المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية - الصلاة |
ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لما جاء، وأين يذهب، ولم يعاني في الحياة ما يعاني، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدًا وحيدًا شريدًا في فلاة.. إن هناك لحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنًا إلى الله، مطمئنًا إلى حماه مهما أُوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد، ففي الحياة أزمات وهموم وابتلاءات وقوارع لا يصمد لها إلا المطمئنون بالله الراكعون الساجدون (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح للأمة وكشف الله به الغمة، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: معاشر الصالحين: نقف اليوم وقفة تذكر وذكرى (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ) [إبراهيم: 5] أيام المنن المؤيدة، والمحن المسددة، والبصائر المرشدة.
نقف مع حدث كان النجم فيه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنه الحدث الفريد الذي لم تشهد الدنيا له مثيلاً، إنها الرحلة السماوية العلوية إلى عالم النور والطهور، عالم الملكوت الأعلى، عالم المشاهدات المتحققة والأنوار المتألقة، إنه الإسراء والمعراج.
وحق للمسلمين أن يقفوا وقفة تذكر واعتبار عند هذا الحدث لكونه عظيمًا في حيثياته، رفيعًا في تجلياته، جليلاً في نتائجه، ويكفي أنه متعلق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو ذكر لله، قال الله: (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ) [الطلاق: 10- 11].
فمن الاعوجاج في أمة المعراج أن تمر هذه الذكرى غريبة في أهلها، ومن البلية أن يهتم بأخبار مغنٍّ ومغنية ولا يلتفت إلى أخبار سيد البرية -صلى الله عليه وسلم-.
ثم إن التعاطي مع الذكريات المجيدة لا ينبغي أن يكون تقليدًا مَتْحَفيًّا خاليًا من أسرار الاعتبار، بل يجب أن يكون تعاطيًا على نحو يجلّي المضامين، ويستخلص الدروس والبراهين، ويعطي الشحنة للانخراط في قضايا العالم بعزة وثبات ويقين على نحو يمد بحقن الإنماء ولقاح الاحتماء.
أيها الكرام: كيف يستوطئ المسلمون العجز وفي أول دينهم تسخير الكون؟! وكيف يستمهدون الراحة وفي صدر تاريخهم عمل المعجزة الكبرى؟! وكيف يركنون إلى الجهل وأول أمرهم آخر غايات العلم "اقرأ"؟! وكيف لا يحملون النور للعالم ونبيهم هو الكائن النورني الأعظم؟!
إنها أسئلة تقض المضاجع، وتسيل المدامع، قصة الإسراء والمعراج -أيها الإخوة- هي من خصائص نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، هذا النجم الإنساني العظيم، هذا النور المتجسد لهداية العالم في حيرة ظلماته النفسية، فإن سماء النفس تظلم وتضيء من داخل الإنسان بأغراضه ومعانيه، والله –تعالى- قد خلق للعالم الأرضي شمسًا واحدة تنيره وتحييه وتتقلب عليه بليله ونهاره، بيد أنه -سبحانه وتعالى- ترك لكل إنسان أن يصنع لنفسه شمس قلبه وغمامها وسحائبها، وما تسفر به وما تُظلم فيه.
ولهذا سُمّي القرآن نورًا لعمل آدابه في النفس: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الإسراء:1].
وقد حار المفسرون في حكمة ذكر الليل في آية الإسراء هذه (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً)، فإن السرى في لغة العرب لا يكون إلا ليلاً، بمعنى إذا قال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) فقط دون أن يذكر الليل لفُهِم أنه ليلاً، يقال في اللغة: سريت وأسريت إذا سرت ليلاً.
وقد جاءت اللغتان في القرآن (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ)، ولعل من الحكم في ذلك أن الإشارة هنا إلى أن القصة قصة النجم الإنساني العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في هذه المعجزة، ويتمم هذه العجيبة أن آيات المعراج لم تُذكر إلا في سورة النجم، وعلى تأويل أن ذكر الليل إشارة إلى قصة النجم تكون الآية برهان نفسها، وتكون في نسقها قد جاءت معجزة من المعجزات البيانية، فإذا قيل: إن نجمًا دار في السماء أو قطع ما تقطعه النجوم من المسافات التي تعجز الحساب، فهل في ذلك من عجيب؟! وهل فيه شك أو نظر أو تردد؟! وهل هو إلا من بعض ما يسبّح الله بذكره؟! وهل يكون إلا آية اتصلت بالآيات التي نراها اتصال الوجود بعضها ببعض؟!
ومن الحِكَم كذلك في ذكر الليل أن الليل هو ميدان مناجاة العابدين، ومحل لذتهم وقربهم، وحتى بالنسبة للمستمع الذي يستمع إلى الآية فيجد ذكر الليل يحصل عنده من نوع من التصور فيلقي ظل الليل الساكن ويخيم جوه الساجي على النفس وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها.
وجاءت في الآية كذلك بالإشارة إلى العبودية (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) بعبده فصفة العبودية هنا -إلى جانب ما فيها من التشريف والتكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم- فيها دعوة كي لا ننسى هذه الصفة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يلتبس عندنا مقام العبودية بمقام الإلوهية كما التبس في بعض العقائد السابقة، وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة من قريب أو بعيد، ويبقى للقرآن الكريم تميزه وتفرده في ذكر القضايا بإيجاز وإعجاز، وفي ذلك تمام الصدق والعدل (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام: 115].
والخلاصة التي تأتي من القصة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان مضجعًا فأتاه جبريل فأخرجه من المسجد فأركبه البراق، فأتى بيت المقدس، ثم دخل المسجد فصلى فيه وصلى بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماوات، فاستفتحها جبريل واحدةً واحدة، فرأى فيها من آيات ربه واجتمع بالأنبياء -صلوات الله عليهم-، وصعد في سماء بعد سماء إلى سدرة المنتهى، فغشيها من أمر الله ما غشيها فرأى -صلى الله عليه وسلم- مظهر الجمال الأزلي ثم زج به في النور، فأوحى الله إليه ما أوحى.
أما وشيها وطرازها فباب عجيب من الرموز والإشارات التي يرمز بها إلى تجسيد الأعمال في هذه الحياة الأعمال تكون تعبًا وتعود فائدة، أو تلتمس منفعة وشهوة، وتقع مضرة وحماقة، ثم تفنى من هذه وتلك الصور الزمنية التي توهمها أصحابها وتخلد الصور الأبدية التي جاءت بها حقائقها.
ومن هذه الرموز البديعة قوله -صلى الله عليه وسلم- "فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة".
رمز مفاده أن الخمر وتعاطيها أمر مجافٍ للفطرة قبل أن يكون أمراً محرماً شرعاً، فما بال المسلمين اليوم أصبحت الخمر أمراً عادياً في حياتهم وأسواقهم وهي أم الخبائث؟!
وأنه -صلى الله عليه وسلم- مر على قوم يزرعون ويحصدون في كل يوم، كلما حصدوا عادت كما كان فسأل ما هذا؟! قال جبريل: "هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تُضاعَف لهم الحسنة سبعمائة ضعف"، ثم أتى على قوم تُرضخ رءوسهم بالصخر، كلما رُضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال ما هذا؟ قال جبريل: "هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة".
رسالة من خلف حُجُب الغيب إلى الذين يتناقلون عن أداء الصلوات، إلى الذين لا يجدون لصلاتهم طعمًا، إلى الذين يصلون في بيوتهم دون عذر ودون مسوغ، رسالة مفادها أن هذا المصير المفزع المؤلم ينتظرهم إن لم يتداركوا أمرهم ويتوبوا إلى ربهم.
ثم أتى -صلى الله عليه وسلم- على قوم بين أيديهم لحم نظيف في قدر ولحم أخر نيّئ في قدر خبيث فجعلوا يأكلون من النيّىء الخبيث ويدعون النظيف فقال: من هؤلاء؟ قال جبريل: "هذا الرجل تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة، والمرأة تكون عند زوجها حلالاً طيبًا فتأتي رجلاً خبيثًا".
ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال: "ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل تكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يحمل عليها".
رسالة إلى الذين يخوضون في حقوق الناس بغير حق، يأكلون الأموال تحت غطاء السلف وتحت غطاء التجارات، وربما تحت غطاء الدَّيْن، رسالة لهم أن يتقوا الله، وأن يعلموا أن رسالة الإسراء والمعراج تتنافى مع هذا اللون الشائب من ألوان المعاملات.
ثم رأى -صلى الله عليه وسلم- نساء معلّقات من ثديهن، فسأل فقال جبريل: "هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال مَن ليس من أولادهم" وفي رواية: "هؤلاء الزناة من أمتك".
ثم رأى -صلى الله عليه وسلم- أقوامًا بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خرّ، سقط، يقول اللهم لا تقم الساعة، قال: وهم على سابلة آل فرعون -على طريقة آل فرعون- فتجيء السابلة فتطؤهم، فسمعهم يضجّون إلى الله تعالى، فقال: "يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: "هؤلاء من أمتك، الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس".
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أسرى بعبده فأصبح الحساد أسرى، ورفع قدره حتى خضع له قيصر وكذلك كسرى، أقامه بالليل من وطئته ودثاره، ورفعه فوق السماوات بقوته واقتداره وأراه ما في جنته وناره، وأوحى إليه ما أوحى من أسراره، ثم أعاده في الليل إلى مسكنه وداره. صلى الله عليه وعلى تبعه وأنصاره ومن تبعه إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: إنها رسائل من خلف الحُجُب لا مرية فيها ولا وهم، تستنهض الهمم وترسخ اليقين، وتذكر المؤمنين أن هذه الدنيا إلى زوال واضمحلال، وأن فوقنا عالمًا عظيمًا لا منتهى لسره ولا إحاطة بكنهه، وأن الأمر قائم على القيام بحق الله، فمن رعى هذا الحق كان من أهل السعادة، ومن غفل وغرته دنياه كان من أهل الخسار والبوار، عياذًا بالعزيز الغفار.
والسعيد هو الذي يتلقى عن الله بصائره ويروح ويغدو في هذه الدنيا وبين عينيه قول ربه (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ) [البقرة: 223].
نعم أيها الأحباب في الأفق الأعلى وفي المشهد الأغلى عند سدرة المنتهى؛ حيث نال الحبيب المشتهَى في تلك الأجواء النورانية والفيوضات الربانية، كان لا بد لزيارة الحب هذه أن تختتم بتحفة الإكرام ومسك الختام، فجاءت فرضية الصلاة رحمةً من الله سابغة وحكمة منه بالغة، وذلك حتى لا ينقطع المعراج أبداً.
أراد الله أن يكرم كل فرد من هذه الأمة المباركة المرحومة بمعراج دائم كمعراج نبيها -صلى الله عليه وسلم- معراج تعرج من خلاله الأرواح إلى ربها، وترتفع لتهرب من عالم الصراع، ومن أسواق الخداع إلى حيث السكينة واليمن والطمأنينة.
ومن لطائف الإشارات في كتاب ربنا أن سورة النجم التي جاء في مطلعها الإشارة إلى المعراج وما عاينه -صلى الله عليه وسلم- من الأنوار والأسرار في ختام هذه السورة تأتي الإشارة إلى سورة الصلاة المتفردة وسلوة القلوب المتعبدة، وهي السجود، قال تعالى في ختام سورة النجم (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم: 62].
خُتمت سور النجم بها كما خُتمت رحلة النجم -صلى الله عليه وسلم- بها بالصلاة.
إنها لصلاة أيها الأحباب أعظم أعمال الإسلام، من حافظ عليها سعد وربح، ومن أضاعها شقي وخسر، فرضها الله على عباده لتكون صلة بحضرته وتذكيرًا بعظمته، وشكرًا له على نعمته، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر علمه، وإن فسدت فسد سائر عمله" (رواه الطبراني).
ومن اللطائف في تلك الرحلة المباركة أنه -صلى الله عليه وسلم- في ذات الليلة في نفس الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وفي نفس الرحلة رأى نماذج من الذين يعذبون بسبب تثاقلهم عن أداء الصلاة في إشارة واضحة إلى أن الصلاة المتقبلة عند الله والتي يحصل بها القرب والإكرام هي صلاة حضور، هي صلاة الشوق، الصلاة التي يناجي فيها العبد ربه ويؤديها تلذذًا بذِكْره وطمعًا في مرضاته.
ومع الأسف أصبحت هذه التحفة الثنية مهدرة مضاعة عند الكثير من المسلمين، فمن المسلمين من يتهاون في أدائها وترًا وشفعًا، ومنهم من ينقرها خفضًا ورفعًا، ومنهم من لا تزيده مع تكرارها إلا بخلاً ومنعًا وهجرًا وقطعًا.
وكل ذلك من أمارات عدم قبولها، قال الله منزها المصلين عن التعلق بالدنايا (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج:19- 23].
ومن اللطائف كذلك أن هذه الآية التي فيها الصلاة ذُكرت في سورة المعارج، فصلاة هذه نتائجها هي معراج دائم لا ينقطع ولا ينقضي.
لذلك فإن من العجب أن تكون من المصلين ثم تقصد الأضرحة والسحرة والكاهنين.
ومن العجب أن تصلي ولا تزكي إن أعطاك الله مالاً.
ومن العجب أن تصلي ثم تأكل الربا، فالصلاة قرب، والربا بُعد وحرب، فكيف يجتمع النقيضان؟!
ومن العجب أن تصلي فتغش، فالصلاة طهارة والغش قذارة، فكيف يجتمع المتباينان؟!
ومن العجب أن تصلي ثم تشهد الزور فالصلاة نور والزور فجور فكيف يجتمع المتضادان؟!
ومن العجب أن تصلي ثم تظلم، فالصلاة سلامة، والظلم ندامة، فكيف يجتمع المختلفان؟! قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)[العنكبوت: 45].
إن الصلاة –أي: المتقبلة- التي تدل على قرب صاحبها واتصاله هي التي تدفعه دفعًا نحو ربه، هي التي تكرهه وتبغضه في المعاصي، هي التي تملأ قلب صاحبها خشوعًا وإجلالاً لمقام الله، هي التي تجعل صاحبها رحمة بين الناس أينما حل وارتحل.
نعم أيها الأحباب الكرام! إن الصلاة هي تحفة الذكرى وهدية البشرى، وطريق اليسرى، تلقاها رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عن ربه في أعلى وأسمى مقام في مقام تنتهي عنده علوم الخلائق، وتتجلى فيه مظاهر الحقائق.
إن لحظة الصلاة -أيها الأحباب- هي لحظة اتصال بالله، لحظة شهود لجلاله، لحظة انطلاقًا من حبسة هذه الأمشاج ومن ثقل الأرض وهمومها القريبة، لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري، ومضة من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار، لحظة إشراق تنير فيها الروح بقبس من روح الله.
إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تحصل للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء ليتضاءل إلى جوارها كل متاع وكل رجاء، فكيف برضوان الله يغمر هذه الأرواح، وتستشعره بدون انقطاع؟! فليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يُحْرَمُون طمأنينة الأنس إلى الله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتور الصلة بما حوله في الكون أنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الكون المسبح الساجد.
ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لما جاء، وأين يذهب، ولم يعاني في الحياة ما يعاني، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدًا وحيدًا شريدًا في فلاة.
إن هناك لحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنًا إلى الله، مطمئنًا إلى حماه مهما أُوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد، ففي الحياة أزمات وهموم وابتلاءات وقوارع لا يصمد لها إلا المطمئنون بالله الراكعون الساجدون (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28] (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه: 14].
أيها الأحباب: إن رحلة الإسراء والمعراج رحلة عظيمة أراد الله من خلالها إبراز مكانة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإكرام أمته، وإظهار رحمته، وتسلية فؤاد حبيبه -صلى الله عليه وسلم- بعد ما عاناه من موت الأحباب وهجر الأهل وأذى الناس، رحلة سماوية طاهرة علوية قال تعالى عن رسوله (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) [النجم: 7].
وهذه الآية تشعر بالعزة وتبعث على الإحساس بالفخر والكرامة، وتدعو هذه الأمة المحمدية إلى أن تكون دائمة التألق علوية التعلق لا شرقية ولا غربية التملق.
تستمد العزة من ربها، ولا تنبطح لأعدائها، تتخذ قراراتها بنفسها؛ إذ هي أمة العلو والأعلى لا يليق به النزول والتردي.
رحلة الإسراء والمعراج تعلمنا العزة والكرامة؛ إذ إن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في هذه الرحلة فاق مقام الأنبياء بل وحتى الملائكة، ووصل إلى مقام لم يصله أحد أبداً، فلماذا تتخلف أمته إذاً وتنبطح أمام الأمم الأخرى؟! ولماذا تتلقى التعاليم من غيرها بدلاً من أن تتلقاها من رب العالمين؟!
رحلة الإسراء والمعراج تعلمنا الثبات واليقين وتدعونا إلى عدم اليأس والقنوط، فقد جاءت هذه الرحلة بعد معاناة لقاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأذى تعرض له من قومه فمسح الله عنه العناء وأعلمه بمقامه وكذلك أمته ينبغي ألا تيأس، وإن انتصر الباطل ساعة، وإن أصبح المكر هو البضاعة، عليها أن تعلم أن الله غالب على أمره وناصر دينه، وأنه في لمحة بصر تتغير الموازين وتتبدل الأحوال قال تعالى (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر:50].
اللهم أصلح أحوالنا..