القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
الفسادَ سلوكٌ مُنحرِفٌ مُتستِّرٌ، يدخلُ في كلِّ مجالٍ من مجالاتِ الحياةِ، يرتكِبُ أصحابُه مُخالفاتٍ عديدةِ من أجلِ تحقيقِ أطماعٍ ماليَّةٍ غيرِ شرعيَّةٍ، أو مراتِبَ وظيفيَّةٍ غيرِ مُستحقَّةٍ؛ وكلُّ انحرافٍ بالوظيفةِ العامَّةِ أو الخاصَّةِ عن مسارِها الذي وُضِعَتْ له ووُجِدتْ لخدمتِه فهو فسادٌ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، مالكِ يومِ الدينِ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلِه وصحبِه إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ : فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
أيُّها المؤمنونَ: النَّزاهةُ خُلقٌ رفيعٌ، وأدبٌ جمّ، يعينُ صاحبَه على التخلُّقِ بالمروءةِ ومعالي الأمورِ, والابتعادِ عن مظانِّ السوءِ, وتجنُّبِ الشبهاتِ، وتركِ الحرامِ، والحرصِ على الحلالِ، قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "إنَّ الحلال بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّن, وبينَهما مشتبهاتٌ لا يعلمُهن كثيرٌ من النَّاسِ، فمن اتَّقى الشبهاتِ استبرَأَ لدينِه وعِرضِه, ومن وَقَعَ في الشبهاتِ وَقَعَ في الحرامِ؛ كالرَّاعي يرعى حولَ الحِمَى يُوشِكُ أن يَرْتَعَ فيه"(رواه البخاري ومسلم).
فعلى المسلمِ إذا كانَ في وظيفةٍ أو عملٍ أن يتعفَّفَ عن كلِّ مالٍ يظنُّ فيه شبهةً من حرامٍ، ويتجنَّبَ كلَّ مالٍ لا يحلُّ له، ويقَنعَ بما رَزَقَه اللهُ ولو كانَ فقيرًا أو محتاجًا، يقولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "كُنْ وَرِعًا تكنْ أعبدَ الناسِ، وكنْ قنعًا تَكُنْ أشكرَ الناسِ، وأحبَّ للناسِ ما تُحبُّ لنفسِكَ تكنْ مؤمنًا، وأحسِنْ جوارَ مَنْ جَاوَرَكَ تكنْ مسلمًا، وأقِلَّ الضَّحِكَ؛ فإنَّ كثرةَ الضَّحِكِ تميتُ القلبَ"(رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
وكلَّما كانَ قلبُ المسلمِ سليمًا ممتلئًا بالإيمانِ واليقينِ والخوفِ من الجليلِ -سبحانَه-؛ كانَ أثرُ ذلكَ واضحًا على تعاملاتِه وأخلاقِه، فيمنعُ نفسَه عن الاستشرافِ لما يضرُّه في دينِه وأخلاقِه، ودنياهُ وآخرتِه.
والمسلمُ عندما يكونُ في موقعِ المسؤوليَّة فهو أحفظُ الناس للحقَّ، وأخلصُهم في العملِ، وأشدُّهم حفاظًا على مُكتسَباتِ الأفرادِ والمجتمعِ، وأكثرُ الناسِ نهيًّا عن الفسادِ.
وعندما يكونُ في موقعِ العملِ فهو أصدقُ الناسِ في دينِه، وأكثرهم أمانةً في عملِه، وولاءً لمُجتمِعه، وأحرصهم على مصلحةِ وطنِه، ولا يرضى بالمُمارساتِ الخاطِئةِ التي تصدرُ من زملائِه، بل ويجتهدُ في منعِ الفسادِ والانحِرافِ الذي يحصلُ ممَّنْ حولَه، ويُبلِّغُ عن ذلك كلِّه.
عبادَ اللهِ: وإنَّ ممَّا يناقضُ النزاهةَ في حياةِ المجتمعِ، وجودَ الفسادِ بصورِه المتنوعةِ, والتي حذَّر اللهُ -جلَّ جلالُه- عبادَه منها، فقالَ -تعالى-: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)[الأعراف:56]، فالفسادُ يُسببُ أشكالاً كثيرةً من السلبياتِ والمخاطرِ، ومن ذلك: تضييعُ مصالحِ الناسِ، وزعزعةُ القِيَمِ الأخلاقيَّةِ، ونشرُ السلبيَّةِ، وعدمُ تَحمّلِ المسؤوليةِ، وتدنَّى مُستوى الخدماتِ العامَّةِ، وضعفُ الإنتاجيَّةِ، وكثرةُ الظلمِ.
والفسادُ يَجعلُ المصالحَ الشخصيَّةَ مقدمةً على المصالحِ العامةِ؛ فيُضعفُ الولاءَ، ويُعزِّزُ العصبيَّةَ المذمومةَ، ويُهدِّدُ الترابُطَ الأخلاقيَّ، وقِيَمَ المُجتمعِ الحميدةِ المُستقرَّةِ، ويُعيقُ خططَ التنميةِ الصحيحةِ، ويُبعثِرُ الثَّرواتِ، وتضطربُ بسببِهِ الأولوياتُ في برامجِ الدولةِ ومشاريعِها، وتُبدَّدُ موارِدُها، وتُستنزَفُ مصادِرُها.
إن الفسادَ سلوكٌ مُنحرِفٌ مُتستِّرٌ، يدخلُ في كلِّ مجالٍ من مجالاتِ الحياةِ، يرتكِبُ أصحابُه مُخالفاتٍ عديدةِ من أجلِ تحقيقِ أطماعٍ ماليَّةٍ غيرِ شرعيَّةٍ، أو مراتِبَ وظيفيَّةٍ غيرِ مُستحقَّةٍ؛ وكلُّ انحرافٍ بالوظيفةِ العامَّةِ أو الخاصَّةِ عن مسارِها الذي وُضِعَتْ له ووُجِدتْ لخدمتِه فهو فسادٌ وجريمةٌ وخِيانةٌ.
عبادَ اللهِ: ومن صورِ الفسادِ التي يُعاني منها كثيرٌ من مجتمعاتِ المسلمينَ ما يلي:
أولاً: الرشوةُ بجميعِ صورِها وأشكالِها، سواءٌ كانتْ لفردٍ أو أشخاصٍ أو جهةٍ.
ثانياً: اختلاسُ الممتلكاتِ وتبديدُها وتسريبُها بأيِّ شكلٍ, من شخصٍ مؤتمنٍ عليهَا.
ثالثاً: المتاجرةُ بالنفوذِ، وإساءةُ استغلالِ الوظائفِ، والثراءُ غيرِ المشروعِ.
رابعاً: غسيلُ الأموالِ, وذلكَ بإخفاءِ المصدرِ غيرِ القانوني لها, ودمجِها في الاقتصادِ المشروعِ.
خامساً: ابتزازُ طَرَفٍ أو أطرافٍ للحصولِ على أموالٍ, مقابلُ تنفيذِ مصالحَ معينةِ.
عبادَ اللهِ: إنَّ الشخصَ الذي تَمتدُّ يدُه إلى ما حرَّمَ اللهُ من أجلِ إشباعِ شهواتِه، أو زيادةِ رصيدِه وأموالِه، توعدَّه النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بقولِه: "كلَّ جسدٍ نبَتَ من السُّحتِ فالنَّارُ أولى به"(رواه الترمذي وصححه الألباني).
بلْ نهَى رسولُنا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أشدَّ النَّهي عن التعاملِ بالرشوةِ، وحذَّر منها أشدَّ التحذيرِ؛ لما لها من عواقبَ وآثارٍ سلبيةٍ خطيرةٍ على الفردِ والمجتمعِ والدولةِ, فعن أبي حُميدٍ الساعديِّ قال: استعْملَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- رجلاً من بني أسدٍ, يُقالُ له: ابنُ اللُّتْبِيَّة -قال عمرو وابنُ أبي عمر: على الصدقِةِ-, فلمَّا قَدِم، قال: هذا لكُم، وهذا لي؛ أُهدِي لي، فقامَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على المنبرِ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثمَّ قالَ: "ما بالُ العاملِ نبعثُه فيأتي، فيقولُ: هذا لكَ وهذا لي!, فهلَّا جلسَ في بيتِ أبيه وأمِّه، فينظرَ أيُهدى لهُ أم لا؟, والذي نفسي بيدِه، لا يأتي بشيءٍ إلا جاءَ به يومَ القيامةِ يَحمِلُه على رقبتِه، إنْ كانَ بعيرًا له رُغاءٌ، أو بقرةً لها خُوارٌ، أو شاةً تَيْعَرُ"، ثم رفع يديه؛ حتَّى رأينَا عفرتَيْ إبْطَيه: "ألا هلْ بلَّغْتُ؟!" ثلاثًا.(أخرجه البخاري، ومسلم).
أعوذُ باللهِ منْ الشَّيطانِ الرجيمِ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: 41].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ, ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ, محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلموا أنَّ على الجميعِ مُحاربةَ الفسادِ ومُكافحتَه؛ فهي ليستْ مسؤوليةَ شخصٍ محددٍ, أو جهةٍ مُعيَّنةٍ, أو فِئةٍ خاصَّةٍ؛ بلْ هي مسؤوليَّةُ الجميعِ، فعلى كلِّ فردٍ أن يؤديَ واجبَه الشرعيَّ والوطنيَّ؛ وذلكَ بغرسِ القيمِ الأخلاقيةِ في النفوسِ, بدءًا من الناشئةِ وأفرادِ الأسرةِ والمجتمعِ, وتربيتهِم على حبِّ الأمانةِ وبغضِ الخيانةِ.
وكذلكَ على الجميعِ التِزامُ الصلاحِ والإصلاحِ, والنزاهةِ والشفافيةِ، وغرسُ الثِّقةِ في أجهزةِ الدولة وأنظمتِها، والمساهمةُ في محاربةِ الفسادِ بجميعِ أشكالِه وصُورِه؛ إداريًّا وماليًّا وأخلاقيًّا، والتعاونُ كلٌّ على قدرِ استطاعتِه؛ كي نصلَ -بإذنِ اللهِ تعالى- إلى الخيرِ والتوفيقِ والفلاحِ والنجاحِ، وانتشارِ الأمنِ والطمأنينةِ والعدالةِ.
أسألُ اللهَ -تعالى- أن يحفظَ علينَا نعمةَ الإيمانِ والصلاحِ، وأن يجنِّبنَا مظاهرَ الفسادِ والإفسادِ، وأن يأخذَ بأيدينا جميعًا إلى طريقِ الرشادِ والفلاحِ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى, والقدوةِ المجتبى؛ فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ -جلَّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].