الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | محمد ابراهيم السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - |
إنها درس في الصبر والتحمل، وطول الطريق، وأن المآسي قد تطول، فليس طريق الدعوة مفروشاً بالورود، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس أحد أكرم على الله من رسوله عاش الإيذاء بشتى صوره، وأقبحِ أنواعه، حاربوه ومكروا به، ومع ذلك صبر، سفهوا عقله، ومع ذلك ثبت، شوهوا سمعته في القبائل والبلدان، و...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي الفضل والإحسان، شرع لعباده هجرة القلوب وهجرة الأبدان، وجعل هاتين الهجرتين باقيتين على مر الزمان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المهاجرين إليه أجراً عظيماً: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)[النساء:100].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله هاجر إلى ربه فأواه وحماه صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها" صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، وآووا ونصروا، حتى فتحوا القلوب والبلدان، ونشروا العدل والإيمان والإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[البقرة:281].
معاشر المؤمنين والمؤمنات: في هذه الأيام يكثر الناس من التحدث عن هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في وسائل الإعلام، ولا يعدو حديثهم في الغالب أن يكون قصصاً تاريخياً يملؤون به الفراغ في أيام معدودات، ثم يُترك وينسى، دون أن يكون له أثر في النفوس، أو قدوةٌ في الأخلاق، بل لا يعدو أن يكون ذلك عند فئات عادةً سنويةً في احتفالات مبتدعة، ومظاهر منكرة، دون فقه لمعناها، وعمل بمدلولها.
ونحن في هذه العجالة نريد أن نتحدث عن الهجرة النبوية لا لنقيم عيداً في ذكراها وذكرى صاحبها -عليه الصلاة والسلام-، ولا لنبتدع صلوات وتسبيحات في مناسبات ما أنزل الله بها من سلطان، وليس عليها دليل أو برهان.
كلا، بل نريد أن نقف وقوف المعتبرين والمتعظين، وقوف المستلهمين لدروسها وفوائدها وحكمها.
نقف وإياكم -أيها المسلمون- اليوم نحيي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نحييه في أوائل هذا العام الهجري، فهو رجل الهجرة الأول، ورجل التضحية والفداء الأول.
فما حملت من ناقة فوق ظهرها | أبر وأوفى ذمة من محمد |
نعيش اليوم مع نسائنا وأولادنا في أيام طُرِّدَ عليه الصلاة والسلام من أزواجه وأولاده.
نعيش اليوم مرفهين في الدور والقصور في أيام شُرد من دوره ورباعه.
نعيش اليوم مرفهين سعداء في استقرار وأمان، في أيام عاشها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مملوءةً بالأسى والضيق واللوعة.
أن تهجر الوطن المحبب إلى قلبك، وأن تغادر الربوع والتلال والجبال التي درجت على ثراها، وارتشفت ماءها، واستنشقت هواءها، فهذا أمر صعب على النفوس البشرية أن تَهجر، أو تُهَجَرَ من أوطانها!.
لكن ما العمل -عباد الله- وقد وجهت إليه مكة إنذاراً شديد اللهجة بأن يخرج من مكة، وأن يتوقف عن الدعوة إلى التوحيد: ما العمل والطغمة الحاكمة في مكة جعلته المطارد الأول، والمطلوب رقم واحد في العالم، هُدد بالسجن وبالقتل، وفُرض عليه حصار اقتصادي، وأعلنت عليه حرب إعلامية شعواء لا هوادة فيها؟!
ما العمل وهو يواجه وأصحابه المؤمنون بما جاء به؛ الظلم والتقتيل والاضطهاد؟
وليت هؤلاء يريدونه أن يخرج سليماً معافى، بل يريدون إخراجه جثة هامدة لا حراك فيها: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال:30].
فهاجر صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة النبوية هو وأصحابه المؤمنون به.
ولعلنا -عباد الله- نقف على غيض من فيضها، وقطرات من بحرها، وأسطر من مجلداتها.
من دروس الهجرة النبوية وعبرها: أن يستشعر المؤمنون بذاك اليقين الذي لا يتزعزع والتوكل الذي لا يتلجلج، قول الله -تعالى-: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)[التوبة:40] أي حافظنا، وناصرنا، ومؤيدنا، ومنقذنا، فالله -تعالى- متم نوره، وسيبعث الدين والرسالة: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)[التوبة:40] كلمةٌ يتجلى فيها صدق التوكل واليقين بنصر الله -تعالى-.
قريشٌ خرجت بخيلها وخيلائها وجواسيسها وقافتها.
جائزة مالية كبرى تعلن أمام الملأ مائةٌ من الإبل لمن يأتي بمحمدٍ حياً أو ميتاً، وصلوا إلى الغار والرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه بلا قوات ولا حراسات.
وصلوا إلى الغار، فيقول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: إنها النهاية، إنه الموت، إنه الأسر، لما رأى هذا الموقف طار فؤاده، وقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا؟! فيجيب الواثق المستوقن بنصر ربه، الواثق بوعد مولاه، الذي لم تسر في أوصاله رجفة الخوف من الظالمين، أو رهبة الفرق من المشركين، بل قال هادئ البال، رابط الجأش: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".
(إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)[التوبة:40].
وهذه هي المعية الخاصة بعباد الله المؤمنين الصالحين معيةٌ بالعلم والسمع والبصر، فهو سبحانه معهم بعلمه وإحاطته، مع أنه عال على خلقه، مستوٍ على عرشه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه:5].
ولذلك عاد مَنْ كان يطارِد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصَّباح، عاد حارسًا له في المساء! بعد أن رأى بأمِّ عينَيْه أنَّ الله يمنع رسوله، سراقة بن مالك المدلجي الفارس الشاب الجلد الشجاع الذي كان يُمني نفسه بجائزة قريش مائة من الإبل، لمن يقبض على محمد -صلى الله عليه وسلم-، ساخت قدما فرسه في الأرض، فعلم أن الرسول محفوظ وممنوع، فعاد ولكنَّه عاد بجائزةٍ عظيمةٍ، أعظم من جائزة قريش؛ إنها سِوَارَيْ كسرى، قال له الرسول الذي لا ينطق عن الهوى بكل ثقة: "كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟!".
وفعلاً يتسلَّمها سُراقَة في عهد الفاروق عمر، يوم وصل المسلمون إلى مدائن كسرى، وبادت دولة الأكاسرة.
نعم -أيها الإخوة في الله-: الله يحفظ أولياءه، بل ويؤيدهم بجنوده ومدده وعونه، كما حصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ)[التوبة:40].
وبماذا نصره الله؟
نصره الله بأضعف الجنود: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)[المدثر31].
جنودٌ صغيرةٌ في حجمها، ضعيفةٌ في آثارها، ومع ذلك تولت الرعاية والحماية بأمر الله -تعالى-.
نصره بنسج العنكبوت: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:41].
وبيت العنكبوت شيءٌ واهن، وتركيب ضعيف، يُضرب به المثل في الضعف، وقصة نسج العنكبوت حسنها الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-، حتى لقد قال بعض المشركين لما رأى عُش العنكبوت ونسيجه على الغار: "إن هذا العش موجود قبل أن يولد محمد، فيا عجباً لهذا النصر والتأييد".
وما حوى الغارُ من خير ومن كرمٍ | وكل طرفٍ من الكفار عنه عمي |
فالصدقُ في الغار والصديقُ لم يرما | وهم يقولون ما بالغار من أرم |
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على | خير البرية لم تنسج ولم تحم |
وقاية الله أغنت عن مضاعفة | من الدروع وعن عال من الأُطم |
أيها الأحبة في الله: إن شجرة الإسلام لا بد أن تروى بالدماء الطاهرة الزكية التي تراق على مشارفها، فالتضحية والفداء درس من أعظم دروس الهجرة النبوية، بل إن الهجرة من أولها إلى نهايتها تفيض بألوان زاهية مبهرة من التضحية والفداء.
ولابد من الابتلاء، قال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[العنكبوت:1-2].
وقال جل ذكره: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 142].
لا بد أن تُبلى الأخبار، وأن تُبتلى النفوسُ والأجساد والأموال، ليخلص قلبُ العبد لله -جل وعلا- وحده، فلا يَشرَكُ الله -تعالى- في ذلك شيءٌ من تراب الوطن، أو من زهرة المال، أو من حظوظ الدنيا.
الهجرة فيها تضحية تتمثل في ترك الوطن الغالي، ذلكم أن المهاجر يقطع عروقاً نمت فيه من أهله وعشيرته وذكرياته الجميلة.
إنها تضحية كبيرة أن يُضطر صلى الله عليه وسلم، ومن آمنوا معه إلى ترك مكة، وأيُّ مكة؟
إنها البلد الحرام المحبب إلى نفسه، اسمعوه صلى الله عليه وسلم يغادر مكة مرغماً متأسفاً، وهو يقول لها: "والذي نفسي بيده إنك من أحب بلاد الله -تعالى- إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".
ولكن تهجر الأوطان، ويضحي بالنفوس والمهج من أجل الدين والإيمان، وطن يغلق فيه صوتي لا بد أن أهجره، وطن يُكسر فيه قلمي لا بد أن أهجره، وطن يضيق فيه على أتباعي وتلامذتي لا بد أن أغادره وأتركه.
الدين رأسُ المال فاستمسك به | فضياعه من أعظم الخسران |
جاء الرجل يمشي حاملاً متاعه، وأحماله وأثقاله، فترصدت له قريش! إلى أين يا صهيب؟ قال: مهاجراً إلى الله ورسوله!؟ قالوا: يا صهيب أتيتنا صعلوكاً لا مال لك؟! وأنت تخرج منا الآن تاجراً؟!
لا يمكن أن نتركك، إما أن تختار المالَ أو الهجرة؟.
وهنا يأتي دور الثبات أمام المحن، وأمام المضايقات، هنا يأتي دور التضحيات.
مالي! عقاراتي! تجاراتي! أم ديني وإسلامي ونبيي -صلى الله عليه وسلم-؟
إما المال، وإما الهجرة! وهنا يأتينا ثبات عجيب، قال: "يا معشر قريش لو تركت لكم مالي تدعوني وشأني؟ قالوا: نعم، فباع الدنيا لأجل الآخرة، وضحَّى بالفاني لأجل الباقي، فجاء الجزاء: "ربح البيع أبا يحي!".
درس الهجرة إذاً -يا عباد الله- يؤكد بكل وضوح وجلاء أن التفريط في العقيدة مآله هلاك وضياع وخراب ديار.
إذا الإيمان ضاع فلا أمان | ولا دنيا لمن يحيى ديناً |
ومن رضي الحياة بغير دين | فقد جعل الفناء لها قرينا |
ويلوح أمام ناظري -يا عباد الله- في حادث الهجرة خاطرٌ آخر، وهو قضية مهمة نحتاجها في حياتنا، ألا وهي: قضية الصداقة والصديق، هذا أبو بكر يعلنها بصدق أنه صديق في السراء والضراء، رفيق في الشدة والرخاء، بل ويبكي لما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "يا أبا بكر إن الله أذن لي في الهجرة" فيقول باكيا: الصحبةَ يا رسول الله! ويخاطر بحياته، ويدفع ماله، ويضحي بكل شيء إلى أين؟!
إلى رحلةٍ مجهولة، إلى رحلة محفوفة بالمخاطر، ومع ذلك يقول: "الصحبة يا رسول الله!"
أيُ صاحب هذا؟ وأيُ رفيق هذا؟
صديق صدوق في إيمانه وصحبته.
لما أراد المصطفى أن يدخل الغار، كما في بعض المرويات أخذ يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: مكانك يا رسول الله استبرئ لك الغار، روحي لروحك الفداء، فيدخل ويضع أصابعه في مغابن الغار خشيةً من عقرب، أو حية تلدغ المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
يمشي أمام النبي ساعة، وخلفه ساعة، وبين يديه ساعة، خوفاً من الطلب، أي وفاء أبلغ من هذا الوفاء؟
وما أحوجَ المسلم؟ ما أحوج المؤمن إلى مثل هذه الصداقة؟
لأننا نرى الآن كثيراً من العلاقات والصحب تقدم وتقوم على عرض، أو غرض، تنهض على الرياء، وعلى النفاق -إلا من رحم الله-.
فإذا ضاع مالهم، فلا أصحاب لهم، وإذا زالت عروشهم، فلا أعوان لهم.
أما أهل الإيمان، فلا يعتبرون بالمناصب، ولا بالألوان ولا بالعروق لا يعتبرون إلا بعرق: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات:13].
ما أحوج أمة الإسلام إلى عصبة الأخيار التي تتصادق وتتألف على البر والتقوى.
ودرس من دروس الهجرة يشير إلى أن الشباب إذا نبتوا في بيئة الصلاح والتقوى، ونشأوا على العمل الصالح، والسعي الحميد.
وإذا رضعوا رحيق التربية الحقة، كان لهم في مواطن البطولة والمجد أخبار وذكريات، فعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لم يتردد في أن ينام على فراش الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويتغطى ببردته في تلك الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر، ليفتكوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويا لها من نومة تحيط بها المخاوف والأهوال ولكن: (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف:64].
ووالله إن قلوبنا تتقطع أسى ولوعة، ونحن نرى شباباً لم يقدموا لخدمة العقيدة مثقال ذرة، ولم يسجلوا في سجلات المجد أي سطر.
عجب حال شبابنا كأنه لا سباق لهم إلا في إشباع شهوات البطون والفروج!.
شباب الإسلام: أين أنتم من شباب المسلمين الأوائل؟ من ابيضت بأعمالهم صفحات التاريخ، فمضوا عناوين للوفاء والحق، هذا قائد منهم للجيش وعمره سبعة عشر عاماً، وذاك تغسله الملائكة في صحائف الفضة بماء المزن بين السماوات والأرض، وذاك ترفعه الملائكة على سرير الذهب، وذاك يهتز عرش الرحمن لموته، وذاك يموت في الأربعينات وله أكثر من خمسين مؤلفاً في خدمة الإسلام، وغيرهم وغيرهم.
أسأل الله -تعالى- أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يجعل معونته العظمى لنا سنداً.
وأستغفر الله ذنبي وذنبكم، فإنه يغفر الذنوب جميعاً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسلم على عباده الذين اصطفى.
وآت وإياكم -أيها الأحبة في الله- إلى دور مهم، بل وعظيم في الهجرة النبوية: إنه دور الأسرة المسلمة العاملة في خدمة دين الله التي جعلت الإسلام همها.
هذا بيت آل أبي بكر كلٌ قام بدوره في خدمة الدين، والعمل لأجل الإسلام.
لقد جند هذا الأب الكريم -رضي الله عنه- جميع أفراد الأسرة في خدمة الدعوة في ظرف عصيب بالغ الخطورة، ونحن عند ما تأتي الأخطار نخاف على النساء والأولاد الضيعة، فيأتي أبو بكر فيقسم الوظائف، فالابن وهو عبد الله يجلس نهاراً مع قريش، وليلاً يأتي النبي بأخبار قريش: وما ذا فعلت؟!
أما دور البنات فعائشة وأسماء يجهزان الراحلة بالزاد والمتاع، وتأتي البنت الصغيرة بالطعام إليهما، حتى الخادم الذي قد لا يكون له عند البعض دور، فالمولى عامر بن فهيرة سجل التاريخ اسمه في صفحات الهجرة، يمر عليهما بالأغنام، فيحلبان ويشربان، ويسير خلف الآثار ليعفيها.
إنه درس للآباء وللأولياء: أن يستعملوا أولادهم ونساءهم ومن تحت ولايتهم في طاعة الله -تعالى-.
معاشر المؤمنين: لم تكن الهجرة قَرارًا مرتجلاً اتَّخَذه الرسول -صلوات الله وسلامه عليه-، ولم تكن خوفا من القتل، أو جُبنا من المواجهة، ولم تكن مجرَّد ردِّ فعلٍ غريزي لِمُؤامَرة المشركين لاغتِيال الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
إنَّ الهجرة قدرٌ مَقدورٌ في تاريخ الدعوة إلى الله، فقد عَلِمَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الهجرة قدرٌ لا مردَّ له في أوَّل أيَّام الدعوة، حين قال ورقة بن نوفل: "ليتني أكون معك يوم يُخرِجك قومك؟" فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أو مُخرِجيَّ هم؟!".
فقال ورقة: "ما جاء رسولٌ بِمِثل الذي جئتَ به إلاَّ أُوذِي وأُخرِج".
فعلم أن الطريق تحتاج إلى صبر، وأنها محفوفة بالشدائد، غاصٌّ بالمكاره؛ لذا؛ كانت وصاة القرآن له بعد أمرِه بالبلاغ والرِّسالة هي الصبر: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)[المدثر: 1 - 7].
ولقد امتَثَل الرسول لما أُمِر به، وكان إمام الصابرين.
إن خلق الصبر على الأذى من الدروس المهمة التي يستفيد منها المسلمون من حادثة الهجرة على مرِّ الأزمان، خاصة الدعاة إلى الله -تعالى-.
إنها درس في الصبر والتحمل، وطول الطريق، وأن المآسي قد تطول، فليس طريق الدعوة مفروشاً بالورود، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس أحد أكرم على الله من رسوله عاش الإيذاء بشتى صوره، وأقبحِ أنواعه، حاربوه ومكروا به، ومع ذلك صبر، سفهوا عقله، ومع ذلك ثبت، شوهوا سمعته في القبائل والبلدان، وتطاولوا عليه بالكذب والاستهزاء، وتسليط الغوغاء والسفهاء، ومع ذلك صبر وصابر ورابط، وما ذا كانت فائدة الصبر؟
لقد رجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة منتصراً تحقيقاً لموعود الله -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)[القصص:85].
فلا بد أن نصبر ونثبت على مبادئنا.
تُريدينَ لُقيانَ المَعَالي رَخيصَةً | وَلا بُدّ دونَ الشّهدِ من إبَرِ النّحلِ |
بَصُرْتَ بالراحةِ الكُبرى فلم تَرَها | تُنالُ إلا عَلَى جِسْرٍ من التّعَبِ |
وفائدة مهمة يستفيد منها الناس في دعوتهم في مشاريعهم الدينية، بل وحتى في مشاريعهم الدنيوية، وهي: التخطيط والإعداد، فالعمل لهذا الدين يقتضي التخطيط، والعمل الجاد، وتوزيع الأدوار والمهام، وأي دعوة لا عمل فيها، ولا تخطيط فيها، لا يمكن أن تنجح.
ها هو محمد -صلى الله عليه وسلم- عمل وخطط في حادثة الهجرة، اتخذ صاحباً، ودليلاً خريتاً، عارفا بالطريق، مع السرية والتخفي والاختباء في الغار.
تخفيف من خصمي بظل جناحه | فعينيَّ ترى خصمي وليس يراني |
فلو تسأل الأيام عني ما درت | وأين مكاني ما عرفن مكاني |
إن أي أمة بلا إعداد وتخطيط وعمل، لا عزة لها، ولا مكان لها على الخارطة: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الأنفال:60].
إننا -معاشر المؤمنين- نتذكر بالهجرة إخواناً لنا في أرجاء المعمورة من المسلمين أرغموا على هجرة ديارهم وأوطانهم، فعل بهم الكفرة الأفاعيل، تربصوا بهم الدوائر، ووقفوا لدعوة الخير كل مرصد، يقطعون عليهم الطريق، ويعذبون أهل الإسلام عذاباً شديداً، لا لشيء إلا أنهم قالوا: ربنا الله! أين هم؟
في فلسطين وبقاع شتى، لا لشيء إلا أن أصولهم إسلامية، لا لشيء إلا أن هؤلاء قلوبهم تهفوا إلى مكة والبيت العتيق، ويتوجهون إليه كل يوم خمس مرات.
فنسأل الله القوي القادر الذي رد المهاجر الأول إلى وطنه فاتحاً منصوراً، أن يرد المسلمين اللاجئين والمهجرين إلى أوطانهم وديارهم، وأن يؤمنهم من أعدائهم، وأن يكف عنهم شر الفجار والكفار والأشرار.
ألا فاتقوا الله -يا عباد الله- وقفوا وقفة المهاجر بنفسه، وإن لم يهاجر بجسمه وحسه، فلنهاجر إلى الله -تعالى- بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا، لنهجر المعاصي وأهلها، يغفر الله -جل وعلا- ذنبنا.