الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن أبناءنا بحاجة إلى التشجيع والمدح والتحفيز قبل التنفير والتهديد والضرب، وهذا هو النهج الذي ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه أصحابه وأتباعه. يقول أَنَسٌ بن مالك، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ ، وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ ، وَلاَ أَلاَّ صَنَعْتَ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمت رأفته بكل حي، أحمده على توابع آلائه وجلائل منته، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، ذكر الترغيب قبل الترهيب، وقدّم اللين على التشديد.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً خيرته من بريته، ومصطفاه لرسالته، وارأف أمته بأمته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعفرته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجه وطريقته.
أما بعد:
عباد الله: لقد بيّن الله -سبحانه وتعالى- لنا في كتابه العظيم كل شيء، وعلمنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- كل شيء، ومن ذلك وسائل التربية وطرقها وأساليبها.
إن من الأساليب التربوية التي أمُرنا بها؛ أن نغلب جانب التشجيع على جانب الضرب، وجانب اللين على جانب الشدة، وجانب الترغيب على جانب الترهيب.
تأملوا قول الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) [البقرة : 119]، وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الأحزاب : 45]، ويقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سبأ : 28].
فهذه الآيات كلها خطاب من الله -سبحانه وتعالى- لأعظم مربي وأجل معلم -صلى الله عليه وسلم- يخبره الله فيها أنه أرسله للناس بشيراً ونذيراً، فقدّم البشارة على النذارة، والترغيب على الترهيب، مما يدل على أنه الأصل والغالب.
إن بعض المربين يظن أن الأسلوب الأنجع والطريقة الأنفع في التربية هي تقديم الشدة على اللين، ولكن الحقيقة التي أثبتها الله في كتابه وأمر بها هي تقديم اللين على الشدة، والتشجيع على الضرب.
ولهذا فإن بعض الآباء -أصلحنا الله وإياهم- يظن أن صلاح أبنائه واستقامتهم لن يكون إلا إذا شدّد عليهم, واستخدم أساليب العنف ضدهم، وينسى أن هذا تفجيراً لهم، وهدماً لنفسياتهم، وتخريباً لقدراتهم وطاقاتهم.
ولو أنه أتى لهم بالتي هي أحسن قبل التي هي أخشن, لكان أولى وأنفع في تربيتهم وتقويمهم وصلاحهم، لأن النفوس البشرية مجبولة على حب الإحسان والمدح واللين، وتكره الشدة والقسوة والذم والغلظة.
كثير من آبائنا ومعلمينا إذا أراد أ يرغب ابنه في شيء أو يحثه على عمل معين, قال له: افعل كذا وكذا, فإن لم تفعله سأضربك أو سأفعل بك كذا وكذا، وكان الأولى له والأجدى به أن يقول له: افعل كذا وكذا فإذا فعلته سأكرمك أو سأعطيك كذا وكذا حتى يرغبه ويشجعه.
كيف يرغبه في عمل هذا الشيء ويحثه على فعله؛ وهو يهدده إن لم تفعله سأفعل بك وأفعل؟! فإنه حتى وإن فعل هذا الشيء أو قام بتحقيقه, فإنما أقامه عن خوف وترهيب وليس عن رغبة وتحبيب، فلننتبه لهذا.
وحتى لو فعل الابن خطأ أو صدر منه تصرفاً لا يليق؛ فلماذا نبدأ معه مباشرة بالضرب والتهديد والزمجرة؟ لماذا لا نتدرج في تأديبنا له ونبدأ بالنصيحة والكلمة الطيبة, سواء من قبل والده أو من قبل المؤثرين عليه ممن يحترمهم ويستمع لنصائحهم، فإن لم يرعوِ للنصيحة انتقلنا إلى التجافي عنه قليلاً وحرمانه من بعض الأشياء التي تؤثر عليه حتى يتأدب، فإن لم هدد بالعقاب، فإن لم يجدي معه التهديد وقع التنفيذ.
تأملوا قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء : 34]. هذا في المرأة الناشزة المخالفة لأوامر زوجها الخارجة عن طاعته، أمرَ الله -سبحانه وتعالى- أولاً بنصيحتها ووعظها وتفهيمها الأمور، فربما تكون جاهلة بعض الشيء، أو لديها لبس وغبش حول بعض الأشياء، فإن لم ينفع معها الوعظ والنصح أمر بالانتقال إلى الهجر والبعد عنها، وعدم النوم معها على لحاف واحد، فإن لم ينفع هذا كله قام بضربها ضرب تأديب لا ضرب تعذيب، فإن لم يجدِ لا هذا ولا ذاك طلقها طلقة واحدة فقط، بعد بعث حكم من أهله وحكماً من أهلها.
فانظروا إلى التدرج في التربية، وانظروا كيف أمر الله به أولاً وقبل كل شيء بجانب النصيحة والوعظ، وهذا لا شك أنه أسلوب من أساليب التشجيع، لأنك حينما تحث شخصاً على شيء أو تأمره به فإنك في الحقيقة تشجعه عليه.
ربما يقول بعض الآباء الأبناء اليوم أصبحوا عصاة بلا أدب، وليس عندهم احترام لأحد، ولن ينفع معهم إلا الضرب، ولن يستقيموا إلا إذا كانت العصا ظاهرة أمامهم، والضرب واقع على ظهورهم.
وهذا كلام غير صحيح، لأن العنف لن يولد إلا العنف، والشدة في الغالب لا تأتي بخير، والله -سبحانه وتعالى- حينما قدم الترغيب على الترهيب واللين على الشدة إنما أمر بذلك أمراً عاماً باقياً إلى يوم القيامة، وليس هو لعصر دون عصر، أو لزمان دون زمان.
إننا -والله- نأسف كثيراً حينما نرى بعض الآباء -هداهم الله- لا يتعاملون مع أبنائهم إلا بالغلظة والقسوة المفرطة، والازدراء والتحقير، وكأنهم لا يعلمون شيئاً اسمه اللين والرحمة والرفق، وينسون أن هذه الشدة التي يعلمّونها أبناءهم ويربونهم عليها سيطبقونها فيما بعد عليهم، وسيستخدمونها ضدهم في وقت هم أحوج فيه إلى من يقوم بهم ويخدمهم، ويكون ليناً معهم.
فتحببوا إلى أبنائكم، وارفقوا بهم، وأكثروا من تشجيعهم وترغيبهم، وإياكم والإكثار من هدمهم وذمهم، أو التسرع في ضربهم وإرهابهم قبل ترغيبهم وتشجيعهم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التغابن : 14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، بعث رسله مبشرين ومنذرين بمواعظ الدين، ترغيباً وترهيباً لقلوب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد أفصح لساناً وبياناً لمواعظ الدِّين، أرسله الله رحمةً للعالمين، وداعياً بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
بعض الآباء يتعذر بأنه لا يستطيع تغليب جانب الضرب على التشجيع، وأنه إذا انفعل مباشرة يزمجر، ويضرب، ويفقد أعصابه، وينسى كل شيء.
وهذا الأمر ولله الحمد قد أرشدنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى سبل معالجته، وبيّن لنا طرق التخلص منه، وذلك بالحذر من الوقوع في أسباب الغضب وتجنبها، وعلى الإنسان إذا غضب وهو قائم أن يجلس، وإذا غضب وهو جالس أن يضطجع وهكذا.
وفي الحقيقة ينبغي على الأب أن يعود نفسه على تغليب جانب التشجيع واللين على جانب الشدة والضرب, في الأوقات العادية التي تكون فيها نفسيته طبيعية لم يكدر عليها شيء، وحتى في حالة الاحتقان والغضب أيضاً يجب عليه أن يحاول التخلص من ذلك، ويعلم علم اليقين أن الترغيب مقدم على الترهيب والتشجيع يكون قبل الضرب.
ثم إلى متى سيضرب الوالد أولاده؟ ومتى سيكف عن تحطيمهم وذمهم؟ وهل فعلاً يتغير فيهم شيء حينما يتزمجر عليهم، ويكون دائماً قاسياً معهم، غليظاً عليهم، لا يعرف معهم غير لغة القوة والضرب والتهديد؟.
إن الواقع والتجارب تدل على أن الأبناء الذين يتربون بهذه الطريقة لا يتغير في الغالب فيهم شيء، بل على العكس تماماً يخرج من أمثال هؤلاء جبابرة العالم وطغاة البشر وقساتهم، لأن هذه هي التربية التي تربوا عليها وانطبعوا بها.
بعكس الأولاد والطلاب الذين تربوا على التشجيع والاحترام، ومبادئ الثقة والتعاون والإرشاد، فإنهم في الغالب يكونون من خيرة الناس ومن أعظمهم احتراماً وأخلاقاً، لأنهم تربوا على اللين وليس على الشدة، وعلى التشجيع وليس على الهدم والضرب.
وليس معنى هذا أن نترك أسلوب الضرب من أساسه، أو نقول كما تقول بعض الإدارات المدرسية: "يمنع على المدرس أن يستخدم العصا أو يحملها مع الطلاب"، وهذا خطأ فاحش لأن من النفوس من لا تنفع معها النصائح، ولا تجدي فيها المواعظ، ولا تفهم غير لغة التأديب والضرب، ومن الطلاب والأبناء من لا يحترم نفسه إلا إذا كان الصوط ظاهراً له.
ولكن هذا لا يكون إلا بعد استخدام الأساليب التربوية الأخرى التي تكون قبل الضرب والتهديد، ومن أعظمها التشجيع والتحفيز واللين الذي يشعره بالمحبة والرفق.
يقول الله -تبارك وتعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد: 25]. فانظروا في هذه الآية وتمعنوها فإن الله -سبحانه وتعالى- ذكر فيها البينات والكتاب، قبل ذكر الحديد والقوة.
إن أبناءنا بحاجة إلى التشجيع والمدح والتحفيز قبل التنفير والتهديد والضرب، وهذا هو النهج الذي ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه أصحابه وأتباعه. يقول أَنَسٌ بن مالك، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ ، وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ ، وَلاَ أَلاَّ صَنَعْتَ" [البخاري (6038 )].
بل هذا هو منهج الله -سبحانه وتعالى- ومقتضاه أن رحمته تسبق غضبه -سبحانه وتعالى-، وهكذا ينبغي لنا أن نكون، تسبق رحمتنا غضبنا، وترغيبنا ترهيبنا، وتشجعنا شدتنا وضربنا. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي" [ البخاري (7422)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللهم اجعلنا من البارين بأولادنا، المهتمين بهم، المراعين لحقوقهم، المقدمين للنصح والتشجيع على ضربهم والشدة معهم، يا أرحم الراحمين.
------
المرجع: 13 خللا في التربية لفضيلة الشيخ محمد المحيسني