الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المعاملات |
ومن مظاهر الجور في الوصية: أن يوصي بحرمان الإناث من الميراث، وهذه ظاهرة جاهلية منتشرة في كثير من الأماكن، يعتبرون المرأة لا حظ لها في الميراث وليس لها منه شيء، وهذا حيف عظيم وجور كبير...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أمر بالوصية، وحذر من الجور والظلم، الذي خلق الموت والحياة؛ ابتلاء لعباده واختباراً فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه فقد أبى الطريق السوية، والصلاة والسلام على خير الأنام، خير من أوصى وصلى وصام، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الأعلام، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131].
عباد الله: لقد شرع الله -تبارك وتعالى- لنا الوصية، وأمرنا بها، وحثنا على أن نوصي بما نريد أن نوصي به قبل أن يفاجئنا الموت، وقبل أن يأتينا بغتة فنخرج من الدنيا وقد حرمنا من الوصية فيما نريد أن نوصي به. يقول الله -تبارك وتعالى- وهو يؤكد لنا وجوب الوصية والأمر بها، (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة:180]، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) [المائدة:106]. ففي هاتين الآيتين أمر واضح بوجوب الوصية، وأنها مفروضة مكتوبة علينا مما يدل على وجوبها، ثم أكد هذا الوجوب وربطه بموجبات التقوى فقال: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).
واليوم نريد أن نتكلم عن موضوع مهم يتعلق بموضوع الوصية، موضوع خطير جداً يقع فيه بعض الناس؛ إما عمداً وتعنتاً، وإما جهلاً وحماقة، إنه موضوع الجور في الوصية، وصور ذلك الجور ومظاهره، وارتباطه بسوء الخاتمة والعياذ بالله.
لقد نهى الله -تبارك وتعالى- عن الجور في الوصية والإضرار فيها، والحيف على الورثة وظلمهم، فقال -مبيناً ما يستحقه كل وارث وحرمة الإضرار به-: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [النساء:12]، ومعنى غير مضار أي دون أن يضر بالوصية أو الدَّين أحداً من الورثة.
كما يجب أن نعلم أن الجور في الوصية والإضرار فيها دليل واضح على سوء الخاتمة؛ لأن الإنسان حينما يكون في آخر لحظات عمره مودعاً لهذه الدنيا يجب عليه أن يكون في تلك اللحظات أقرب الناس إلى الله، وأبعدهم عن كل معصية ولو كانت صغيرة من صغائر الذنوب؛ فكيف بمن يكون في تلك اللحظات الوداعية مرتكباً لأشنع الذنوب وأعظمها وهو الظلم الذي حرمه الله ونهى عنه وتوعد أهله في كثير من الآيات في كتابه العزيز؟! يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111]. فأي خسران وخيبة سيجدها من يحمل الظلم ويرتكبه في آخر لحظات حياته ويختم له به؟.
وحذرنا ربنا -سبحانه وتعالى- من هذا النوع من الجور والظلم، ونهى نهياً شديداً عن الإضرار في الوصية والحيف فيها، فقال: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) [النساء:9]. يقول عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة -رحمه الله- عَنْ اِبْن عَبَّاس -رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية : "هَذَا فِي الرَّجُل يَحْضُرهُ الْمَوْت فَيَسْمَعهُ رَجُل يُوصِي بِوَصِيَّةٍ تَضُرّ بِوَرَثَتِهِ، فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى الَّذِي يَسْمَعهُ أَنْ يَتَّقِي اللَّه وَيُوَفِّقهُ وَيُسَدِّدهُ لِلصَّوَابِ فَيَنْظُر لِوَرَثَتِهِ كَمَا كَانَ يُحِبّ أَنْ يُصْنَع بِوَرَثَتِهِ إِذَا خَشِيَ عَلَيْهِمْ الضَّيْعَة وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَغَيْر وَاحِد" [ابن كثير ( 3/ 364)].
أما رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فقد نهى عن ذلك، وبيّن أن الموصي يجب عليه أن يوسّع على ورثته ويدعهم أغنياء، لا أن يظلمهم ويفرق أمواله بين غيرهم ويتركهم فقراء يتكففون الناس، يقول سَعْد بْنِ أَبِى وَقَّاص -رضى الله عنه-: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِى عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَي مَالِي قَالَ: "لاَ" . فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ. فَقَالَ: "لاَ". ثُمَّ قَالَ: "الثُّلُثُ وَالثُّلْثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فِيَّ امْرَأَتِكَ" [البخاري:1295، مسلم:4296].
عباد الله: ولقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- بصريح العبارة أن الجور في الوصية علامة من علامات سوء الخاتمة، ومن موجبات دخول النار فقال: "إن الرجل ليعمل بطاعة اللّه سبعين سنة ثم يحضره الموت فيضار في الوصية فتجب له النار" [أحمد].
عباد الله: إن صور ومظاهر الإضرار في الوصية كثيرة وعديدة ومن أشهرها:
أن يوصي الموصي في وصيته بحرمان بعض الورثة من الإرث، ويطلب منهم أن لا يعطوا فلانا وفلانا شيئاً من تركته، وهذا أعظم الحيف وأكبر أنواع الظلم في الوصية؛ لأن هؤلاء الذين أوصى بمنعهم وحرمانهم قد أعطاهم الله وقسم لهم؛ فكيف يأتي هذا الموصي ويوصي بحرمانهم وقد أعطاهم الله؟ إنه التألي على الله والتعالي على أحكامه، والكبر والحسد والشحناء والبغضاء.
عجباً له لا يزال الحقد يغلي في قلبه حتى في تلك اللحظات التي من المفترض فيها أن يسامحهم ويطلب عفوهم ويعتذر لهم، إلا أن هذا القلب الغليظ القاسي الذي لا يقدر الله حق قدره، ولا يحسب لليوم الآخر حسابه لم يقدر ذلك الموقف، ولم يذعن حتى في تلك اللحظات الحرجة وهو يودع هذه الدنيا الدنيئة الحقيرة، ويستقبل الآخرة الباقية الثقيلة؛ فأي خاتمة سيجدها من يوصي بهذه الوصية؟ وكيف سيقابل الله وقد تعالى على حكمه ومنع من لهم حق من التركة؟ فما أتعس خاتمته وما أعظم حرمانه!!
وللعلم فإن مثل هذه الوصية لا تجوز ولا يجوز تنفيذها، إذ لا يجوز لأحد أن يوصي بإلغاء أمر لزمه شرعاً، وهذه الوصية لا تجوز شرعاً لأنها مصادمة لنصوص الشريعة فلا يعمل بها، ولا يجوز تمريرها ولا تطبيقها.
ومن مظاهر الجور في الوصية: أن يوصي بحرمان الإناث من الميراث، وهذه ظاهرة جاهلية منتشرة في كثير من الأماكن، يعتبرون المرأة لا حظ لها في الميراث، وليس لها منه شيء، وهذا حيف عظيم وجور كبير، وكأنهم لا يقرأون القرآن الذي يقول: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) [النساء:7]، ومن يوصي بحرمانهن فإنه قد عارض القرآن واعترض على أمر الله، ومن يعترض على أمر الله فإن خاتمته سيئة -والعياذ بالله- وما سيلقاه بعد موته أخزى وأسوأ.
ومن مظاهر الجور في الوصية: أن يوصي الشخص بأمور لم يأمر بها الله، ولم يفعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يأمر بها أصحابه الكرام -رضي الله عنهم-؛ كأن يوصي الإنسان بإقامة بعض المحدثات البدعية عند موته، أو فعل بعض الطقوس الشركية عند قبره. وهذا -والله- أعظم دليل على سوء خاتمة هذا الشخص، بدلاً من الموت على التوحيد والسنة والوصية بهما، يموت -والعياذ بالله- وهو يوصي بإقامة الشركيات وإحياء البدع والخرافات مخالفاً قول الله -سبحانه وتعالى- (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133]. فنبي الله إبراهيم -عليه وعلى نبينا أزكى الصلاة والتسليم- يوصي أبنائه عند موته بالتوحيد والانقياد والطاعة، وهذا يوصي بعكس ذلك تماماً؛ فهل سمعتم بخاتمة سيئة كهذه؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي العزة والجلال والعظمة والكمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يصرف الشؤون والأحوال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى الآل، وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين والمآل.
أيها المسلمون: ومن مظاهر الجور في الوصية: أن يوصي لوارث؛ لأنه لا وصية لوارث أبدًا، فالله قد أعطى الورثة حقوقهم، وبيّن أنصبتهم وحظوظهم، فلا يجوز لأحد أن يُوصي لورثته.
إن بعض الناس يفعل ذلك بقصد الإضرار بالورثة الآخرين، مما يترتب عليه بعد ذلك مشكلات عويصة وإشكاليات عريضة بسبب وصيته الظالمة هذه، فيخرج من الدنيا -وللأسف الشديد- وقد فتنهم، وتسبب في إلهاب قلوبهم بالبغضاء والشحناء. روى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" [الترمذي:2120].
فاتقوا الله -عباد الله- واجعلوا وصاياكم كما شرع الله، ولا تتعدوا حدود الله، وإياكم والظلم والجور في الوصية؛ فإنه المهلكة والخاتمة السيئة، نسأل الله أن يجنبنا ذلك، ونسأل الله لنا ولكم خاتمة الإحسان.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.