البحث

عبارات مقترحة:

الشافي

كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

المنان

المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...

الخوف من الله

العربية

المؤلف أحمد بن عبد العزيز الشاوي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. ثمرات الخوف من الله تعالى .
  2. حالنا يوم أن ضعف خوف الله في قلوبنا .
  3. الأسباب الباعثة لمخافة الله تعالى .
  4. الخوف من الله تعالى دأب الأنبياء والصالحين .
  5. إفراد الله تعالى بعبادة الخوف .
  6. أمارات الخوف من الله تعالى .

اقتباس

إنّه سمة المؤمنين، وآية المتقين، وهو طريق الأمن في الآخرة. إنّه -أيّها المؤمنون-: الخوف من الله. إنّه هو المانع للذنب، العاصم من الخطأ، الحافظ من الزلل، المبعد عن الخلل؛ وأنّى لقلب لم يزرع فيه خوف الله أن يرتدع عن الهوى؟! وكيف لفؤاد لم تسكنه خشية الله، والهيبة لجلاله، والوجل من بطشه، والإشفاق من وعيده، كيف له أن يعمر بالطاعة ويتجافى عن المعصية، ويستوحش من الذنب؟!.

الخطبة الأولى:

الحمد لله ذي الملك والملكوت، والعزة والجبروت، والكبرياء والعظمة، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، حيّ قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، بيده القسط يخفضه ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، الكبرياء رداؤه، والعظمة إزاره.

والصلاة والسلام على خير الأنام، من زكّى اللهُ بصرَه فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) [النجم:17]، وزكّى عقله فقال: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) [النجم:2]، وزكّى فؤاده فقال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم:11]، وزكّى لسانه فقال: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) [النجم:3]، وزكّاه كله فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي التقى والنهى، وسلم تسليما كثيرا.

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله ربكم، فإنّ عذابه أليم، وأخذه شديد، إنّه سوط الله، يقوّم به الشاردين عن بابه، ويردّهم به إلى رحابه، كم فكّ الله به من أسير شهوة ملكت عليه نفسه، وأبعدته عن ربه! كم أطلق من سجين لذّات، أطبقت عليه سرادقها! وكم كسر من قيود مستعبد لهواه، متأله له من دون الله! كم أعان على خلق كريم! وكم كفّ عن خلق ذميم! كم أطفأ من نار حسد وحقد! وكم منع من إساءة وتعدّ وظلم! كم أيقظ من غافل عاش طول عمره في الشهوات معرضا عن الله -تعالى- والدار الآخرة! كم به من زانية عفّت، وغانية تنسّكت!.

إنّه سمة المؤمنين، وآية المتقين، وهو طريق الأمن في الآخرة. إنّه -أيّها المؤمنون-: الخوف من الله.

إنّه هو المانع للذنب، العاصم من الخطأ، الحافظ من الزلل، المبعد عن الخلل؛ وأنّى لقلب لم يزرع فيه خوف الله أن يرتدع عن الهوى؟! وكيف لفؤاد لم تسكنه خشية الله، والهيبة لجلاله، والوجل من بطشه، والإشفاق من وعيده؛ كيف له أن يعمر بالطاعة ويتجافى عن المعصية، ويستوحش من الذنب؟!.

وما كثرت الذنوب، وأظلمت القلوب، إلّا لقلة الخوف من علام الغيوب؛ تحيط بنا العبر، وتكثر الحوادث، وتعظم الكوارث، وتفتت الأمم، وتحل النقم، والأنفس لاهية، والأفكار ساهية، وحبال التقوى واهية.

قلوبنا تحجرت، وأحاسيسنا تبلدت، وجوارحنا عطّلت، لا قلب يخشع، ولا نفس تشبع، ولا عين تدمع، إلّا من رحم الله.

أتخمت البيوت بالمعاصي، وملئت العقول بالشبهات، وأترعت النفوس بالشهوات، تُسمع المعصية وقلّ من ينكرها، ويشاهد المنكر وكأنّه المعروف، يجالس صاحب المعصية ويؤاكل ويشارب مرتكب الكبيرة دون حرج في النفس من فعله أو إنكار في القلب لسلوكه!.

هذه -أيّها المسلمون- حالنا يوم أن ضعف خوف الله من قلوبنا، وقلت هيبة الله في نفوسنا.

لم لا نخشى الله؟ أليس هو الله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى؟ أليس هو الإله العظيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟ أليس هو الله العظيم الذي تتابع برّه، واتصل برّه، وعمّ عطاؤه، وكملت فواضله، وتمت نوافله، وبرّ قسمه، وصدق وعده، وحقّ على أعدائه وعيده؟.

فسبحان من تعنو الوجوه لوجهه

ويلقاه رهن الذلّ من هو جبّار

ومن كلّ شيء خاضع تحت قهره

تصرفه في الطوع والقهر أقدار

عظيم يهون الأعظمون لعزه

شديد القوى كاف لذي القهر قهّار

لماذا لا نخاف الله؟ أليس كل ما في هذا الكون شاهدا على عظمته وقدرته؟ السماء ونجومها، والكواكب وأفلاكها، والبحار وما فيها، والجبال وما يعتليها، والأنهار ومجاريها، والقفار وما تحتويه وما يحتويها، والشجر وأوراقه، والزهر وأحداقه، والبرق وضوءه، والرعد وصوته، والليل وأستاره، والنهار وأنواره، والزمان وما يطويه، والمكان وما يقع فيه، والطيور وأعشاشها، والوحوش وأوكارها، والدواب والحيات والحشرات والديدان وكل ما في هذا الكون شاهد على عظمة الجبّار جلّ جلاله، وكلّها ساجدة عابدة، ذاكرة شاكرة، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:44].

لماذا لا نخاف من الله؟ وهو العظيم الذي قهر بعظمته كل شيء، العظيم في ذاته، العظيم في صفاته، العظيم في قدرته وعلمه.

إنّه الله الذي يطوي السموات يوم القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده، ثمّ يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثمّ يطوي الأرضيين، ثمّ يأخذهنّ ويقول: أنا الملك، أين الجبارون أين المتكبرون؟.

إنّه الله الذي خلق السموات والأرض، بينهما مسيرة خمسمائة عام، وما بين كلّ سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش استوى، جلّ جلاله.

إنّه الله! ما موضع كرسيه من العرش إلّا مثل حلقة في أرض فلاة! إنّه الله الذي له عباد مكرمون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. البيت المعمور في السماء يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة!.

إنّه الله! ربّ جبريل، ذاك القويّ المكين، له ستمائة جناح، بطرف جناح واحد اقتلع قرى قوم لوط من أسافلها، ورفعهم إلى السماء ثمّ خسف بهم، وبجناحه سدّ الأفق، جبريل هذا رآه النبيّ  -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به وكأنّه حلس بال، بجانب عظمة الخالق جلّ جلاله!.

إنّه الله جلّ جلاله.

والله أكبر ظاهر ما فوقه

شيء وشأن الله أعظم شان

والله أكبر عرشه وسع السما

والأرض والكرسيّ ذا الأركان

وكذلك الكرسيّ قد وسع الطبا

ق السبع والأرضين بالبرهان

والربّ فوق العرش والكرسيّ لا

يخفى عليه خواطر الإنسان

فلماذا لا نخاف الله؟ لماذا لا نخاف من الله، والملائكة يخافونه من فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهم من خشيته مشفقون؟ وخافه الأنبياء والمرسلون، الذين قال الله عنهم: (فاسْتجبْنا له ووهبْنا له يحْيى وأصْلحْنا له زوْجه إنّهمْ كانوا يسارعون في الْخيْرات ويدْعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) [الأنبياء:90].

وخافه سيّد الورى، وخير من وطئ الثرى، فقال: "والله إنّي لأعلمكم بالله، وأشدّكم له خشية".

وخافه الصالحون من عباده الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار.

بكى يوما عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- فبكت فاطمة زوجه، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلمّا تجلت عنهم العبرة قالت له فاطمة: يا أمير المؤمنين، ما الذي أبكاك؟ قال: ذكرت منصرف الناس من بين يديّ الله -عز وجل-، فريق في الجنة وفريق في السعير.

لماذا لا نخاف من الله؟ أليس هو الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويقبض ويبسط، بيده الملك وله الخلق والأمر، وكلّ يوم هو في شأن، يعزّ ويذلّ، يغني ويفقر، يمرض ويشفي؟.

إنّه الله الذي هو على كلّ شيء قدير، (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59].

إنّه الله الذي إذا أراد شيئا فإنّما يقول له كن فيكون، (فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى) [النجم:55].

لماذا نخشى المخلوق وننسى الخالق؟ لماذا نستخفي من الناس ولا نستخفي من الله، وهو الذي أحاط بكلّ شيء علما؟.

لماذا لا نخاف من الله، وقد علمنا في كتابه كيف عذّب المعاندين من عباده؟ إنّه الله الذي أهلك عادا بالريح العقيم، وثمود بالصيحة، وفرعون وقومه بالغرق، وقوم سبأ بالسيل العرم، وقوم نوح بالطوفان، وقوم لوط بحجارة من سجيل، وللظالمين أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد!.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر:6-13].

فما أهون العباد على الله إذا هم عصوه! بينما هم أمم قاهرة، ودول ظاهرة، إذ عصوا الله فغشيهم من العذاب ما غشيهم، وإنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

أيّها المسلمون: إنّ الخوف المحمود هو ما أورث قربا من الله وبعدا عن معاصيه، والخوف إذا باشر قلب العبد فاض أثره على جوارحه ولا بد، فكفّت عن المعاصي، والتزمت بالطاعات؛ استدراكا لما فات، واستعدادا لما يستقبل.

ومَن صدق خوفه من الله -تعالى- هرب إليه من كلّ ما يسخطه ويبغضه، وكان متيقظا لرقابة الله -تعالى- عليه في خواطر قلبه، ولفظات لسانه، وأعمال جوارحه.

ومن صدق خوفه لم يترك نفسه دون مراقبة ومحاسبة، وكلّما قوي خوفه قويت مراقبته ومحاسبته.

ومن لم يترك المعاصي فليس بخائف، كما قيل: ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه.

الخائف من الله يبادر بالخيرات قبل الممات، ويغتنم الأيام والساعات. الخائف من الله ذاكر لله -سبحانه-، وخاشع متذلل منكسر بين يديه، وبالجملة؛ فإنّ الخائف من الله -تعالى- ملتزم تقواه ظاهرا وباطنا، مبادر إليه بجميع الخيرات التي تبلغه مأمنه، كما في الحديث: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل؛ ألا إن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة!".

وقد قال ربنا: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40-41]، فالذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري، قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة، فظل في دائرة الطاعة.

الخوف من الله -أيّها المسلمون- هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة، وقلّ أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى، والله -تعالى- لم يكلف الإنسان ألّا يشتجر في نفسه الهوى، فهو -سبحانه- يعلم أنّ هذا خارج عن طاقته، ولكنّه كلّفه أن ينهاها ويكبحها، ويمسك بزمامها، وأن يستعين في هذا بالخوف، الخوف من مقام ربه الجليل العظيم.

أقول هذا القول وأستغفر الله.

الخطبة الثانية:

أما بعد: الخوف من الله -عز وجل- عبادة قلبية، لا يجوز أن تصرف لغير الله، فالله -عز وجل- يقول لنبيه: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) [الأحزاب:37]، ويقول لعباده: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) [التوبة:13].

وإنّ من أسباب إفراد الله -عز وجل- بالخوف: علم العبد أنّ الله -عز وجل- وحده الذي يملك الضر والنفع، ولا تتحرك مثقال ذرة ولا أصغر منها ولا أكبر إلّا بمشيئته -سبحانه- وعلمه وحوله وقوته، وفي وصية رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: "واعلم أنّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلّا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف".

بل قال الله -تعالى- لأعظم خلقه: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) [الجن:21]، وبقدر خوفك من الله يهابك الخلق.

عن عبد الله البعمري الزاهد، قال: إنّ من غفلتك عن نفسك إعراضك عن الله بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى عن المنكر خوفا ممن لا يملك لك ضرا ولا نفعا، من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة المخلوقين، نزعت منه الهيبة، فلو أمر بعض ولده لاستخفّ به.

إنّ الكثيرين من المسلمين اليوم ليشفقون من اتباع شريعة الله، والسير على هداه، يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية، وإن هي إلّا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) [القصص:57]، فلمّا اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقلّ من الزمان!.

إنّ أمثال هؤلاء نسوا الله، ونسوا أنّه وحده هو الحافظ، وأنّه وحده هو الحامي، وأنّ قوى الأرض كلّها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله، وأنّ قوى الأرض كلّها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله، (إِنْ يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:160].

إنّ هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وأمثالهم في الأرض كلّها في كلّ زمان ومكان، أولئك الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار، ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء، إنّ هؤلاء جميعا حفنة من الأرض تعيش على هذه الهباءة الصغيرة المسماة بالأرض، بين هذه الكواكب والنجوم والمجموعات الفلكية، والعوالم التي لا يعلم عددها ولا مددها إلّا الله، فلا يبلغ هؤلاء ومن وراءهم من الأتباع، بل لا يبلغ أهل هذه الأرض كلّها، أن يكونوا هباء تتقاذفه النسمات، لا؛ بل إنّهم لا يبلغون شيئا أصلا حين يقفون أمام قوة الله. من خاف الله خاف منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء!.

أيّها المسلمون: إنّ ربّكم يناديكم من على عرشه بكلمات في كتابه نصّها: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة:44]، (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [النحل:51]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان:33].

فمن منّا -يا عباد الله- استجاب لنداء الله؟ من منّا إذا دعته نفسه إلى مخالفة أمر الله قال: إني أخاف الله ربّ العالمين؟ من منّا إذا دعته امرأة ذات منصب وجمال قال: إنّي أخاف الله؟ من منّا إذا سولت له نفسه تضييع الصلوات وترك الجماعات واتباع الشهوات عصاها وقال: إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم؟.

أخي، أيّها العاصي، وكلّنا كذلك. أخي، أيّها المذنب، وكلّنا من أولئك: إنّي أحذّرك ونفسي مقاما عنت فيه الوجوه، وخشعت فيه الأصوات، وذلّ فيه الجبّارون، وتضعضع فيه المتكبرون، واستسلم فيه الأولون والآخرون، بالذلّ والمسكنة والخضوع لرب العالمين، وقد جمعهم الواحد القهار، الذي لا ثاني له في الهيبة، ولا مشارك في حكمه، جمعهم بعد طول البلى للفصل والقضاء، في يوم آل فيه على نفسه أن لا يترك فيه عبدا أمره في الدنيا ونهاه، حتى يسأله عن عمله في سرّه وعلانيته.

فانظر بأيّ بدن تقف بين يديه، وأعد للسؤال جوابا وللجواب صوابا، فإنّه لا يصدّق إلّا الصادقون، ولا يكذب إلّا الكاذبون.

فليكن أولّ ما تبدأ به من العدة لذلك المقام، تقوى الله -عز وجل- في السرّ والعلانية، ليأمن قلبك في ذلك المقام مع قلوب المتقين حين ينجز لهم ما وعدهم من الأمن والغبطة والسرور.

أسأل الله -تعالى- أن يجعلنا ممن يخافه ويتقيه، ويطيعه ولا يعصيه.

هذا؛ وصلوا وسلموا...