القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن الحلقات القرآنية يجب أن تكون المحضن التربوي والركيزة الأساسية في التربية، والوسط الذي يتفاعل فيه المعلم مع طلابه والتلميذ مع أقرانه ونظرائه، ويتلقى فيها الطالب المفاهيم التربوية، وتُعالج فيه أخطاؤه، وتصحح فيه انحرافاته، لأنها هي الأقوى تأثيراً من حيث الأثر التربوي على النفس...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أعلى بالقرآن قدراً، وأعظم به أجراً، ووضع به وزراً، ورفع به ذكراً، والصلاة والسلام على أشرف من علِمَه، وأذكى من فهمه، وعلى آله وصحبه الذين ترجموا القرآن واقعاً، واتخذوه إلى جميع المكرمات دافعاً، فسعدوا به في الدنيا ونهجاً في الآخرة شافعاً.
أما بعد:
عباد الله: لقد أنزل الله -تبارك وتعالى- كتابه العظيم للتأمل والتدبر، وليكون منهجاً ونبراساً في تربية النفوس وإصلاح القلوب، لذلك لم يقتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام على مجرد تلاوة القرآن، وإنما كانوا يعتنون ببيان مراده، وشرح آياته، وتوضيح معانيه، حتى يؤثر في النفوس، ويكون له الأثر البالغ في تربية القلوب.
تمعنوا جيداً قول الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية حيث يقول: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران : 164]. إن هذه الآية الكريمة ذكرت أن التربية بالقرآن تكون على عدة أنواع: فمنها التربية بتلاوة ألفاظه، وهذا ما أشار إليه قوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)، والتربية بمضمونه ومراده، وهذا ما يوحي إليه: (وَيُزَكِّيهِمْ), وكذلك التربية بتعلم أحكامه وتعليمها، وهذا في قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ)، فجمعت الآية بين أنواع التربية كلها.
إن منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعليم القرآن الكريم هو المنهج الذي يجمع بين التلاوة والتزكية والتعليم، وهذا هو المنهج المؤثر، وهو المنهج الذي ارتضاه الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولنا جميعاً من باب أولى.
عباد الله: إن التربية على ضوء هذا المنهج النبوي الذي أمر الله به لن تتحقق كما يريدها الله إلا بالاجتماع على كتاب الله، وإقامة الحلقات القرآنية التي تعتني بكتاب الله تلاوة، وتزكية، وتعليماً.
لذلك فإن من الخلل والنقص أن يظن المسلم أنه سيفهم كتاب الله بمجرد قراءته له بشكل منفرد, دون أن تكون هناك جماعة فيها من يصحح له التلاوة، وفيها من يفسر له الألفاظ، وفيها من يبين له المنهج والأحكام.
كما أن من الخلل الكبير أن تقتصر الحلقات القرآنية على تلاوة ألفاظ القرآن فقط وليس فيها سوى القراءة أو الحفظ المجرد، مما يجعل مثل هذه الحلقات تخرج قراء وحفاظ ليس لديهم علم ولا فهم بما يقرؤون من آيات القرآن.
تأملوا قول الله -تبارك وتعالى-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة : 121]. تأملوا قول الله: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) إنها ليست مجرد تلاوة أو حفظ، وإنما يتلونه تلاوة تجمع بين المعاني الثلاث -تلاوة وتزكية وتعلماً-.
لذلك يقول المفسر الحَبر مجاهد بن جبر -رحمه الله-: ومعنى (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) أي "يتبعونه حقّ اتباعه" [تفسير ابن كثير (1/226)]. ويقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يحلّ حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرّف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله" [تفسير ابن كثير (1/226)].
وبهذا يتبين أنّ المدح والرفعة وعلو المنزلة والشأن كل الشأن ليس لمن يقرأ القرآن ويحفظه فحسب، بل الشأن كل الشأن لمن اتبع أحكامه وعمل بما فيه، وربى نفسه وقلبه عليه، وهذا هو حق التلاوة.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآلُ عِمْرَانَ" [ مسلم (805)]. أسمعتم من هم أهل القرآن الذين يؤتى به وبهم يوم القيامة تضيء لهم سورة البقرة وآل عمران بنورهما وضيائهما؟ إنهم من كانوا يعملون به، ويطبقون ما فيه، فما أحوجنا إلى تصحيح مفاهيمنا وتعاملنا مع القرآن.
إن شريعة الله -سبحانه وتعالى- ذمت كل من يضيع أحكام القرآن، أو يفرط في العمل به، أو يتجاوز حدوده وينتهكها، يقول الله في ذم هؤلاء: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد : 24]، ويقول في ذم اليهود ومن سار على شاكلتهم: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الجمعة : 5]. ويقول: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [البقرة : 78].
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله.. وما تدبّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً، وقد والله أسقطه كله، ما يرى القرآن له في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَس! والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة.. متى كانت القراء مثل هذا؟ لا كثّر الله في الناس أمثالهم" [الزهد لابن المبارك ( 276)].
أيها المسلمون: إن الحلقات القرآنية يجب أن تكون المحضن التربوي والركيزة الأساسية في التربية، والوسط الذي يتفاعل فيه المعلم مع طلابه والتلميذ مع أقرانه ونظرائه، ويتلقى فيها الطالب المفاهيم التربوية، وتُعالج فيه أخطاؤه، وتصحح فيه انحرافاته، لأنها هي الأقوى تأثيراً من حيث الأثر التربوي على النفس، وخاصة عند الصغار والناشئة.
كما أن على المعلم والمربي غرس القيم والمفاهيم في هذه الحلقات، وتعاهد سقيها ورعايتها، وتحقيق كافة احتياجات الطالب الشخصية، والوجدانية، والنفسية، والجسدية، والعقلية، والاجتماعية، والثقافية، حتى يكون متأثراً بالقرآن مؤثراً به. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ" [ مسلم (2699)].
والله -سبحانه وتعالى- يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر 29: 30]، فتأملوا الذين وليس الذي، ويتلون وليس يتلوا، وتأملوا في حديث النبي قوله "وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ"، فكلها تشير إلى أهمية الاجتماع على كتاب الله، والاهتمام بحلقات العلم، لذلك جاءت الألفاظ بصيغة الجمع وليس بالمفرد.
وقال -سبحانه- في مدح مؤمني أهل الكتاب وأهل الصدق منهم، ممن اتبع الرسل وآمن بهم، والتزم بمنهجهم: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران 113: 114].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله منزل القرآن رحمة للعالمين، ومناراً للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: إن للحلقات القرآنية أثر تربوي عظيم على كل من دخل فيها وألتزم بها، وتكمن هذه التربية في الأثر البالغ الذي يتركه الجو القرآني في النفوس، حيث تشعر بالروحانية، والأمان النفسي، والهناء الداخلي، والسعادة القلبية، والسرور والبهجة... ببركة المكث في المساجد والجلوس بين يدي أهل القرآن، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : 28].
ومن هنا فأني أوصي كل أب بأن يربط أبناءه ومن ولاه الله أمرهم بالحلقات القرآنية، ومحاولة تفعيلها والمساهمة في الدفع بها نحو الأكمل والأفضل، لأن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، فالخير كل الخير في الارتقاء بهم، و"خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ"، كما قال ذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم- [ البخاري (5027) ].
ومن ينظر إلى الأولاد الذين تربوا في الحلقات والأولاد الذين لم يلتحقوا بها يجد أن هناك فرقٌ كبير وواضح بين التلاميذ الذين تلقوا تربية في الحلقات وغيرهم، وذلك من حيث الأدب، والسمت، والاستقامة على منهج القرآن، والمبادرة إلى الطاعات..
بل ثمة فرق أيضاً بينهم في الإبداع، والحفظ، وحسن الأداء، وغير ذلك لأن للقرآن تأثيره الخاص على النفوس، وآياته تصنع النفس البشرية، وتصهرها، وتزكيها، وتصقلها، وتقدمها للناس على خير مثال، لذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأناً يمشي على الأرض.
عباد الله: إذا كان السلف الصالح -رضي الله عنهم- قد حرصوا أشد الحرص على المنهجية المتكاملة في تعليم القرآن، والتي تجمع بين الحفظ والفهم والعمل، لما لها من أثر، ولما في التفريط فيها من خطورة؛ فإننا في هذا الوقت في أشد الحاجة وأمسها إلى تربية النشء على مفاهيم الإسلام وتنشئتهم على هذه المنهجية القرآنية السلفية.
فالقرآن الكريم جاء ليربي أمة، وينشئ مجتمعاً ويقيم نظاماً، والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثير وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثير والانفعال وتحوله إلى واقع. (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران : 103] وحبل الله هو القرآن. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخرِينَ" [مسلم (269)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اجعل القرآن العظيم لقلوبنا ضياء، ولأسقامنا دواء، ولذنوبنا ممحصا، وعن النار مخلصا، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين.