الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
ها هم حجاج بيت الله الحرام، قد لبَّوا نداء الرحمن، سائلين ربهمُ المغفرة والرضوان، ها هم يجتمعون من مختلفِ البلدان، وأقاصي الشعاب والوديان، في مكانٍ واحد، ولباسٍ واحد، وذكرٍ واحد، منهم الشريفُ والوضيع، والصغيرُ والكبير، والأبيضُ والأسود، تلهجُ ألسنتُهم بالتلبيةِ، وتبتهجُ قلوبُهم لله محبةً وشوقًا، صافيةٌ قلوبهم، متآلفةٌ أفئدتهم، ألوانهم ولغاتهم مختلفة، ومقصدُهم ونيتُهم واحدة، يحدُوهُم الشوق إلى بيت الله –تعالى-.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أتاح لعباده مواسم الخير ونوَّعها، وأبان لهم عن فضلها وأجرها, ليتزودوا منها صالح الأعمال، ويستدركوا ما يحصل من الغفلة والإهمال.
وأشهد أن لا إله الله، وحده لا شريك له، الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحبٍ وآل، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].
أيها المسلمون: ها هم حجاج بيت الله الحرام، قد لبَّوا نداء الرحمن، سائلين ربهمُ المغفرة والرضوان، ها هم يجتمعون من مختلفِ البلدان، وأقاصي الشعاب والوديان، في مكانٍ واحد، ولباسٍ واحد، وذكرٍ واحد، منهم الشريفُ والوضيع، والصغيرُ والكبير، والأبيضُ والأسود، تلهجُ ألسنتُهم بالتلبيةِ، وتبتهجُ قلوبُهم لله محبةً وشوقًا، صافيةٌ قلوبهم، متآلفةٌ أفئدتهم، ألوانهم ولغاتهم مختلفة، ومقصدُهم ونيتُهم واحدة، يحدُوهُم الشوق إلى بيت الله –تعالى-.
ها هم حجاج بيت الله في هذا اليوم، يوم التروية في منى، أول أيام الحج، وهم يستعدُّون لاستكمال حجهم، وإتمام مناسكهم.
أَمَا والذِي حَجَّ المُحِبُّونَ بَيْتَهُ | وَلَبُّوا لَهُ عندَ المَهَلِّ، وَأَحْرَمُوا |
وَقَدْ كَشَفُوا تِلكَ الرُؤوسِ تَواضُعًا | لِعِزَّةِ من تَعْنُو الوُجوهُ وَتُسلِمُ |
لَبَّيكَ رَبَّنَا | لك المُلْكُ والحَمْدُ الذِي أَنْتَ تَعلَمُ |
دَعَاهُم فَلَبَّوهُ رِضىً وَمَحبَّةً | فلما دَعَوْهُ كانَ أَقْرَبَ مِنْهُمُ |
تَراهُم على الإِنْضَاءِ شعثًا رُءوسُهُم | وغُبْرًا وهم فيها أَسَرُّ وأَنْعَمُ |
وَقَدْ فَارَقُوا الأَوْطَانَ والأَهْلَ رَغْبَةٌ | ولم يَثْنِهِم لَذَّاتُهُم والتَّنعُّمُ |
يَسِيرُونَ من أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا | رِجالاً وَرُكبانًا، ولله أَسْلَمُوا |
فنسأل الله –تعالى-, أن يُيَسِّر للحجاج حجهم، وأن يتقبل منا ومنهم صالح الأعمال.
واعلموا عباد الله: أن الله –تعالى- قد أتاح لنا من الأعمال العظيمة، والأجور الفاضلة، ونحن بين أهلنا وأولادنا، فمن ذلك: الإكثار من ذكر الله تعالى، وتكبيره وتهليله.
والتكبير المقيد بَدأ من فجرِ هذا اليوم, ويَسْتمرُّ إلى آخر أيام التشريق, فأكثروا من التكبير والتهليل والاستغفار، واجْهروا بذلك في البيوت والأسواق والطرقات.
ومن الأجور العظيمة، والأعمال المباركة: صيام يوم عرفة. قال -صلى الله عليه وسلم-: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ" (رواه مسلم).
ومن الأعمال المباركة أيضاً: الأُضْحية، فهي سنةٌ ماضية، وشعيرةٌ فاضلة.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «أقام النبي -صلى الله عليه وسلّم- بالمدينة عشر سنين يضحّي» (رواه أحمد والترمذي).
ولا يكلف المسلم نفسه ما لا تطيق، فمن لم يكن مستطيعاً دفع ثمنها، فلا ينبغي الاستدانة لتحصيلها.
ويجوز ذبحُ الأضحية في أي وقت ليلاً ونهاراً، والذبح في النهار أولى، ويومُ العيد بعد الخطبتين أفضل، وكل يومٍ أفضلُ مما يليه؛ لما فيه من المبادرة إلى فعل الخير.
وذبحُ الأُضْحية أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأنَّ ذلك عملُ النبي -صلى الله عليه وسلّم- والمسلمين معه؛ ولأن الذبحَ من شعائر الله –تعالى-، فلو عَدَلَ الناس عنه إلى الصدقة لتعطَّلتْ تلك الشعيرة.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه. قال: ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقِرَان بأضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه، وكذلك الأضحية". انتهى كلامه.
وقد اعتاد الكثير من الناس، ذبح الأضاحي عن الأموات كالآباء والأمهات، وليس هذا من عمل السلف الصالح.
قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "لا نرى أن تخصيص الميت بالأضحية من السنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلّم- لم يضحّ عن أحد من أمواته بخصوصه، فلم يضح عن عمه حمزةَ وهو من أعز أقاربه عنده، ولا عن أولاده الذين ماتوا في حياته، وهم ثلاثُ بنات متزوجات، وثلاثة أبناء صغار، ولا عن زوجته خديجة، وهي من أحبِّ نسائه إليه، ولم يرد عن أصحابه في عهده أن أحداً منهم ضحى عن أحد من أمواته. ولو علموا أن الرجل إذا ضحى من ماله عن نفسه وأهله شمل أهله الأحياء والأموات لما عَدَلُوا عنه إلى عملهم ذلك".ا.هـ كلامه رحمه الله.
ويُشْرعُ للمضحي أن يأكل من أضحيته، ويُهْدِي، ويتصدق لقوله تعالى: (فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 28].
وقد اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في مقدار ما يُؤكل ويُهدى ويُتصدق به، والأمر في ذلك واسع، والمختار أن يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث.
ولا فرق في جواز الأكل والإهداء من الأضحية, بين أن تكون تطوعاً أو واجبة، ولا بين أن تكون عن حي أو ميت أو عن وصية؛ لأنَّ الوصيَّ يقوم مقام الْمُوصي، والْمُوصي يأكل ويهدي ويتصدق.
فأما الوكيل, فإن أَذِنَ له الْمُوَكِّلُ في الأكل والإهداء والصدقة, أو دلَّتِ القرينة أو العرف على ذلك, فله فعله, وإلا سلمها للموكِّل، وكان توزيعها إليه.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى) [الحج: 37].
الخطبة الثالثة:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، خالق الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأراضين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون: وقد جعل الله للمسلمين عيدين في الإسلام؛ عيدَ الفطر وعيدَ الأضحى، وقد شرعهما لحكمٍ عظيمة، وغاياتٍ حميدة، فمنها التوسعةُ على المسلمين، وإدخالُ السرورِ عليهم.
فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: "دخلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أمزمار الشَّيْطَانِ في بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا» (متفق عليه).
قال ابن حجر -رحمه الله-: "وَفِي هَذَا اَلْحَدِيثِ مِنْ اَلْفَوَائِدِ، مَشْرُوعِيَّة اَلتَّوْسِعَة عَلَى اَلْعِيَالِ فِي أَيَّامِ اَلْأَعْيَادِ, بِأَنْوَاعِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ بَسْط اَلنَّفْس وَتَرْوِيح اَلْبَدَن مِنْ كَلَف اَلْعِبَادَة، وَأَنَّ اَلْإِعْرَاضَ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى.. وَفِيهِ أَنَّ إِظْهَار اَلسُّرُور فِي اَلْأَعْيَادِ مِنْ شِعَارِ اَلدِّينِ". ا.هـ كلامه.
وليس هذا الحديثُ حجةً في إباحة الغناء والموسيقي، قال القاضي عياض -رحمه الله-: "وقولها "وليستا بمغنيتين": أي: ليستا ممن يُغَنِّي بعادة المغنيات, من التشويق والهوى, والتعريض بالفواحش, وليستا أيضًا ممن اشتُهر وعُرف بإحسان الغناء, الذي فيه تمطيطٌ وتكسير, والعرب تسمِّي الإنشاد غناء, وليس هو من الغناء المختلَف فيه, بل هو مباح, وقد استجازت الصحابة غناء العرب, الذي هو مجرد الإنشاد والترنم". ا.هـ كلامه.
عباد الله: وصلاة العيد واجبةٌ على القول الراجح، بل كان الصحابة -رضي الله عنهم- يأمرون أبناءَهم ونساءَهم بصلاة العيد مع المسلمين.
فعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ, وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ عَنْ مُصَلَّاهُنَّ". (متفق عليه).
والسنةُ ألا يأكلَ المسلمُ قبل صلاة الأضحى حتى يضحّي؛ لحديث بريدة -رضي الله عنه- قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلّم- لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي» (رواه الترمذي وصححه الألباني).
ولأن ذلك أسرع إلى المبادرة في الأكل من أضحيته.
ولا بأس من التهنئة بين المسلمين. وكانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلّم-, إِذَا اِلْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: "تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك"، قال ابن حجر: إسناده حسن.
وما أجمل أيها المسلمون، أن يشعر العمال والوافدون بقربنا منهم، فنسلِّم عليهم، ونعطيهم من لحوم الأضاحي، فذلك من أحبِّ وأعظم الأعمال عند الله تعالى.