السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لقد أنذرت هاتان الآيتان، وما في معناهما من كتاب الله إنذاراً صارخاً من عواقب الذنوب وشؤم العصيان، وأعلنت لكم بوضوح بأن ما أُصِيبت به أي أُمَّة من تحجر أفئدة، وموت قلوب، وتفكك صلات، وفشل في قيادة أو سياسة، ونحو ذلكم كانتزاع بركة أرزاق أو مياهٍ وأمطار، -إنما ذلكم من جرّاء العصيان وشؤم الأعمال السيئة ..
الحمد لله الذي نوّر قلوب المؤمنين بنور الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له يجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيها أيُّها الناس: لقد أنزل الله القرآن الكريم على أشرف رسول وأكرم إنسان هدىً ونوراً، وبينات من الهدى والفرقان، فيه آيات بيّنات وسبُل واضحات من اتّخذه إماماً وقائداً سعد في دنياه وفاز في أُخراه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97] ومن أعرض عن ضلَّ في دنياه وشقي في أخراه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طـه:124]
ولقد أنزل تعالى في هذا القرآن الكريم: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30]، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96]
أيُّها المسلمون: لقد أنذرت هاتان الآيتان، وما في معناهما من كتاب الله إنذاراً صارخاً من عواقب الذنوب وشؤم العصيان، وأعلنت لكم بوضوح بأن ما أُصِيبت به أي أُمَّة من تحجر أفئدة، وموت قلوب، وتفكك صلات، وفشل في قيادة أو سياسة، ونحو ذلكم كانتزاع بركة أرزاق أو مياهٍ وأمطار، -إنما ذلكم من جرّاء العصيان وشؤم الأعمال السيئة.
فالله سبحانه وتعالى لا يغيّر ما بقومٍ من نعمة بنقمةٍ أو عافيةٍ، ببلاءٍ أو غنًى بفقر أو أمن بخوف، أو سرور بحزنٍ، أو عزٍّ بذلّ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم فيبدِّلوا الشكر بالكفران، والطاعة بالعصيان، تلكم سنَّةُ الله في خلقه ولن تجد لسنّة الله تلك تبديلاً: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11]
وفيما قصَّه الله علينا في كتابه الكريم عن مصير قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، ومكذبي موسى، وقوله تعالى بعد ذلك: (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40]
في هذا كله أقوى دليل، وأكبرُ رادع وأعظمُ واعظٍ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، ولذا قال تعالى بعد قصصهم: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120]
فاتّقوا الله -عباد الله-، واحذروا محارم الله، فإن لها حامياً غيوراً يراقب السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، احذروا المعاصي فإن ضررها على الأفراد والمجتمعات لأشد وأعظَم من ضررِ السُّموم على الأَجسام.
وإنَّها لتخلُق في نفوس أهلها التبَاغُض والعداء، وتُنزِلُ في قلوبهم وحشةً وقلقاً لا يجتمعُ مَعهُما أُنس أو راحة، وظلمة وجهلاً لا يجتَمِعُ معهما نور أو علم روحيّ، يقول تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف:5]
ويقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: "إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوَّة في البدن، ومحبة في قلوب الناس، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصاناً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق".
ولما جلس الإمام الشافعي إلى مالك -رحمهما الله- ليأْخُذ عنْهُ شيئاً من العلم أُعجِب مالك بذكاء الشَّافِعِي وفطنته وفهمه فقال له: "إنِّي أرى الله قد ألقى في قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية".
من هذه الآثار وما تقدمها من نصوص، يدرك العاقل ومريد النجاح، يدرك ذوو الصدارة والقيادة والوجاهة أنَّ للمعاصي خطراً كبيراً على قلب الإنسان وعلمه وأَمْنِه، ومعيشته ومكانته في نفوس البشر، وأنها من أقوى الأسباب في نفرة من صاحبها وانتزاع حبه في نفوسهم، بل وهوانه عليهم (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج:18]
فاتَّقوا الله -أيُّها المسلمون-، وجانبوا المعاصي تسلموا من أخطارها، ولوذوا بحمى الطاعة، واستظلوا بظل العبادة، فإنَّها حصن المؤمنين ومتعة قلوبهم، ولذة أرواحهم التي لا يعادلها أي متعة أو لذة سوى متعة ولذة الجزاء؛ لأنها متعة خدمة رب العالمين، ولذة الوقوف بين يدي أحكم الحاكمين.
ولذا كان -صلى الله عليه وسلم- ما خرج من طاعة إلاَّ ودخل في طاعة أُخرى؛ ليَبْقى دوماً موصولاً بربِّه بطاعتِهِ إيَّاه. يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى* وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طـه:74-76]
أقول قولي هذا، وأسأل الله تعالى ألاَّ يزيغ قلوبنا، وأن يعامِلَنا بعفوه، وأن يستعملنا في طاعتِهِ، إنه تعالى غفور رحيم.