المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | توفيق الصائغ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
لقد مر على الأمة أحداث جسام ربما كانت أعظم من الأحداث التي توالت على المسلمين اليوم، وتكالبت أمم الصليب على أمة الإسلام، فاجتاحت العالم الإسلامي، واجتاح التتار عالمنا الإسلامي.. أحداث جسام وقعت للعالم ولم يكن يعني ذلك للموجودين يوم ذاك أنها نهاية النهايات، وأنها علائم قيام الساعة.. من رحم المأساة يولد الأمل، وإذا اشتدت الظلماء واحلولكت، فلا بد أن يبزغ الفجر، والفجر لا يولد إلا بعد أن يتكاثف الظلام. لذا أطالبك أن تقلب الصورة، وأن تنظر بعين الفأل إلى ما حقّقته الأمة من الإنجازات.
الخطبة الأولى:
الحمد لله (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، السماء بناها، والأرض طحاها، والنفس سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا، وقدره منازل وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورًا.
أحمده سبحانه وأشكره ومن مساوئ عملي أستغفره، وأستعينه على نيل الرضا، وأستمد لطفه فيما قضى، اللهم صلّ وسلم وزد وأنعم على عبدك وخليلك محمد وعلى آله وصحابته والتابعين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: مع نهاية عام وإقبال عام ننظر إلى العام المنصرم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة يضطرب محتضرًا، التفت الساق بالساق، فلم يعد ينفع طبيب ولا يجدي راقٍ.
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا | أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ |
مع انتهاء هذا العام الثقيل الذي مر بأحداث وأحداث، واستقبال عام هجري جديد، يحسن بي أن أقف وقفات، لا أزعم أني سأحصي الوقفات والدروس التي ينبغي الوقوف عندها في الجمعة الأولى، لكن الوقفة الأولى هي الالتفات إلى هذه النفس التي أقسم الله تعالى في كتابه سبعة أقسام ثامنها قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: 7- 8]، ثم يأتي الجواب (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:9- 10].
نفس أمارة بالسوء وأخرى تحضّ صاحبها على الطاعات، وتمنعه من السفاسف والأمور، نفس ترتقي بصاحبها إلى عاليات العاليات، وأخرى تهوي به إلى دركات الدركات ولذلك كان ينبغي للإنسان أن يلتفت إلى نفسه بالمحاسبة مرة بعد مرة، وينهى نفسه عن الهوى، قال الله –تعالى- (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40- 41].
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ولله درّ هذه النفس ما أعظم علاجها! وما أعظم عاقبة علاجها!
والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على | حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم |
فاحـذر هواها وحاذر أن توليـه | إن الهوى ما تولّى يعم أو يصـم |
وراعها وهي في الأعمال سائمة | وإن هي استحلت المرعى فلا تسم |
كم حسَّنت لذة للمرء قاتلة | من حيث لم يدر أن السم في الدسم |
وخالف النفس والشيطان واعصهما | وإن هما محضَّاك النصح فاتَّهِم |
وَلا تُطِعْ منهما خَصْماً وَلا حَكمَاً | فأنْتَ تَعْرِفُ كيْدَ الخَصْمِ والحَكمِ |
ما أبلغ من قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر: 18]، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- القائل: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"، بدأ بنفسه فحاسبها، لوحة رائعة شيقة يرويها لنا أنس بن مالك عن صنيع عمر -رضي الله عنه- وهو شاهد على العصر يقول: "خرجت ذات مرة مع عمر حتى دخل حائط وسمعته وبيني وبينه جدار يقول: عمر أمير المؤمنين بخِ بخ، والله يا ابن الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك".
ولماذا لا نحاسب أنفسنا والأيام الخالية والأعمار الماضية في عمر الزمن -يوم ذاك، أعني يوم القيامة- كأنها ساعة فقط، قال الله –تعالى-: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) [يونس: 45].
أيها المبارك: مجالات حساب النفس كثيرة، ومجالات تعداد هذه المجالات عسيرة، لكن تأمل النعم المرسلة والآلاء المستقبلة، نِعَم تترى من فوقها نِعَم يدفعها فتنضاف إلى النعم.
أيها المبارك: تذكر أنك في العام المنصرم فقط تنفست أحد عشر مليون مرة، يدخل النَّفَس إلى جوفك فيملأه بالأوكسجين، ثم تطرده أحد عشر مليون مرة، لتُخرج السامّ من الأنفاس الذي لو حُبس في جسدك لذهبت نفسك ولتفلتت.
نعمة لا يكاد يلتفت إليها أحد، إن الذي أسدى إليك هذه النعمة لم يطلب منك سوى ألف وثمانية فرض في العام، فهل أديت أم ضيّعت؟!
لقد استهلكت في العام المنصرم نصف طنّ أو يزيد من لذيذ الطعام من حلوّه ومالحه ولذيذ الشراب، إن الذي أطعمك قد أمرك بألف وثمانية فرض، أطعمك فهل أطعتَ؟! سقاك فهل امتثلت؟!
لا بد من وقفة مع هذه النفس للمحاسبة، ومن دان نفسه وحاسبها وعمل لما بعد الموت فهو الداخل في قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس:9].
أيها المباركون: يتزامن نهاية العامة وبدء العام الجديد مع ذكرى كان اليهود يقومون لها مناسبة دينية، إنها ذكرى سقوط أعظم طاغية على وجه الأرض، الطاغية الذي كان ينظر لنفسه بأنه عميد القادة العجم والعرب، القائد الذي كان يرى نفسه ملك ملوك إفريقيا وآسيا وأوروبا القائل في تيهه وجبروته: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) [الزخرف: 51] (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38].
فماذا صنع الإله به؟ أغرقه وجعله عظةً للمتعظين وآية للمعتبرين وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة يقول: (آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس: 90] فهل نفعه ذلك؟!
إن تكرر الذكرى يؤكد لنا أنه ما من طاغية إلا سيلقى ذات المصرع ونفس المصير.
أيـنَ نمـُرودُ وَكَنعـانُ ومَـنْ | مـَلَكَ الأرْضَ وَوَلـىَّ وعَـزَلْ |
أَينَ عـادٌ أَيـنَ فِـرعَـونُ وَمَنْ | رَفـعَ الأَهَـرامَ مِـنْ يسمعْ يَخَـلْ |
أَيـنَ مَـنْ سَـادوا وشَادوا وبَنَوا | هَلَكَ الكُـلُّ وَلـم تُغـنِ القُلَـلْ |
أَيـنَ أرْبـابُ الحِجَى أَهْـلُ النُّهى | أَيـنَ أهْـلُ العلـمِ والقـومُ الأوَلْ |
هذه السنة كانت كفيلة بأحداثها وتداعياتها أن تغيّر حالة اليأس إلى حالة الفأل، أين الطغاة والجبابرة الذين مكث عميدهم أربعين سنة يسوم عباد الله سوء العذاب؟!، يقتل أبناءهم، بل ولا يستحي نساءهم، يحرقهم أحيانًا، ويسحلهم أحياءً، أين هو الآن؟! ذهب وولى، وأصبح آية من الآيات وعظة من العظات.
إن الآيات الكريمة التي كنا نقرأها في كتاب الله باتت عيانًا مرسومة يشهدها الناظرون، قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26].
كانت آية متلوة، فأصبحت آية مرئية منظورة؛ لتصبح آية تنضاف إلى آية.
إن العام المنصرم قرأنا من خلاله آيات القرآن بنكهة مختلفة وطعم آخر، قرأنا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:20- 21].
نعم، في العام المنصرف مع التداعيات الكثيرة، ونحن نلتفت برءوسنا إلى الشرق تارة وإلى الغرب تارة، تدور رءوسنا كما تدور آلة المروحة الكهربائية نسينا أو تناسينا الحالة التي كانت الأولى في قضايانا التي تتربع عرش قضايانا التي ترتقي إلى سدرة منتهاها، وأعلى أعلاها، إنها قضية فلسطين، مَن الذي حدثنا عنها خلال العام المنصرم.
كانت فلسطين موالاً لأمتـنا | ما بالها لم تعد للناس موالا |
تعددت يا بني قومي مصائبنا | فأقفلت بابنا المفتوح إقفـالا |
كنا نعالج جرحاً واحدًا فغدت | جراحنا اليوم ألوانًا وأشكالا |
لا بد أن تطفو هذه القضية على السطح، ولا بد أن يسمع العالم صرخات إخواننا في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس؛ لأنهم أصحاب قضية، ولكن ما حدث في الشرق والغرب يعطي رسالة قوية لأولئك المأسورين خلف الأسوار العالية، لأولئك المضطهدين المحصورين حتى عن لقمة العيش، وحتى عن نسمة الهواء، إن ما حصل بليبيا ليس بعيدًا أن يحصل في فلسطين، وإن ما وقع بتونس ليست عصية عنه دولة إسرائيل، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!!
العام المنصرم أُزهقت فيه أرواح، السؤال الذي يطرح نفسه لماذا؟! ومن أجل ماذا؟ لماذا رخص الدم والمقدرات والبنية التحتية والفوقية من أجل ماذا؟!
الجواب بكل صراحة -أيها الإخوة-: من أجل الأثرة، من أجل حب الدنيا، كثيرًا ما أسأل نفسي لو أن مائة نفر جاءوا إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في دار الخلافة ليت شعري، وهل كان لعمر دار خلافة لو جاءوا إليه وهو متوسد التراب تحت تلك الشجرة التي يقول فيها حافظ
أمنتَ لما أقمتَ العدل بينهم | فنمتَ نومَ قرير العين هانيها |
لو جاء مائة نفر إلى عمر وقالوا له: ارحل، لا نريد حكمك، أكان يُصِرّ على إزهاق الدماء، على إراقتها، على قتل الأنفس، أم كان يجد أن ذلك فرجًا بعثه الله -عز وجل- له؟!
إن أبا بكر -رضي الله عنه- يوم تولى الخلافة خطب الناس، وقال: "يا أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم"، لقد نازعوه في أن يتولى الأمر، وإلا فلم يكن أبو بكر يستشرف الخلافة ولا يريدها؛ لأنه من صبيحة أول يوم في الخلافة نزل إلى السوق ليبتاع ويشتري، فقدم إليه عمر وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يفرضون له شاة ليتفرغ لهموم المسلمين ولمصالحهم.
لَم يُقتَل عمر -رضي الله عنه- كما تُقتل الجرذان في الجحور، إنما قُتل عزيزًا في محراب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحين قُتل لم يوجد في أرصدته هنا ولا هناك شيء، إنما وجدوا مصباحًا نضُب زيته.
إذاً ذهبت الأنفس والمكدرات والمدن والبلاد من أجل الأثرة وحب الدنيا التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- "مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".
إياك أيها المستمع أن تظن أن هذا الحديث هو حديثٌ لأصحاب الولايات وحسب، أنا وأنت نعيش ذات الدور عندنا من الأثرة وحب الدنيا وحب درهمها ما جعلنا نقطع الأواصر ونتدابر ونتشاحن ونتباغض، الحديث للجميع لا تلتفت إلى الخلف لا تنظر يمنة ويسرى، أنا وأنت من المقصودين.
حقيقة الدنيا أنها متاع الغرور، وأنها ظل زائل، وزيف عما قريب سينقضي، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39].
صلوات الله عليك يا رسول الله، مر -صلى الله عليه وسلم- بشاة أُلقيت وأُهملت، فقال لأصحابه المعلم -صلى الله عليه وآله- قال لأصحابه: "أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟" قالوا: من هوانها ألقوها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه قد أفلح المستغفرون.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.
أما بعد: أيها الإخوة: أسلفت لكم ورأيتم رأي العين، الدماء التي أُزهقت والأرواح التي ذهبت، أرأيتم الكعبة، أرأيتم جلالها وقيامها وعظمتها، أرأيتم هذا المكان التي تقصده الآلاف من الأنفس "لهدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم".
إن الدم المسلم عند الله بمكان كبير، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال المؤمن في فُسحة من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا"، والله -قبل ذلك، وبعد ذلك، ومع ذلك- يقول: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93].
إننا نحتاج أن نثقف أنفسنا بتعظيم حرمات المسلمين لاسيما دمائهم، لا يجوز إراقة دم المرء المسلم إلا بإحدى ثلاث: "الثَّيبُ الزانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّاركُ لِدِيْنِهِ المُفَارِقُ للجمَاعَةِ"، أما أن تذهب الأرواح من أجل أثرة من الدنيا أو حظ، فلا أدري كيف سيكون حساب أولئك عند الله؟!
أيها الإخوة: مع توالي الأحداث كذلك أصيب البعض بإحباط ويأس، وظنوا أنها الساعة، وأنها الحاقة، وتداعوا إلى كتب الفتن والملامح يستخرجون الأحاديث والنصوص والآيات وينزلونها في غير مواضعها في أحايين كثيرة، لغة اليأس حين تسيطر، وساعة الخلاص حين يبحث عنها الناس، حتى ولو في الموت، لا، لقد مر على الأمة أحداث جسام ربما كانت أعظم من الأحداث التي توالت على المسلمين اليوم، قُتل أمير المؤمنين عمر، قُتل عثمان -رضي الله عنه- وهو أمير المؤمنين يوم ذاك، قُتل علي -رضي الله عنه- وأرضاه.
لقد تكالبت أمم الصليب على أمة الإسلام، فاجتاحت العالم الإسلامي، فيما يعرف بالحروب الصليبية، فزع أهل الأندلس بالاجتياح الصليبي، أُقيمت مجازر ومحاكم تفتيش وهُجِّر الآلاف وقُتل عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف.
اجتاح التتار عالمنا الإسلامي، قُتل من قُتل، وأُهدر من تراث الأمة من العلوم ما أُهدر، حتى تغير لون النهر، أحداث جسام وقعت للعالم ولم يكن يعني ذلك للموجودين يوم ذاك أنها نهاية النهايات وأنها علائم قيام الساعة.
من رحم المأساة يولد الأمل، وإذا اشتدت الظلماء واحلولكت، فلا بد أن يبزغ الفجر، والفجر لا يولد إلا بعد أن يتكاثف الظلام.
لذا أطالبك أن تقلب الصورة، وأن تنظر بعين الفأل إلى ما حققته الأمة من الإنجازات.
إن زوال الكيانات التي كانت تستعبد الناس، التي كانت تهدم المنائر وتحارب المحاريب، تقطع صوت القرآن، وتسمح لصوت الشيطان، إن زوالها لهو من الإنجاز العظيم.
إننا مطالبون بالفأل لاسيما في ذكرى هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الأيام حين قطع الطريق إلى المدينة، وكان قد التقى قبل ذلك بستة نفر من أهل يثرب، قلبوا المعادلة، قلبوا الكفة، ستة نفر بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فكتبوا تاريخًا جديدًا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج من مكة وليس معه إلا أبو بكر؛ رجلان في مقابل مكة ورجالها، رجلان في مقابل مكة وأموالها، رجلان في مقابل مكة وعتادها، لكنّ هذين الرجلين معهما الله، لذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"؟!
لقد غيّر النبي -صلى الله عليه وسلم- وجه التاريخ، أفلا يحق لنا بعد ذلك أن نتفاءل؟! ثلاثمائة وبضع عشر رجلاً في بدر أحرزوا قصب السبق في أول موقعة عظيمة شهدها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسجّلوا رقمًا قياسيًّا في وقت لم يكن فيه جينز للأرقام القياسية، رضوان الله عليهم وصلوات الله وسلامه على قائدهم.
دعوة للفأل دعوة للأمل..
اشتَدِّي أزمَةُ تَنفَرِجي | قَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ |
وَظَلامُ اللَّيلِ لَهُ سُرُجٌ | حَتى يَغشَاهُ أبُو السُرُجِ |
وَسَحَابُ الخَيرِ لَهَا مَطَرٌ | فَإِذَا جَاءَ الإِبّانُ تَجي |
وَفَوائِدُ مَولانا جُمَلٌ | لِسُرُوحِ الأَنفُسِ والمُهَجِ |
أسأل الله أن يهلّ علينا العام الجديد باليمن والبركات.
ها قد أهلّ على الوجودِ (مُحَرَّمُ) | فالكونُ يزهو والحياةُ تبسَّمُ |
اللهم اجعله عام خير وبركة على أمة الإسلام، اللهم أهلِّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والنصر والفتح المبين.