الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | الشيخ د عبدالرحمن السديس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - أهل السنة والجماعة |
في ظلِّ عالمٍ يمُوجُ بالفتنِ والاضطِراب، ويطفَحُ بالفِرقِ والانتِماءات والطوائِف والجماعات والأحزاب التي اختطَفَت مفاهيمَ الإسلام، وشوَّهَت صورتَه المُشرِقة، كلٌّ يدَّعِي الحقَّ واحتِكارَ الحقيقة. يحتاجُ المرءُ إلى تلمُّس طريق النجاة، ولن يجِدَه إلا حيث كان السلَفُ الأخيار، والجِلَّةُ الأبرار.. وإن الناظِرَ إلى منهَجِ سلَفنا الصالِح - رحمهم الله - يُلفِي معالِمَ وخصائِص تميَّز بها هذا المنهَج الشامِخ الأشَمُّ، لم يُشارِكه فيها منهجٌ من المناهِجِ الأخرى.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونتوبُ إليه ونستغفرُه، نحمدُه تعالى حمدًا لم يزَل مِدرارًا وكَّافًا، ونشكُرُه - سبحانه - على ترادُف نعمائِه شُكرًا يتوالَى أضعافًا.
الحمدُ لله حمدًا لا يُقاوِمُه | تحميدُ حمدٍ ولا تحميدُ حمَّادِ |
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قدَّر الأزمان وآلفَها إيلافًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ البريَّة أخلاقًا وأعطافًا، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه صلاةً مُضاعفةً أضعافًا، والتابِعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله ربَّكم - تبارك وتعالى - واشكرُوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه. اشكرُوه على نعمِه الباطِنةِ والظاهِرة، وعلى آلائِه المُتوافِرة المُتكاثِرة؛ تفوزُوا بخيرِ الدنيا ونعيمِ الآخرة.
الشكرُ يفتحُ أبوابًا مُغلَّقةً لله | فيها على من رامَه نِعَمُ |
فبادِر الشكرَ واستغلِق وثائِقَه | واستدفِعِ اللهَ ما تجري به النِّقَمُ |
أيها المسلمون: في هذه الآناء المُبارَكات تُودِّعُ أمَّتُنا الإسلاميةُ عامًا قد مضَى وتولَّى، وتستقبِلُ آخر وافَانا بالنَّسَماتِ وتدلَّى.
عامٌ انقلَبَ بما لَنا وما علينا في مطاوِيه .. وآخر استهلَّ شاهِدًا على مُضِيِّ الدهرِ في تعادِيه .. فاللهم نسألُك أن تُبارِك للأمةِ فيما قدَّرتَ فيه، وأن تجعله عامَ خيرٍ وبركةٍ وعزٍّ ونصرٍ وتمكينٍ للإسلام والمُسلمين.
عامٌ أهابَ به الزمانُ فأقبَلا | يُزجِي المواكِبَ بالأهِلَّة حُفَّلا |
أسَرَ الحوادِثَ فهي في أحنائِهِ | تأتي وتذهبُ في الممالِكِ جُوَّلا |
معاشر المُسلمين: في تعاقُبِ السنين بالأُفُولِ والارتِحال .. وإشراقَة الأعوامِ بالبِشر والاستِهلال، تنزِعُ الأنفُسُ الحَصيفَةُ ولا بُدَّ إلى وقفَات التقييم والمُحاسَبات، والتقويم والمُراجَعات. وهذا دَيدَنُ المُسلم الأرِيبِ اللَّوذَعيِّ .. ومنهج اللِّقبِ الأحوَذِيِّ.
ومع إطلالَةِ عامِنا الهِجريِّ الجديد، الراسِمِ في الأُفُقِ إشراقةَ التفاؤُل المبثُوث بلآلِئ الأمَلِ المبعُوث، حرِيٌّ بذي النُّهية والكَياسَة أن تكون له رُؤيةٌ لآفاقِ الأمة ثاقِبةٌ واضِحةٌ، ومُعالجةٌ لفَرَطاتِ الماضِي فطِنةٌ راجِحة، وتطلُّعاتٌ لسَنَئَات المُستقبل بمزيدِ الحَزم وصادِقِ الأفعال ناضِحة.
عامٌ أطلَّ على الأنامِ جديدُ | فلكلِّ قومٍ في البَسِيطةِ عيدُ |
حيَّتْهُ حينَ أطلَّ آمالُ الورَى | ولكَم صبَونَ إليه وهو بعيدُ |
أمة الإيمان: الارتِباطُ التأريخيُّ الوثيق، والانتِماءُ الحضاريُّ العريق يُؤكِّدُ أنه ليس غيرُ العقيدة الصحيحة جامِعًا للعِقد المُتناثِر، ومُؤلِّفًا للشَّتاتِ المُتناكِر، وناظِمًا للرأي المُتنافِر.
فهل تعِي الأمة بعد التمزُّق المُزرِي، والتخلُّف المُخزِي، والتِّيهِ في الأنفاقِ المُظلِمة، وسرادِيبِ الغوايةِ المُعدِمة أن طوقَ النجاة المُوصِّلَ إلى برِّ الأمان يكمُنُ في لُزومِ المنهَجِ السلفيِّ القويم، منهج القرون المُفضَّلة؟!
في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيرُ الناس قرنِي، ثم الذين يلُونَهم، ثم الذين يلُونَهم».
وإن من المُؤلِمِ حقًّا أن نرَى أقوامًا من أبناءِ المِلَّة في أعقابِ الزمن قد فرَّطوا فيما كان عليه منهجُ السلَف الصالِح، فاستقَوا كثيرًا من المزالِّ من مشارِبِ أهل الزَّيغِ والضلال، وخالَفُوا الأسلافَ النُّجَباء، ومنهجَهم البيِّن الوضَّاء، فنصَبُوا أشرِعَتَهم صوبَ العولَمة والتغريب، والنَّيل من ثوابِتِ الدين، ومُحكَمات الشريعة.
وآخرين أُشرِبُوا فِكرَ الغُلُوِّ والتكفير، والعُنفِ والتفجير، والقتلِ والتخريبِ والتدميرِ، وغير ذلك من الطوامِّ الذي يتبرَّأُ منها كلُّ مؤمنٍ مُوحِّد، ويتَّصِفُ بها الخوارِجُ الغُلاة.
قُل لمن أرجَفُوا وعاثُوا فسادًا | مثلُكم في حياتِنا لا يُعدُّ |
ما أباحَ الإرهابَ قومٌ سِواكُم | ولأنتُم ممن أباحَ أشدُّ |
معاشر المُسلمين: وفي ظلِّ عالمٍ يمُوجُ بالفتنِ والاضطِراب، ويطفَحُ بالفِرقِ والانتِماءات والطوائِف والجماعات والأحزاب التي اختطَفَت مفاهيمَ الإسلام، وشوَّهَت صورتَه المُشرِقة، كلٌّ يدَّعِي الحقَّ واحتِكارَ الحقيقة. يحتاجُ المرءُ إلى تلمُّس طريق النجاة، ولن يجِدَه إلا حيث كان السلَفُ الأخيار، والجِلَّةُ الأبرار.
وإن الناظِرَ إلى منهَجِ سلَفنا الصالِح - رحمهم الله - يُلفِي معالِمَ وخصائِص تميَّز بها هذا المنهَج الشامِخ الأشَمُّ، لم يُشارِكه فيها منهجٌ من المناهِجِ الأخرى.
وأولُ معلَمٍ من معالِمه: العنايةُ بالتوحيد، التوحيد الخالِص لله تعالى، فلا أندادَ ولا شُركاء، ولا أمثالَ ولا نُظَراء، قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة: 5]، وقال - سبحانه -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
ومع ما للتوحيد من مكانةٍ جُلَّى، فإن الحِفاظَ عليه وتحقيقَ شُروطِه ومُقتضيَاته، لاسيَّما في مجال التطبيق وميادين العمل وساحات المواقِف، يُعدُّ المقصِدَ الأعظمَ في الحياة كلِّها؛ إذ أعظمُ مقاصِد الشريعة الغرَّاء: حِفظُ الدين وُجودًا وعدَمًا، وحِراسةُ العقيدة من كل ضُروبِ المُخالَفات، وأنواعِ الشِّركِ والبِدَعِ والمُحدثَات.
إخوة التوحيد: ومن هذه المعالِم الوضَّاءة: الردُّ إلى القرآن والسنة في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، بعلمٍ وبصيرةٍ، (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59].
وردُّ المُتشابِه للمُحكَم، والمُجمَل للمُبيَّن، في مُوائَمةٍ بين ظواهِر النصوص ومقاصِدها، والمعقُول والمنقُول. وهذا معلَمٌ بارزٌ في منهَج السلَف وحياتِهم؛ فكلُّ ما وافقَ الكتابَ والسنةَ أثبَتُوه، وكلُّ ما خالَفَ القرآنَ والسُّنَّةَ أبطَلُوه.
فهم لا يعدِلون عن النصِّ الصحيح، ولا يُعارِضُونَه برأيٍ ولا معقول، ولا يُحكِّمون على نصوص الوحيِ العقول، لسانُ حالِهم:
تمسَّك بحبلِ الله واتَّبِعِ الهُدَى | ولا تكُ بِدعيًّا لعلَّك تُفلِحُ |
ودِن بكتابِ الله والسُّنَن التي | أتَت عن رسولِ الله تنجُو تربَحُ |
إخوة الإسلام: ومن المعالِم اللألاءَة لمنهَج سلَفنا الصالِح - رحمهم الله -؛ شعيرةٌ من أخصِّ خصائِصِهم، بل سِمةٌ بارِزةٌ من سِماتِ منهَجهم الأغرِّ، إنها: شعيرةُ لُزوم الجماعة، وما تقتضِيه من السَّمع والطاعة، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
قال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "حبلُ الله هو الجماعة".
وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن تجتمِعَ أمَّتي على ضلالة، فعليكم بالجماعة؛ فإن يدَ الله على الجماعة»؛ (أخرجه الترمذي).
وفي الأثر عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - أنه خطبَ الناسَ فقال: "إن الذي تكرَهون في الجماعة خيرٌ مما تُحبُّون في الفُرقة".
وقال الإمامُ الطحاويُّ - رحمه الله -: "ونرى الجماعةَ حقًّا وصوابًا، والفُرقةَ زيغًا وعذابًا".
ويقول شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ثم إن الاعتِصامَ بالجماعة والائتِلاف من أصول الدين".
فالسلَفُ - رضي الله عنهم - ومن سارَ على دربِهم وهُداهم على الجماعة والحقِّ يأتلِفون، ولوُلاتهم سميعُون مُطيعُون، وما ذاك إلا امتِثالاً لما قصَدَه الشارِعُ من تحقيقِ المصالِح وتكميلِها، ودرءِ المفاسِدِ وتقليلِها، مع صيانةِ وتعظيمِ أمر الدماء المعصومة، وعدم استِباحتها.
فيا إخوة الإسلام: يا أهل المُعتقَد الصحيح .. والمنهَج اللاحِبِ الصريح! استشعِروا جلالَ الأُلفَة والجماعة، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
وخيرُ الأمور السالِفاتُ على الهُدى | وشرُّ الأمور المُحدثَاتُ البدائِعُ |
إخوة العقيدة: إن الدعوةَ إلى اتِّباع فهم سلَفنا الصالِح - رضي الله عنهم -، واقتِفاء منهَجهم ليست دعوةً إلى التخلُّف والرَّجعيَّة؛ بل هي دعوةٌ إلى المنهَج الأسمَى والطريقِ الأسنَى، وهي: لُزوم الحق، والرحمةُ بالخلق، وهي الأعلمُ والأحكَمُ والأسلَمُ.
فالسلفيَّةُ الحقَّةُ ليست حِزبيَّةً ولا عصبيَّة، ولا مذهبيَّةً ولا طائِفيَّة؛ بل منهجٌ مُتجدِّدٌ بطبعِه، وعقيدةٌ أساسُها كلُّ ما يتوافَقُ مع أحكام الإسلام ومقاصِدِه، كما أنها ليست حِكرًا على أحد، أو جماعةٍ أو بلَد، في نأْيٍ عن مسالِك الإقصاء والتصنيف، والتفرِقَة والتمييز والتعنيف، واختِزال المفاهيم.
هي دعوةٌ شاملةٌ لاتِّباع هديِ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا وباطِنًا، وهديِ أصحابِه - رضي الله عنهم -، والبُعد عن البِدَع والمُحدثَات، ومُخالَفة أهل الأهواء والضلالات، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة: 100].
ففي هذه الآية الكريمة دلالةٌ واضحةٌ على اقتِفاء أثر السلَف من الصحابةِ الأبرار، المُهاجِرين منهم والأنصار؛ إذ هم أعدلُ هذه الأمة وأفضلُها وأعلمُها بدينِ الله.
يقول عبدُ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "من كان منكم مُستنًّا فليستَنَّ بمن قد مات؛ فإن الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أبرُّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا، قومٌ اختارَهم الله لصُحبةِ نبيِّه، وإقامةِ دينِه. فاعرِفوا لهم قدرَهم؛ فإنهم كانوا على الهُدى المُستقيم".
وقال أميرُ المُؤمنين عُمرُ بن عبد العزيز - رحمه الله -: "سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ووُلاة الأمر من بعدِه سُننًا، الأخذُ بها اتِّباعٌ لكتاب الله واستِكمالٌ لطاعة الله، وقُوَّةٌ على دينِ الله، ليس لأحدٍ من الخلق تغييرُها ولا تبديلُها ولا النظرُ في شيءٍ خالفَها، من اهتدَى بها فهو المُهتَد، ومن استنصَرَ بها فهو المنصور، ومن تركَها اتَّبعَ غيرَ سبيل المُؤمنين، وولاَّه الله ما تولَى، وأصلاهُ جهنَّم وساءَت مصيرًا".
أمة الإسلام: السلفيَّةُ بهذا المفهوم التأصيليِّ عقيدةٌ وقِيَمٌ ومنهَجُ حياة، لا يصلُحُ الزمانُ والمكانُ إلا به.
يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "إن من طريقة أهل السنة والجماعة: اتِّباع آثار الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - باطِنًا وظاهِرًا، واتِّباع سبيل السابِقين الأولِين من المُهاجِرين والأنصار، واتِّباع وصيَّةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشِدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكُم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة»؛ رواه أبو داود". اهـ كلامُ شيخ الإسلام - رحمه الله -.
ولا يُنافِي هذا: الأخذُ بالتجديد في وسائِلِ وآليَّات العصر، والإفادةُ من مُعطيَاته في مُواكَبةٍ للمُعطَيَات والمُكتَسَبات، ومُوائَمةٍ بين الثوابِتِ والمُتغيِّرات.
أمة الإسلام: ولا يَضيرُ هذه الدعوةَ الغرَّاء، الساطِعة سُطوع الشمس في رابِعة السماء ما يعترِي أفعالَ البشر من خللٍ أو زلَل؛ فكلٌّ يُؤخَذُ من قولِه ويُردُّ، إلا رسولُ الهُدى - صلى الله عليه وسلم - ونبيُّ الرحمة - عليه الصلاة والسلام -.
كما لا يَضيرُها أفعالُ بعض المُنتسِبين إليها ممن تشدَّد أو تساهَلَ؛ فدينُ الله وسطٌ بين الغالِي فيه والجافِي عنه، وهذا لا يقتضِي أبدًا النَّيلَ من رموزِها، والوقيعَةَ في عُلمائِها، والطَّعنَ في دُرَر مُؤلَّفات أساطِينها، واجتِزاء نصوصِها، وسلبَها عن سِياقاتِها الصحيحة، ودلالاتها الواضِحة بأفهامٍ مغلُوطَة، وأهواءٍ مقصُودة.
ولا يكونُ خطأُ بعض الأفراد وشطَطَهُم في فهمِ وتطبيقِ بعض المُصطلَحات الشرعيَّة محسوبًا على المناهِجِ والمبادِئ والأُصولِ والثوابِت، مع دعوةِ ناشِدِ الحقِّ والمُنصِفين لعدم الإصغاءِ إلى الشائِعات المُغرِضة، والشِّعارات المُحرِّضة.
وبعدُ، أيها المسلمون: فهذه دعوةٌ حرَّاء ونحن على أعتابِ عامٍ هجريٍّ جديد، للتجرُّد لله، والقومَة لدينِه، والنهوضِ بشِرعتِه، والاستِمساكِ بسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وصحابتِه - رضي الله عنهم -، وفهمِ سلَف الأمة، والاجتماع على هذا المنهَج الصحيح، في حبٍّ مُشترَك، ووُدٍّ مُشاع؛ فلن يصلُح أمرُ آخرِ هذه الأمة إلا بما صلحَ به أولُها.
فما لِيَ إلا شِرعةُ الحقِّ شِرعةٌ | وما لِيَ إلا مذهبُ الحقِّ مذهبُ |
وأبلغُ من ذلك وأعزُّ: قولُ المولَى - جلَّ وعزَّ -: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
بارَك الله لي ولكم في الوحيَين، ونفَعني وإياكم بهديِ سيِّد الثَّقَلَين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ، فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إن ربِّي لغفورٌ رحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله أسبغَ علينا نعمًا مُبارَكاتٍ تتالَت أفواجًا، وحذَّر ممن سعَى بالفتنِ بين المُسلمين وداجَا، وصلواتُ الله على رسولِه ومُصطفاه، وعلى آلهِ وصحابتِه البالِغين من التلاحُمِ أثباجًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن الأعمار سريعةُ الانقِضاء فلا تبقَى، فتزوَّدُوا من التقوى؛ تزكُوا أحوالُكم، وفي معارِج القَبولِ ترقَى.
إخوة الإسلام: ومن فضلِ الله على هذا المنهَج السلفيِّ الصحيح: أن كتبَ الله له البقاءَ والانتِشار، بينَما تعيشُ كثيرٌ من الشِّعارات والدَّعَوات العِثارَ والاندِثار.
ولقد تفيَّأت بلادُنا المُباركة، بلادُ الحرمين الشريفين في تأريخها الإسلاميِّ المُشرِق عقيدةً سلفيَّةً، ودعوةً إصلاحيَّةً تجديديَّة، أسفَرَت عن التَّمكين المَكين لهذا الدين المَتين، بعد المُراغَمة مع جحافِلِ الزَّيغ والباطِل التي اندحَرَت - بفضل الله - فليلةً عِرنين.
وكان من هذه الدَّعوات المُبارَكات، الطيبات الزاكِيات: دعوةُ الإمام المُجدِّد إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب - رحمه الله، وطيَّبَ ثَراه -.
قد قامَ في الدنيا مقامَ هدايةٍ | يدعُو إلى التوحيدِ والإيمانِ |
وأضاءَ نورًا لم يزَل مُتألِّقًا | يهدِي به لله كلَّ أوانِ |
لقد كانت دعوةُ الإمام محمدِ بن عبد الوهَّاب - رحمه الله - دعوةً تجديديَّةً لما اندرَسَ من معالِم المِلَّة والدين، تصحيحيَّةً لما فسَدَ من مُعتقَدات بعض المُسلمين .. حارَبَت البِدَع والخُرافات، والآراء الشاذَّة والضلالات، لم تكن دعوةً إلى دينٍ جديدٍ، ولا إلى مذهبٍ خامسٍ؛ بل ترسَّمَت هديَ سيِّد الأنبياء والصحابة الأصفياء والتابعين الأوفياء، في العمل بالكتاب والسُّنَّة. وهي بريئةٌ كلَّ البراء عن مباءَات التكفير، ومنهَج الخوارِج الخطير.
ومع ذلك لقِيَت هذه الدعوةُ الإصلاحيَّةُ من المزاعِمِ والافتِراءات، والتشويهِ والشائِعات الغفيرَ والكثيرَ، ومع أننا في زمنِ المعلومةِ الصحيحةِ، وإمكانِ معرفةِ الحق والحقيقة، إلا أن وصمَها ولمزَها وأهلها بالوهابيَّة لا يزالُ صَداهُ يطرُقُ مسامِعَ أبنائِها، فلا يزيدُهم إلا ثقةً بالحقِّ واستِمساكًا به.
وإن بلادَ الحرمين الشريفين - حرسَها الله - لتنهَجُ المنهَجَ السلفيَّ الوسطيَّ المُعتدِل، القائِمَ على نور الكتاب والسنَّة، ومنهَج السلَف الصالِح لهذه الأمة، تقبَلُ الحقَّ ممن جاء به دون نظرٍ إلى أصلِه أو نسَبِه، أو شكلِه أو رسمِه، وتمُدُّ يدَها للاجتماع والائتِلاف، والتعاوُن مع جميع المُسلمين في تحقيق الأُخُوَّة الإسلامية، والاعتِصام والوِئام، ونبذِ الفُرقة والانقِسام.
أرسَى قواعِدَها الإمامان فعلمُها | يمحُو الضلالَ وسيفُها يمحُو الفتن |
حفِظَ الله بلادَ الحرمين الشريفَين دوحةً بالإيمان والاطمئنان والسلام والاستِقرار أنيقة، وروضةً بالتآلُف والأمن السابِغ وَرِيقة، ولا يزالُ التراحُم والإباءُ يعتادُها، والتواشُجُ والتآصُر يرتادُها، وسائرَ بلاد المسلمين، إن ربِّي جوادٌ كريم.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36].
هذا وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خيرِ الورَى، كما أمرَكم بذلك ربُّكم - جل وعلا -، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
أزكَى صلاةٍ بتسليمٍ يُؤازِرُها | على نبيٍّ كريمِ الأصلِ مُختارِ |
محمدٍ خيرِ مبعوثٍ وعِترتِه | وصحبِه خيرِ أصحابٍ وأنصارِ |
اللهم ارضَ عن خلفائِه الراشدين، والأئمة المهديِّين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتِك وكرمِك يا أكرمَ الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح واحفَظ أئمَّتنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه ونائبَيه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للعباد والبلاد يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جميع وُلاة المسلمين لتحكيم كتابِك، وسُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، برحمتِك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفُسِنا ولا إلى أعمالِنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه.
اللهم انصُر إخواننا المُضطَهدين في دينِهم في سائِر الأوطان، اللهم كُن لإخواننا في فلسطين والأقصَى، اللهم أنقِذ المسجِد الأقصَى من اليهود المُعتدِين والصَّهايِنة الغاصِبين يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا في بلاد الشام، وفي العراق، وفي اليمن، وفي كل مكانٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلِح أحوالَهم، اللهم أصلِح أحوالَهم، واحقِن دماءَهم، واحقِن دماءَهم يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
سبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.