الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إننا نجد اليوم بعض الرجال يحرم المرأة من نصيبها بوسائل مختلفة وبأساليب شتى، فبعضهم يمنعها حقها بأسلوب الترهيب، كالتهديد والوعيد، أو بإجْبَارها على التنازل عن ميراثها، أو بالتحايل عليها لإسقاط حقها بما يسميه عامة الناس (إرضاء الأخوات) زورًا وبهتانًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي قسم الميراث بنفسه وهو أعدل من قسم، وهو الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في عبادته وهو أعلم وأحكم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أصدق البرية لساناً، وأعلاها مقاماً، وأعظمها شأناً، -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم-.
أما بعد:
عباد الله: لقد أنزل الله في كتابه آيات المواريث، بيّن فيها كيف يقسّم المال الذي خلفه الميت بين ورثته؟ ومن يعطى منه ومن لا يعطى؟ يقول الله -سبحانه وتعالى-: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) [النساء : 7]، ويقول: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء : 176]، وقال: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء : 11].
عباد الله: لو ألقينا نظرة عامة على هذه الآيات الكريمة لوجدنا أن الله -سبحانه وتعالى- يذكر في قسمة الميراث الرجال والنساء، فمثلما أن للرجال نصيب من الميراث فكذلك للنساء نصيب منه، ولسن محرومات من الإرث كما كان يفعل أهل الجاهلية الذين يورثون الرجال ويمنعون النساء من الميراث.
بل إن الله - سبحانه وتعالى- فصل في الآية الثانية والثالثة ما تستحقه المرأة، فبيّن كم تعطى الأخت؟ وكم تستحق الأم؟ وكم لهن في حال الانفراد؟ وكم لهن في حال الجمع إذا كن أكثر من واحدة؟.
بعد هذا كله -ياعباد الله- نرى أن هذه العادة الجاهلية القبيحة لا تزال موجودة في عصرنا هذا، بل ويتفاخر بعض الجهلاء بها، ويدّعون أن هذا من كمال رجولتهم ومن محافظتهم على نخوتهم وسمعتهم، ويرون أن المرأة لا تستحق الإرث، ولا تعطى من الميراث شيئاً لا قليلاً وكثيراً.
وهؤلاء في الحقيقة قوم عارضوا أمر الله، وصدوا بعاداتهم وسوالفهم أحكامه، واعترضوا على دعوته إلى إعطاء المرأة حظها ونصيبها من الإرث الذي أكده الله فقال: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا) [النساء : 7]. وهناك فريق آخر من الناس -وهم من نريد اليوم أن نركز حديثنا عنهم- أعطوا المرأة من الميراث، لكنهم لم يعطوها منه في كل الأشياء، وإنما يعطونها منه في بعض الأشياء دون بعض. يعطونها من بعض التركة التي خلفها الميت، لكن هناك أمور خلفها ومات وتركها هي في نظرهم تقسّم للرجال وحدهم دون النساء، وليس للمرأة منها حظ ولا نصيب.
وهؤلاء في الحقيقة لا فرق بينهم وبين أولئك إلا فرق يسير، فأولئك ردوا حكم الله بالكامل واعترضوا عليه كله، وهؤلاء حكمّوا عقولهم وأهواءهم فأعطوها من أشياء يرون بعقولهم القاصرة أنها تستحقها ويمكن صرفها لها، لكن هناك أشياء -في نظرهم- لا تستحقها ولا تعطى شيئاً منها وإن كان الله -جل وعلا- قد قرر أنها تعطى منها، فالله قد أمر بإعطائها من كل شيء من التركة وليس من شيء دون شيء.
عباد الله: لقد فسر العلماء قول الله -سبحانه وتعالى-: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) بأن للذكور من أولاد الرجل الميِّت حصة من ميراثه، وللإناث منهم حصة منه، من قليل ما خلَّف وكثيره، حصة مفروضة واجبةٌ معلومة.
وَقد أَفْرَدَ -سُبْحَانَهُ- ذِكْرَ النِّسَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّجَالِ، وَلَمْ يَقُلْ: لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نُصِيبٌ، لِلْإِيذَانِ بِأَصَالَتِهِنَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَدَفْعِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ، ثم قال: (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) لئلا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير أما القليل فلا شيء لهم فيه، فأزال ذلك اللبس الذي قد يقع في الأذهان بقوله: (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ). [بتصرف من تفسير الشوكاني والسعدي ].
أيها الناس: إن الله -تبارك وتعالى- قسم للمرأة ميراثاً معلوماً محدداً حددته تلك الآيات القرآنية، وفصلته الأحاديث في السنة النبوية، فيجب أن تعطى المرأة حقها ونصيبها من كل ما خلفه الميت، من أموال، ودور، ومتاع، وذهب، وفضة، وتجارة، وسلاح، وغيره، ولا يجوز أبداً أن يقسم لها من جزء من هذه الأمور، وأمور أخرى نحكم فيها بأنه لا نصيب لها فيه.
فهناك أناس يعطون المرأة من الميراث في جانب المال فقط -أي الدراهم-، وأما في البيوت فلا يعطونها شيئاً، لأنها -في نظرهم- إما أنها متزوجة وهي موجودة في بيت زوجها ولذلك فلا شيء لها في بيت مورثها، أو أنها بنت وستتزوج وستذهب إلى بيت زوجها، وينسون أن الله - سبحانه وتعالى- قد حكم لها في كل شيء.
وهناك أناس يقسمون قسمة ضيزى، فيرون أن الذهب والفضة يعطى للنساء، وأما الأموال النقدية وعروض التجارة فهذه للرجال ولا نصيب للنساء منها، وهذا أيضاً حكم باطل لم يشرعه الله ولم يأمر به، وإنما أمر بقسمة التركة كلها على كل الورثة، كل على حسب نصيبه المقدر المفروض له.
وأما في المجتمعات الريفية والقبلية فحدث ولا حرج عن الاستهانة بحق المرأة في الميراث، فإما أنهم لا يعطونها شيئاً في الغالب، وإما أن يعطوها من المال فقط، أما الزراعة والسلاح والتجارة فهذه للرجال دون غيرهم. بل يرون أن إعطاء المرأة من الأراضي الزراعية أو من السلاح عيب في حقهم ومنقصة لهم، لأنها إذا قُسم لها فيه فإنها ستأخذه إلى بيت زوجها، وبالتالي فإنه يكون لغيرهم وليس لهم، وكأن بينهم وبين أصهارهم فروقات وحواجز، ونسوا أنهم أعطوهم عرض بنتهم وشرفها ثم يمانعون من إعطائهم قطعة أرض ربما تكون مكفهرة لا زرع فيها ولا ماء!!.
تقول أحد النساء: أنتمي لعائلة مترفة، ترك لنا والدنا مالاً كثيرًا من شركات وعقارات وأموال في البنوك، وأنا ابنته الوحيدة مع أربعة رجال، وعندما تُوُفي الوالد طلب مني أخي الأكبر أن أُوَقِّعَ له أوراقًا لكي يدير الثروة، وكان يخصص لي راتبًا شهريًّا.
مضت بي الحياة، وبعد عشرين عامًا كبر أولادي وبدأوا يسألونني عن حقي في الميراث، ولماذا لم آخذه بالكامل من البداية، وكان موقفي صعبًا، فماذا سأقول لأخي، وتحت إلحاح الحاجة طلبت منه ميراثي، ففوجئت بأنه ينفي أي حقوق لي ويقول: إنني تنازلت له عن حقي بموجب توكيل عام!!.
لم أصدق أن أخي فعل ذلك بي وبميراثي الذي يقدر بالملايين، وكان أهون عليَّ أن أموت ولا أشتكي أخي في المحاكم، لكن لماذا يتمتع أبناؤه بمال أبي ويحرم منه أبنائي؟.
عباد الله: أليس هذا ظلم كبير، وحرمان واضح، واستحواذ وأثرة من قبل هؤلاء الرجال الذين أخذوا المال كله واستأثروا به، وأعطوا لأختهم راتباً يسيراً لا يساوي شيئاً من تلك التجارة الضخمة التي خلفها لهم أبوهم، وتركوها تكابد الفقر والحرمان هي وأولادها، وتنكروا لها, وهم يظنون أن إعطاءها هذا الراتب المقطوع المؤقت يكفيها؟ فإلى الله المشتكى.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة | على النفس من وقع الحسام المهند |
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء : 1].
قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد, صلى الله عليه وآله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وبعد:
أيها المسلمون: إننا نجد اليوم بعض الرجال يحرم المرأة من نصيبها بوسائل مختلفة وبأساليب شتى، فبعضهم يمنعها حقها بأسلوب الترهيب، كالتهديد والوعيد، أو بإجْبَارها على التنازل عن ميراثها، أو بالتحايل عليها لإسقاط حقها بما يسميه عامة الناس (إرضاء الأخوات) زورًا وبهتانًا، وبعضهم يستخدم معهن أسلوب الترغيب، فيعدها بأنه سيعمل لها وسيفعل إذا أخذت من بعض التركة وتنازلت له عن الباقي، وهؤلاء لا شك أنهم آثمون ومعطّلون لحكم الله في هذه القضية، ومتعدون على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وآكلون لأموال الناس بالباطل.
ولذلك تجدهم عندما يحصرون ميراث المتوفى لا يذكرون العقارات، والعمائر، والأراضي، والأسهم، والمزارع إلا لهم، أما الأم والبنت المتزوجة مثلاً؛ فلا يذكرونهن ضمن قسمة هذه الأشياء، زعما منهم أنَّ أمهم أو ابنتهم المتزوجة لا ترث في هذه الأمور.
وبعضهم يريد نفسه أعقل من هؤلاء فيعطيهن من القسمة في هذه الأشياء، لكنه يعطيهن بشرط أن لا تبيعها ولا تهبها لأحد، وإنما تكون لها دون حق التصرف فيها، وهذا أيضاً خطأ فاحش، فإن من حقها أن تبيعها أو تهبها، لأنه أصبح حقها ومالها ولها حرية التصرف فيه، فهي حرَّة التصرف في مالها وأرضها التي امتلكَتْها بِحَدّ الله وحكمه، يقول الله -سبحانه وتعالى- بعد ذكر آية المواريث: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) [النساء 13: 14].
وبعض الآباء -هداهم الله- يتفقون مع أبنائهم الذكور على إبرام عقود بيع صورية لعقارات أو منقولات من التركة تحت ستار البيع بهدف حرمان البنات من الإرث أو بعضه، ومثل ذلك لا يجوز لما يتضمنه من الكذب المفضي إلى أكل المال بالباطل؛ ولذا فإنه متى ثبت صورية ذلك البيع فإن العقد يبطل فلا ينتقل الملك ولا يترتب عليه شيء مما يترتب على البيع الصحيح، ويجب دخول المباع صورياً في الميراث.
وبعض الرجال يتعمد إخفاء بعض الأشياء كالأسهم والسيارات والعقارات المملوكة ونحوها، يخفونها عن النساء اللواتي يشاركنهم في الإرث، ثم يتحايلون عليهن انطلاقاً من مبدأ الثقة أو جهل المرأة في التصرف، أو تحت سيف الحياء وذريعة اللوم والتوبيخ إن هي أخذت حقها من هذه الأشياء التي يرون أنها ستذهب إلى زوجها وأهله، ولاشك أن مثل تلك الحجج حجج سخيفة ومحرمة يريدون أن يبطلوا بها شرع الله -سبحانه وتعالى-. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" [البخاري (2452) مسلم (1612)].
فاتقوا الله -عباد الله- واعطوا النساء حظهن ونصيبهن من كل التركة التي خلفها الميت، وإياكم ثم إياكم أن تعطوهن أشياء وتمنعونهن أشياء أخرى، فإنه الظلم والتعدي على حدود الله، وتعريض الميت للسؤال والحساب عن ذلك إن كان يعلم بوقوعه ولم يوصِ بإعطائهن من كل ما يملك.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم ربكم -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه.
اللهم إنا نعوذ بك من الظلم والظالمين ونسألك اللهم أن تجعلنا من العادلين المقسطين.
اللهم من ظلم من بناتنا أو أخواتنا أو أمهاتنا المسلمات فأكل ميراثها ومنع عنها مالها اللهم رد إليها مالها ومكنها من حلالها واهد وليها وقيومها يا رب العالمين.