وغضبه، ويسره وعسره، ومرضه وعافيته، وحياته وموته، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162- 163].
العبودية التي أمر الله الناس بها: تعني الحركة لا الركود، تعني الإيجابية لا السلبية، تعني العدل لا الظلم، تعني الوسطية والاعتدال، لا الغلو أو الجفاء.
أجمل ما يتصف به الإنسان، وأشرف ما يتحلى به على الدوام (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة: 138].
من ذاق طعمها ووجد لذتها وحلاوتها، عرف قدرها وعلم حقيقتها. وصف الله بها ملائكته فقال: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف: 206].
وصف بها خاتم أنبيائه ورسله في أعلى المقامات وأرفع الدرجات؛ في مقام إنزال الوحي عليه فقال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) [الكهف: 1]، وفي مقام الإسراء والمعراج فقال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء: 1]؛ إعلامًا بأن العبودية لله هي الوسيلة العظمى للرفعة والكرامة في الدنيا والآخرة، فما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
توعد الله المستكبرين عن عبادته بأليم العذاب وشديد العقاب، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60] أي: صاغرين ذليلين.
وجرت سنته تعالى أن من لم يعبده طوعًا واختيارًا، عبد غيره ضرورة واضطرارًا.
من لم يعبد الله –تعالى- عبد هواه، قال سبحانه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23].
من لم يعبد الله -تعالى- عبد الشيطان، قال سبحانه: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يس: 60].
من لم يعبد الله تعالى، عبد الدرهم والدينار، ففي الحديث: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار..".
من لم يعبد الله تعالى، عبد بشرًا ضعيفًا مخلوقًا مثله، لا يملك له ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الأعراف: 194].
وشتان شتان بين من عبد إلهًا حقًّا واحدًا خالقًا مالكًا مدبرًا، قويًّا قادرًا غنيًّا كريمًا رحيمًا، ومن أوقع نفسه فريسة لمعبودات شتى تتنازعه وتتقاذفه، أنى له أن يجد معها راحة واطمئنانًا، وصدق الله فيما ضربه من مثل لذلك حيث قال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 29].
فاعرفوا –رحمني الله وإياكم– للعبودية لله قدرها، ووفوا لها حقها، وأكثروا من دعاء الله بها، وسؤاله التوفيق والعون عليها.
فاللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله...
أما بعد، فلقد أفلح ونجح وفاز، من عبد نفسه لمولاه، وتقرب إليه بطاعته واتقاه حق تقوته.
العبودية لله تعالى سبب لتحصيل التقوى؛ جماع الخيرات والبركات، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 21].
العبودية لله سبب يقرّب العبد من ربه، وسبب لمحبة الله لعبده، ففي الحديث القدسي: "ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه..".
العبودية لله سبب كفاية الله لعبده، وتوليه لأموره وحفظه لشؤونه، قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر: 36].
العبودية لله سبب للحفظ من الشيطان وكيده، قال تعالى حكاية عن إبليس: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 82- 83].
العبودية لله سبب للنصر على الأعداء، قال تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171 - 173].
العبودية لله سبب لانشراح الصدر، وزوال الهم والغم، قال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 97- 99].
العبودية لله هي الوسيلة العظمى لبناء الحضارة المثلى، قال عز وجل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور: 55].
العبودية لله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، ففي الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
والعبودية لله مراتب، بقدر ما يبلغ العبد منها بقدر ما يحصل من ثمارها وفوائدها، ويجد طعمها وحلاوتها، ويعرف قيمتها ويدرك حقيقتها.
فاللهم اجعلنا عبيدك ولا تجعلنا عبيدًا لأحد سواك. اللهم أذق قلوبنا لذة العبادة، وأمتع جوارحنا بحلاوة الطاعة والاستقامة.