الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أهل السنة والجماعة |
والله ما كانت الخوارِج جماعةً قطُّ إلا فرَّقها الله على شرِّ حالتها، وما أظهرَ أحدٌ منهم قولَه إلا ضربَ الله عُنقَه، ولو مكَّن الله لهم لفسدَت الأرضُ، وقُطِّعَت السُّبُل، وانقطَع الحجُّ، ولعادَ أمرُ الإسلام جاهليةً، وإذًا لقام جماعةُ كلٍّ منهم يدعو لنفسِه بالخلافة، مع كل واحدٍ منهم عشرةُ آلاف يُقاتِلُ بعضُهم بعضًا، ويشهَدُ بعضُهم على بعضٍ بالكفر، حتى يُصبِحَ المؤمنُ خائفًا على نفسِه، وعلى دينه، ودمِه وأهلِه ومالِه، لا يدرِي مع من يكون؟!
الخطبة الأولى
الحمد لله المُتفرِّد بكل كمال، والمُتفضِّل بجزيل النوال، فله الحمدُ على كل حال، وفي كل حال، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه، وأُثنِي عليه بما هو أهلُه يبتدِئُ بالإحسان قبل السؤال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الأشباه والأنداد والأمثال، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المنعوتُ بعظيم الخُلُق وشريف الخِصال، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى أصحابِه الغُرِّ الميامين خيرِ صحبٍ، وآله السادة الطاهرين الطيبين خيرِ آل، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
حاذِروا -رحمكم الله- عيونًا إلى زهرة الدنيا قد مُدَّت، ونفوسًا في طلبِ العاجِلة قد جدَّت، وآذانًا عن سماع الذكر قد سُدَّت، وقلوبًا لكثرة المعاصِي قد اسودَّت.
إن في كتابِ الله لأعظَم زاجِر، وفي مواعِظ الأيام عبرةً لذوي البصائر. ركائِب الأموات تنقُلُ من مقصورات القُصور إلى مضائِق القبور .. نواعِم أبدان في مدارِج أكفان .. فكفى بالموت واعظًا! (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) [الأنعام: 134]، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5].
معاشر المسلمين: يموجُ العصرُ بمتغيِّراتٍ في أحوالٍ مُضطربات، وتقلُّباتٍ ومُفاجئات .. فتنٌ يُشعِلُها الأعداء. إنه الإشعال من أجل الإشغال؛ إشغال المنطقة بإشعال الحروب الطائفية، والنِّزاعات الحزبيَّة، والصِّراعات الإقليمية، والفتن الداخلية.
فتنٌ تُهدِّد العالَ بأسرِه، بما تحمِلُه من خطرِ الإرهاب والإرهابيين، وتشويه دين الإسلام، وتقطيع أوصال أهله، وتمزيق دِياره، من أجل المزيد من الضياع والفقر، والتشريد واليأس.
إرهابٌ هو صنيعةُ استِخباراتٍ دوليَّة وإقليمية، يحظَى بالرعاية والتسليح والتمويل. وَقودُه خوارِجُ ضالُّون، وعُملاءُ مُحترِفون ممن ارتهَنوا أنفسَهم لأعداء الدين والأمة والأوطان. إرهابٌ يُكفِّرُ المُجتمعات المُسلِمة، ويستبيحُ الدماءَ المعصومة.
هذه الفتنُ والأحداث كشفَت أوراقًا، وفضحَت أقوامًا، وأسقطَت رموزًا، وأظهَرَت عوارَ الاتفاقيات والمواثيق الدولية ودعاوَى السلام.
أيها الإخوة: ولمزيدٍ من الإيضاح والبيان؛ فإن أمام المُتأمِّل نوعَين من الإرهاب: إرهابَ هيئاتٍ ومُنظَّمات، وإرهابَ دول.
أما إرهابُ الهيئات والمُنظَّمات؛ فيأتي في مُقدِّمة ذلك: خوارِجُ العصر الذين يقتُلُون أهلَ الإسلام، ويدَعون أهلَ الأوثان، من حُدثاء الأسنان، وسُفهاء الأحلام.
اسمَعوا - رحمكم الله - إلى هذا التحليل العجيب، والتشخيص الدقيق من هذا الإمام التابعي الجليل من الطبقة الثالثة، وهو من رُواة "الصحيحين" وأصحاب "السنن"، قال تحليلَه ذلك قبل ما يزيد على ألفٍ ومائتَي عام. إنه: وهبُ بن مُنبِّه.
يقول - رحمه الله -: "لقد أدركتُ صدر الإسلام، فوالله ما كانت الخوارِج جماعةً قطُّ إلا فرَّقها الله على شرِّ حالتها، وما أظهرَ أحدٌ منهم قولَه إلا ضربَ الله عُنقَه، ولو مكَّن الله لهم لفسدَت الأرضُ، وقُطِّعَت السُّبُل، وانقطَع الحجُّ، ولعادَ أمرُ الإسلام جاهليةً، وإذًا لقام جماعةُ كلٍّ منهم يدعو لنفسِه بالخلافة، مع كل واحدٍ منهم عشرةُ آلاف يُقاتِلُ بعضُهم بعضًا، ويشهَدُ بعضُهم على بعضٍ بالكفر، حتى يُصبِحَ المؤمنُ خائفًا على نفسِه، وعلى دينه، ودمِه وأهلِه ومالِه، لا يدرِي مع من يكون!". اهـ كلامُه - رحمه الله -.
أيها الإخوة في الله: وهل رأيتُم أدقَّ من هذا التشخيص، وأوضحَ من هذا التحليل؟!
ويقول الإمام ابن كثيرٍ - رحمه الله - في الخوارِج: "لو قوِيَ هؤلاء لأفسَدوا الأرضَ كلها عِراقًا وشامًا، ولم يترُكوا طفلاً ولا طفلةً، ولا رجُلاً ولا امرأةً؛ لأن الناسَ عندهم قد فسَدوا فسادًا لا يُصلِحُهم إلا القتلُ جملةً!".. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيُّ دينٍ وأيُّ عقيدةٍ يستبيحُون بها عداوةَ إخوانهم المسلمين، وعدوانَهم على أوطانهم وديارهم، يعيثُون فيها فسادًا وتقطيعًا وتمزيقًا، وتمكينًا للأعداء - أعداء الملَّة والعقيدة -، يقِفون خلفَ شِعاراتٍ تتربَّصُ بالإسلام وأهلِه.
سُذَّجٌ مغرورن ومُغرَّرٌ بهم من أبناء أهل الإسلام، يُقتادُون إلى المهالِك بسبب حماسِهم وجهلِهم، دخلُوا في هذا المُخطَّط الشرير، وارتمَوا في أحضان قاطِع الرؤوس ومُمزِّق الأجساد ظُلمًا وعُدوانًا.
يُصاحِبُ ذلك - أيها المسلمون - صمتٌ رهيبٌ، ازدهَرَت فيه سوقُ المُخابرات الإقليمية والدولية، لمزيدٍ من التغرير والتوظيف للسُّذَّج من أبنائِنا .. في إذكاءٍ للصراع الطائفي، والتمزيق الإقليمي، والتفريق الحِزبيِّ.
فيقعُ هؤلاء السُّفهاء الحُدثاء، يقَعون ضحيةً لهذه المُخطَّطات الاستخباريَّة، وهم بين مُنفِّذٍ غبيٍّ، أو مُستبشرٍ أغبى، أو مؤيدٍ أغبَى وأغبَى.
وما علِمَ هؤلاء أنهم يخدِمون أعداءَهم، ويهدِمون بيوتَهم، ويُفرِّقون جماعتَهم، ويقضُون على وحدة أمَّتهم، ويُزعزِعون مُجتمعاتهم، ويُضيِّعون روابطَهم؛ بل يُشكِّكون في ثوابِت أمَّتهم وأصولِها ومبادئِها، ومن ثمَّ دفعُها إلى التنازُع والتناحُر والاقتِتال، واستنزِاف الموارِد، وتبديد الطاقات البشرية والمادية، وإضعاف الولاء للدين والوطن والأمة.
معاشر الأحبَّة: صمتٌ عالميٌّ رهيبٌ على جرائم القتل والإرهاب والإبادات الجماعية في سُوريا، وفي العراق، وفي اليمن، ومواطِن أخرى، في مواقِف مُخزِية مُحزِنة لا تلُوحُ بوادِرُ نهايتها. تُمارِسُها هذه الفئاتُ الشاذَّة في دمويَّة التكفيريين المُنحرِفين.
إنه استِغلال الإرهاب وتوظيفٌ من أجل أهدافٍ سياسية، وخُططٍ عُدوانية، ومصالِح ضيِّقة. أيُّ مُصيبة أدهَى من أن يُحارِبَ الأخُ أخاه داخل الدولة الواحدة؛ بل داخل الفئة الواحدة؟!
لم يتأذَّ بعداوتهم ولا عُدوانهم إلا إخوانُهم وأهلُهم وساكنُ ديارهم، أما العدو الحقيقي اليهوديُّ الغاصِب المُحتلُّ ومن شايعَه فهو في سلامةٍ وعافية!
أيها المسلمون: هذه صورةٌ من إرهاب المُنظَّمات والتحزُّبات.. أما إرهابُ الدول؛ فيأتي العدوُّ الصهيونيُّ في موقِع الريادة، فعُدوانُه وجرائِمُه تُمثِّلُ قيمةَ الإرهاب والعُدوان على الحقوق المشروعة لإخواننا في فلسطين المُحتلَّة. وهل ثمَّة صورة تتجسَّدُ فيها صورةُ الإرهاب أكثر مما يُعانيه إخوانُنا في فلسطين، في نسائِهم وأطفالهم ومدارِسهم ومساجِدهم ومُستشفياتهم وملاجئِهم وأنفاقِهم؟!
إسرائيلُ دولةٌ مُحتلَّة، تنتهِجُ نهجَ هذه الجماعات الإرهابية، فتجعلُ العُنفَ والقتلَ والإرهابَ والتشريدَ طريقَها؛ لتحقيق غاياتها .. ترتكِبُ أشنعَ المجازِر، وتُمارِسُ أفظعَ صُور الإرهاب، وتمتلِكُ أسلحةَ الدمار الشامِل.
وقد كشفَ الإعلامُ الجديد المزيدَ من وحشيَّة الهجَمات الهمجيَّة على السكان العُزَّل الأبرياء في قصفِ المساجِد، والمدارِس، والملاجِئ، والمُستشفيات، والأسواق. في إرهابٍ على مرأى من العالَم ومسمَعه. عُدوانٌ يكشِفُ الهمجية والهيجان.
معاشر الأحبَّة: انتصرَت فلسطين، وانتصرَت غزَّة؛ لأنها كشفَت عُدوانَ العدو وإفكَه وهمجيَّته، والتحيَّةُ والتقدير لكل من وقفَ مع الحق، وانتصرَ للمظلوم، ووقفَ في وجه الظالِم.
غزَّة صمدَت بعزم، وصبرَت ببأس، وأوقدَت الحجر، وسخِرَت من كثيرٍ من البشر وأشباه البشر. فلا نامَت أعينُ الجُبناء والمُخذِّلين، والحياةُ كما هي مُفاوضات، هي جهادٌ وتضحيات.
إن الدافِع وراء المُخذِّلين والمُتخاذِلين مصالِحُ وقتية، أو مُخطَّطاتٌ مشبُوهة، أو مكاسِبُ سياسيَّة محدودة، وليعلَم أن كل من صمَت عن الإرهاب في دوله أو جماعاته ومُنظَّماته أنه سوف يكتوِي بناره.
وليعلَم يهودُ أن الحق لا يضيع؛ فالدفاعُ حقٌّ مشروع، والمُقاومةُ شامِخة، والمُنتصِرُ هو الحقُّ والعدلُ، طالَ الزمانُ أو قصُر، وقضيةُ فلسطين هي قضية المُسلمين الأولى مهما كان عبَثُ السياسة، ومهما عظُمَت التضحيات، فلا تفريط، ولا مُساومَة.
ولو أن العالَم تخلَّى عن الازدِواجية في معاييره، وغابَ النفاقُ السياسيُّ في مُداولاته لمَا سالَت هذه الدماء، ولمَا سادَت سوقُ الإرهاب.
عباد الله: أيُّ عارٍ سيلحَقُ بهذا العالَم في مُنظَّماته، وحقوق إنسانِه، ومجالِسِ أمنِه وأُممه؟! أيُّ عارٍ وقد أصبحَ الدمارُ شِعارًا، والإرهابُ سياسة، والسياسةُ مصالِح؟!
وبعد - وقاكم الله شرَّ الفتن -: ففي أجواء الفتن والمِحَن يتبيَّن من ينصرُ الحقَّ، ومن يفِي بالعهد، ومن يصدقُ الوعد. في أجواء الفتن والمِحَن الصمتُ يقتُل، والكلامُ يفضح، والخُذلان ينكشِفُ ويُكشَف.. وفي بطن المآسِي يكونُ الفرجُ والمخرَج، (فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أعادَ وأبدَى، وأنعمَ وأسدَى، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه، لا أُحصِي لآلائِه عدًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة أتخذُ بها عند الرحمن عهدًا، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أكرِم به رسولاً وأنعِم به عبدًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه كانوا أقومَ سبيلاً وأهدى، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا سرمدًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: في أجواء الفتن وخضَمِّ الاضطرابات يحسُن التذكيرُ ببعضِ معالِم منهج السلف الصالِح أهل السنة والجماعة. فمن معالِم هذا المنهَج: أنهم يلتزِمون مُقتضَى الدليل، والمصلَحة الشرعيَّة في جهادِهم ودعوتهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيِهم عن المُنكر، ومواقِفهم من أهل البِدع، بداعِي النُّصح لله ولرسوله ولجماعة المؤمنين، وليس بداعي الانتقام والتشفِّي والتشهير.
يستُرون عيوبَ المُسلمين، ولا يتتبَّعون عوراتهم، ولا يذكُرون أخطاءَ أهل العلم إلا لبيان الحق، مع لزوم الأدب، وحفظِ حقِّ كل ذي حقٍّ، ويلتمِسُون العُذر ما أمكَن؛ ذلكم أن من قلَّة الدين والفقه والورع وقِصَ النظر الظنَّ بأن المُخالِفَ تسقُطُ حقوقُه الشرعية، أو أن العدلَ معه ضعف.
وإن من المُستقرِّ لدى أهل السنة والجماعة قد يُؤيِّد الدينَ بالرجل الفاجِر، وبأقوامٍ لا خلاقَ لهم، ولاسيَّما في حال الاضطراب والفتن.
ومن معالِم منهجِهم - منهج السلف الصالِح أهل السنة والجماعة -: أن البِدع كسائر الذنوب، فيها الصغير والكبير، والظاهر والمُشتبِه، والمحفوظُ من حفِظَه الله. أما المُخالفةُ بالتأويل والخطأ والجهل فسِيمةُ أكثر الخلق.
وإن من الدين والورع - حفظكم الله -: أن يتَّهم المرءُ نفسَه، ولاسيَّما ذوو الصلاح والعلم والفضل، ويُفتِّش في عيوبِه، وينشغِل بها؛ حفاظًا على إيمانه، وخوفًا على نفسِه، ويقبلُ الحقَّ ممن جاء به.
نعم، إن أهل السنة والجماعة هم أكثرُ الناس ازدِراءً لأنفسهم، وأبعَدهم عن الكمال، لا يُزكُّون أنفسَهم لا بالألقاب، ولا بالشِّعارات، (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) [النساء: 123].
يقبَلون توبةَ التائب، واعتِذارَ المُعتذِر، ويرجُون للمُحسِن، ويخافُون على المُسيء، ولا يفرَحون لعثَرات العاثِرين، ولا يُحبُّون وقوعَ العُصاة في المعاصِي، ويدعُون لصاحِب المعصيَة بالهداية، ويفقَهون معنَى الجهاد مع كل برٍّ وفاجِر في جهاد الميدان، وجهاد السياسة، وجهاد العلم، وجهاد الدعوة؛ لأن المقصود النِّكايةُ بالعدو المُستَبين.
لا يبخَسون الناسَ أشياءَهم، يرتكِبون أخفَّ الضرَرين، ويجتنِبون أكبرَ المفسدَتَين، ويصبِرون على أهوَن الشرَّين، ويختارُون أيسرَ الأمرَين.
والمُوالاةُ والمُعاداةُ في منهَجهم تكونُ على حقائِق، لا على الدعاوَى والأسماء. لا يشقُّون عن القلوب، ولا يُنقِّبون عن السرائر، ولا يُسيئون الظُّنُون، ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاًّ للذين آمنوا.
أقوياء في الحقِّ من غير غلُوٍّ، ورُحماءُ بالخلق من غير تهَاوُنٍ، وأشدَّاءُ على أهل الضلال من غير تعسُّفٍ ولا جَور.
أهل السنة والجماعة مُتَّحِدون في منهَجهم وغاياتهم ومسلَكهم، مُتنوِّعون في مقاماتهم ومنازِلهم. فيهم العالِم، وفيهم المُجاهِد، وفيهم رجلُ الدعوة، وفيهم المُحتسِب، وكل من لم يلتبِس ببِدعةٍ فهو منهم.
وسبيلُ الاتباع أقوَمُ السُّبُل وأهداها، وهو أرحبُها وأوسعُها، وقد وسِع ذلك السابقين من المهاجرين والأنصار والأعراب، ومُسلِمة الفتح، والطُّلقاء. وفي ذلك مراتِبُ من مقامات الإيمان ما لا يعلمُه إلا الله، على حدِّ قولِه - عزَّ شأنُه -: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر: 32].
فيحمِلُ بعضُهم بعضًا على هذا السبيل، كلُّهم - بفضل الله ورحمته - إلى حُسن العاقبة صائِرون.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، واعلَموا أن الفتن لا يتكلَّم فيها إلا أهلُ العلم والبصيرة؛ فإنهم إذا تكلَّموا فيها ورجَع الأمرُ إليهم انطفَأَت - بإذن الله - واضمحَلَّت، أما إذا خاضَ فيها الجُهَّال من حُدثاء الأسنان وسُفهاء الأحلام فسوف يزدادُ خطرُها، ويعظُمُ شرُّها، ويستطالُ شررُها.
ومن هنا حذَّر السلفُ الخوضَ فيها: يقول الإمام أحمد - رحمه الله -: "الإمساكُ في الفتن سنةٌ ماضية، وأحبُّ لُزومَها؛ فإن ابتُليتَ فقدِّم نفسَك دونَ دينِك، ولا تُعِن على فتنةٍ بيدٍ ولا لسانٍ، ولكن اكفُف يدكَ ولسانَك وهواك، والله وحدَه هو المُعين".
ويقول الإمام سُفيان الثوريُّ: "هذا زمانُ السكوت، ولُزوم البيوت، والرضا بالقُوت إلى أن تموت".
ويقول عبد الله بن هُبَيرة: "من أدركَ الفتنةَ فليكسِر رجلَه؛ فإن انجبَرَت فليكسِر الأخرى".
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال عزَّ قائلاً عليمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأزواجه وذريَّته، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، وانصُر عبادَك المؤمنين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادَك الصالحين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامَنا ووليَّ أمرنا، ووفِّقه لما تحبُّ وترضَى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وارزُقه البِطانةَ الصالحة، وأعِزَّ به دينَك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمةَ المُسلمين على الحقِّ والهُدى، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه للحقِّ والهُدى وكل ما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم انصر المُجاهدين، اللهم انصر المُجاهدين الذين يُجاهدون في سبيلك لإعزاز دينك، وإعلاء كلمتِك، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم عليك بالصهاينة، اللهم عليك بالصهاينة المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم من أرادنا وأراد ديننا وديارنا وأمننا وأمَّتنا وولاة أمرنا وعلماءَنا وأهل الفضل والصلاح منَّا ورجال أمننا وقواتنا ووحدتنا واجتماع كلمتنا بسوءٍ، اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعل كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرًا عليه يا رب العالمين.
اللهم احفظنا من شرِّ الأشرار، وكيد الفُجَّار، وشرِّ طوارِق الليل والنهار.
اللهم يا ذا الجُود والمنِّ احفظ علينا هذا الأمن، وسدِّد قيادتَه، وقوِّ رجالَه، وخُذ بأيديهم، وشُدَّ من أزرِهم، وقوِّ عزائِمَهم، وزِدهم إحسانًا وتوفيقًا، وتأييدًا وتسديدًا، اللهم واشفِ مرضاهم، وارحم شُهداءَهم، واحفظ أُسَرهم وذرياتهم يا رب العالمين.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين في فلسطين، وفي سوريا، وفي غزَّة، اللهم وقد مسَّهم الضُّرُّ، وحلَّ بهم الكربُ، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطُّغيان والتشريد والحِصار، سُفِكت دماء، وقُتِلت أبرياء، ورُمِّلَت نساء، ويُتِّمَ أطفال، وهُدِّمَت مساكِن ومرافق، اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ويا مُنجِيَ المؤمنين انتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكانٍ، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحق والهُدى والسنَّة كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم شِرارَهم، وابسُط الأمن والعدلَ والرخاء في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكُروه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.