الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | أحمد الحاج |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
يكثر القيل والقال بين الناس، وأصبحت الغيبة والنميمة فاكهة مجالس الناس، يخوضون في بعضهم، يتناقلون الدسيسة والوشاية والطعن على أنه حقيقة ثابتة، يصدرون الأحكام، ويتّخذون المواقف، كل ذلك بناء على كلمة سمعوها، أو على قصة اختلقوها، فينتج عن ذلك الفتنة التي هي أشد من القتل. فما هو الواجب على المسلم فعله إذا سمع خبراً عن أحد من المسلمين؟ وكيف يتعاطى مع هذا الأمر؟.
الخطبة الأولى:
الحمد لله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور:23-24].
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله القائل -صلى الله عليه وسلم-: "أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان" رواه أحمد وابن حبان.
اللهم صلّ وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: (اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]
أما بعد: يكثر القيل والقال بين الناس، وأصبحت الغيبة والنميمة فاكهة مجالس الناس، يخوضون في بعضهم، يتناقلون الدسيسة والوشاية والطعن على أنه حقيقة ثابتة، يصدرون الأحكام، ويتّخذون المواقف، كل ذلك بناء على كلمة سمعوها، أو على قصة اختلقوها، فينتج عن ذلك الفتنة التي هي أشد من القتل.
فما هو الواجب على المسلم فعله إذا سمع خبراً عن أحد من المسلمين؟ وكيف يتعاطى مع هذا الأمر؟.
إن نظرة دقيقة في الكتاب والسنة تبيّن ذلك، وما ينبغي فعله في مثل هذه الأمور: أولاً: إحسان الظنّ بالمسلمين: امتثالاً لقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات:12]، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : "إياكم والظنّ! فإن الظنّ أكذب الحديث" متفق عليه.
ولنا عبرة في قصة الإفك، لما قُذفت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- واتّهمت زوراً وبهتاناً، فقد استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه، فقال أسامة: يا رسول الله، إنما هم أهلك ولا نعلم عليهم إلا خيراً. فكان يعلم براءة عائشة لأنه كان يعلم أن الأصل في المسلم البراءة حتى يثبت العكس، لهذا قال -سبحانه-: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور:12].
ثانياً: التثبت في الأخبار: امتثالاً لأمر الله القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
والتثبت إنما يكون بسؤال صاحب العلاقة أو من يوثق به من المسلمين، بعيداً عن أهل الغاية والمصلحة والحسد، لهذا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة في قصة الإفك عمّا سمعه عنها، ففي الصحيحين: قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين جلس ثم قال: "أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه" متفق عليه.
وعن علي قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيا، فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: "إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء"، قال: فما زلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد. رواه أبو داود.
ثالثاً: عدم الخوض فيما ينقل؛ لأن الخوض في ذلك والكلام فيه ونشره ونقله هو غيبة نهى الله عنها فقال: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:12].
وبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- حقيقة الغيبة، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون ما الغيبة؟"، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذكرك أخاك بما يكره". قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه" رواه مسلم.
وعن عائشة قالت: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية كذا وكذا! تعني قصيرة. فقال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" رواه أبو داود.
ويروى أن سليمان بن عبد الملك قال لرجل: بلغني أنك وقعت فيّ وقلت كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت. فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق. قال الرجل: لا يكون النمام صادقاً. فقال سليمان: صدقت، اذهب بسلام. [مختصر منهاج القاصدين].
فناقل الكلام إن كان صادقاً فهو مغتاب، وإن كان كاذباً فهو مفتر كذاب، وما قصد ناقل الكلام سوى النميمة وإيقاع الفتنة بين الناس، ولقد نهانا الله عن طاعة أهل النميمة واتباعهم فقال: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم:10-11].
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً؛ فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر" رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
فالواجب هو التوقف وعدم الخوض في عرض المسلم: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور:16].
رابعاً: الدفاع عن المسلم: فالواجب على المسلم أن لا يخذل أخاه في مكان ينتقص منه، ففي الحديث: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه"، متفق عليه. وفي الحديث: "مَن ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة" رواه أحمد والترمذي.
خامساً: تقديم النصيحة: فالمسلم ليس معصوماً عن الخطأ، بل هو عرضة له، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، فواجب المخطئ التوبة، وواجب إخوانه -إن أخطأ- أن يقدّموا له النصح والتذكير ليرجع عن ذلك، وأن لا يكونوا عوناً للشيطان على أخيهم؛ ففي الحديث: "الدين النصيحة". قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولائمة المسلمين، وعامتهم" رواه مسلم.
ففي قصة الإفك وجّه النبي -صلى الله عليه وسلم- النصيحة لعائشة فقال: "يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه" متفق عليه.
ويقول علي -رضي الله عنه-: "لا تقطع أخاك عن ارتياب، ولا تهجره دون استعتاب".
هكذا يمكن للإنسان أن يتعامل مع ما يصل أذنيه من أخبار، فيسلم من الوقوع فيما لا تحمد عقباه، لأن إشاعة الفاحشة -بكل أشكالها- لا يعود ضررها على شخص واحد، إنما يعود على الجميع. وهذا ما نراه في مجتمعنا، نسأل الله العافية.
و هنا نختم الحديث بنقاط ثلاث:
الأولى: إن السبب المباشر لخوض الناس في أعراض الناس -بعد قلة الدين- هو الحسد، فالحسد داء خبيث إذا تملّك من الإنسان وامتلأ قلبه به، وسيطر على تفكيره، دفعه إلى استباحة المحرمات، ولن يقف عند مجرد القال والقيل والطعن، بل سيزداد ويزداد، حتى إنه لن يتورّع عن القتل لتحقيق ما يطمح إليه، كما فعل قابيل بأخيه هابيل، وكما فعل إخوة يوسف بأخيهم، فنعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه | فالناس أعداء له وخصوم |
كضرائر الحسناء قلن بوجهها | حسداً وبغضاً إنه لدميم |
الثانية: مواجهة ذلك بالصبر: قد يتعرّض الإنسان للطعن والانتقاص، فلا يجد من يدافع عنه، فيواجه ذلك بالصبر على هذا الأذى، وتفويض الأمر إلى الله، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل!.
ولنا أسوة في أمّنا المظلومة عائشة -رضي الله عنها- في قصة الإفك حين قالت: "والله! لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني بريئة- لتصدقونني! وإني -والله!- ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون" متفق عليه.
فكانت نتيجة صبرها وتفويض أمرها إلى الله أن أظهر الله براءتها، وردّ الله كيد أهل النفاق في نحورهم.
الثالثة: رسالة موجزة، ونصيحة أخيرة لأهل الطعن والغيبة: عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" رواه أحمد وأبو داود.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها، اللهم اجعلنا ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.