المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ومن دعائم القرآن في تربيته الوعظية: أنه يبدأ بالأهم فالأهم والأولى فالأولى، وهذا ما يجب على المربي أن يربي أبناءه وتلاميذه عليه، بحيث يربيهم على صغار العلم قبل كباره، والأهم قبل المهم, ولعلكم لاحظتم في مواعظ سيدنا لقمان لابنه كيف أنه بدأ بتربيته على الأهم فالأهم، فبدأ بتحذيره من الشرك، ثم أوصاه بالصلاة وبر الوالدين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز الوهاب، الذي أنزل على عبده ورسوله محمد الكتاب، هدى وذكرى لأولي الألباب، وأودع فيه من العلوم النافعة والبراهين القاطعة والدلائل الجلية والأحكام الشرعية، وحفظه من التغيير والتبديل مهما طال الدهر وتوالت الأحقاب، وجعله معجزة خالدة يشاهدها من عاش في زمن الوحي ومن غاب، فهو حجة للمؤمن الأواب، وحجة على الكافر المرتاب، وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم من سلكه وعمل به فله البشرى والثواب، ومن أعرض عنه فله معيشة ضنكا وفي الآخرة سوء العذاب.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد المصطفى من أطهر الأنساب وأشرف الأحساب, الذي أيده ربه بالمعجزات الباهرات وعلى آله وصحبه الأكرمين خير أهل وأصحاب, الذين وعدهم ربهم -سبحانه- بالنصر والتمكين وأورثهم الجنة وحسن المآب.
أما بعد:
عباد الله: لقد سمى الله -تبارك وتعالى- كتابه العظيم بأنه (موعظة) فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : 57]. ووصفه بأنه موعظة فقال: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : 138].
إن الموعظة القرآنية تعني بمفهومها الشامل التربية الشاملة التي تعنتي بتصحيح التصورات، وتصحيح التعبدات، وتصليح السلوك التربوي والفكري والاجتماعي والاقتصادي وكافة الجوانب التي تربي الشخصية المسلمة وتنظم سلوكه وعواطفه، في إطار كلِّي يستند إلى شريعة الإسلام وقيمه وتصوراته وأحكامه.
وهذا ما تجسده موعظة لقمان -عليه السلام- لابنه حيث شملت كل الجوانب فشملت الجانب العقدي: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : 13]. وشملت الجانب الاجتماعي: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان 14: 15]. وشملت الجانب الأخلاقي: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان : 19].
نستفيد من هذا -يا عباد الله- أن الموعظة القرآنية تربي المسلم التربية المتكاملة من جميع الجوانب، وعلى كافة الاتجاهات والأصعدة، حتى تنتج المسلم المتزن المتكامل، وهكذا يجب علينا أن نربي أبناءنا وطلابنا بتربية القرآن الوعظية الشاملة، ولا نهمل جانباً دون جانب، أو على حساب جانب آخر، فيحصل الانفصام التربوي أو التربية الجزئية.
ومن دعائم التربية في الموعظة القرآنية: أنها تربية أدبية رفيعة تستخدم أسلوب التودد إلى الشخص والتحبب إليه، وإشعاره بالاقتراب منه، وهذا واضح في مواعظ سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مع أبيه.
لقد قال له أربع مرات: "يَا أَبَتِ" لأن في تكرار النداء له بالأبوة تحننن لقلب أبيه القاسي، ومحاولة متكررة منه لاستحضاره واستعطافه وإشعاره بالقرب منه، وإظهار العطف والحنان له، وهو أسلوب ترغيبي أبلغ من لو قال له: "يا أبي".
وفي تربية سيدنا لقمان -عليه السلام- لابنه كرر له لفظ (يَا بُنَيَّ) عدة مرات فكان يقول له: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) [لقمان : 13]، (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) [لقمان : 16]، (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) [لقمان : 17].
فيجب علينا أن نتخلق بأخلاق القرآن وأساليبه التربوية الوعظية المؤثرة؛ حتى يحصل المقصود في تحقيق المراد في تربية من استرعانا الله عليهم تربية إسلامية صحيحة راشدة، وذلك بالقرب منهم والتودد إليهم وإظهار العطف والحنان بهم.
ومن دعائم القرآن في تربيته الوعظية: أنه يبدأ بالأهم فالأهم والأولى فالأولى، وهذا ما يجب على المربي أن يربي أبناءه وتلاميذه عليه، بحيث يربيهم على صغار العلم قبل كباره، والأهم قبل المهم.
ولعلكم لاحظتم في مواعظ سيدنا لقمان لابنه كيف أنه بدأ بتربيته على الأهم فالأهم، فبدأ بتحذيره من الشرك، ثم أوصاه بالصلاة وبر الوالدين وغيرها من الآداب والفضائل.
أخرج البخاري ومسلم عَنِ عبدالله بْنِ عَبَّاسٍ -رضى الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا -رضى الله عنه- عَلَى الْيَمَنِ قَالَ: "إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ, فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهُمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ" [ البخاري (1458) مسلم (31)]. هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً -رضي الله عنه- أن يُعلم أهل اليمن وأمره أن يبدأ في تربيتهم وتعليمهم على الأولى فالأولى.
ومن الدعائم التربوية في مواعظ القرآن: أنها تربي النفوس ظاهراً وباطناً وداخلياً وخارجياً، وهذا ما ينقصنا اليوم في مناهجنا التربوية البتراء، التي تنشئ أجيالاً لديها انفصام واضح بين السلوك والتربية، وبين التربية والتعليم.
وهذا ماحذر الله منه في كل المواعظ القرآنية التي تحذر المسلم من النفاق والرياء، والتظاهر بالخير وإبطان السوء والشر. يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة 8: 9]. ويقول: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء : 142]. ويقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة : 204].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, حمدا طيّبا مباركا فيه, وأفضل الصلاة وأتمّ السلام على سيّدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها المسلمون: ومن الدعائم التربوية في المواعظ القرآنية أنها عظات تتكرر ومواعظ تتجدد، لأن المسلم يحتاج بين الحين والآخر إلى من يذكره ويعظه في نفسه، ويرقق له قلبه، ويضعه دائماً على الطريق السوي بلا إفراط ولا تفريط.
إن النفوس لن تتربى، والقلوب لن تستقيم، والأحوال لن تصلح، إلا إذا تم تعاهدها بالتربية الفاضلة، والمواعظ الدائمة، والتذكير المستمر، وهذا ما نجده في مواعظ القرآن فإنها تتجدد دائماً لتربي الناس وتزكيهم.
إن بعض المربين لم يستفد من هذا الدرس القرآني في مواعظه، فتراه يمل سريعاً، ويتضجر وينفعل إذا لم يرَ على ابنه أو تلميذه تغيراً يُذكر، ولا يكلف نفسه تجديد النصائح والمواعظ له بل ييأس من ذلك.
ومن أسس التربية في مواعظ القرآن: أنه يُقدم البشارة على النذارة، والرحمة على العذاب، واليسر قبل العسر، وهذا ما نلاحظه دائماً حين يذكر الله الجنة قبل النار والخير قبل الشر. يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأنعام : 48]. ويقول –سبحانه-: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة : 213].
ويخاطب الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران : 159].
وهكذا نحن يجب أن نكون في تربيتنا لمن ولانا الله تربيتهم؛ أن نستخدم معهم أسلوب الترغيب قبل الترهيب، والتحفيز قبل التهديد.
ومما يدخل في دعائم التربية وأصولها مراعاة حال المتعلم أو المتربي، وإعطاء كل مرحلة ما يناسبها من العلم والتربية، فلكل مرحلة عمرية درجتها من النضج والمعلومات، كما قال تعالى (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3]، فهل راعينا في تربيتنا للأجيال هذا الأمر؟ استفادة من تربية القرآن ومواعظة العظيمة.
أيها الناس: إن عملية التعليم والتربية ليست عملية استعراضية يستعرض فيها المربي أو المعلم معلوماته، وإنما هي منظومة متكاملة، وصياغة شاملة، تحتاج في أولها إلى الأسس والمبادئ التي تصح بها وتكتمل، وهذه الأسس والمعالم التربوية لن نجدها في كتب معلمي الشرق ولا الغرب، وإنما نجدها في مواعظ القرآن وعظاته. يقول الله -تبارك وتعالى- مادحاً طريقة الربانيين الذين كانوا يربون الناس على مواعظ القرآن وبيناته وعظاته: (وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران: 79].
هذا وصلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
اللهم اجعلنا ممن يقيمون حدود القرآن ويعملون بأحكامه ويؤمنون بمتشابهه، ووفقنا للقيام بحقه حق القيام والحمد لله رب العالمين.