شرح حديث جبريل عليه السلام: رسالةٌ مُقتبسة من كتاب: «جامع العلوم والحِكَم» للإمام ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -، وهي في شرح الحديث الثاني في الكتاب، نظرًا لأهميته وعِظَم شأنه؛ لأنه في بيان الإسلام وأركانه، والإيمان وأركانه، والإحسان ومعناه، وبيان أن هذا الحديث يجمعُ دينَ المسلم، ويجب على كل مسلم أن يتعلَّمه ويقِف على معانيه، ويعمل به.
التفاصيل
شرح حديث جبريل عليه السلام نص الحديث شرح الحديث شرح حديث جبريل عليه السلامابن رجب الحنبلي نص الحديثعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد، الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» قال: صدقت، قال: فعجبنا له! يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». قال: فأخبرني عن الساعة، قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل». قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن تري الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان»، ثم انطلق، فلبثت مليًّا، ثم قال لي: «يا عمر، أتدري من السائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم» رواه مسلم. شرح الحديثهذا الحديث تفرد به مسلم عن البخاري بإخراجه فخرجه من طريق كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. فذكر الحديث بطوله. ثم خرجه من طرق أخرى بعضها يرجع إلى عبد الله بن بريدة وبعضها يرجع إلى يحيى بن يعمر وذكر أن في بعض ألفاظها زيادة ونقصانا وخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق سليمان التيمي عن يحيى بن يعمر وقد خرجه مسلم من هذا الطريق إلا أنه لم يذكر لفظه وفيه زيادات منها في الإسلام، قال: «وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة، وأن تتم الوضوء، وتصوم رمضان» قال: فإذا أنا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: «نعم» وقال في الإيمان: «وتؤمن بالجنة والنار والميزان»، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: «نعم»، وقال في آخره: «هذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم، خذوا عنه، والذي نفسي بيده ما شبه على منذ أتاني قبل مرتي هذه وما عرفته حتى ولى»([1]) وخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا بارزا للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر» قال: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان»، قال: يا رسول الله! ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك» قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها؛ إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا رأيت الحفاة العراة رءوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله» ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 34]، قال: ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «على بالرجل، فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئًا» فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم»([2]) وخرجه مسلم بسياق أتم من هذا، وفيه في خصال الإيمان: «وتؤمن بالقدر كله»، وقال في الإحسان: «أن تخشى الله كأنك تراه»([3]). وخرجه الإمام أحمد في مسنده([4]) من حديث شهر بن حوشب، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، ومن حديث شهر بن حوشب أيضًا عن ابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي حديثه قال: ونسمع رجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا نرى الذي يكلمه، ولا نسمع كلامه، وهذا يرده حديث عمر الذي خرجه مسلم وهو أصح. وقد روي حديث عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس بن مالك وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهما، وهو حديث عظيم الشأن جدًا؛ يشتمل على شرح الدين كله ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخره: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»، بعد أن شرح درجة الإسلام، ودرجة الإيمان، ودرجة الإحسان؛ فجعل ذلك كله دينا، واختلفت الرواية في تقديم الإسلام على الإيمان وعكسه، ففي حديث عمر الذي خرجه مسلم أنه بدأ بالسؤال عن الإسلام، وفي حديث الترمذي وغيره أنه بدأ بالسؤال عن الإيمان، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وجاء في بعض روايات حديث عمر أنه سأله عن الإحسان بين الإسلام والإيمان. فأما الإسلام فقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل، وأول ذلك «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، وهو عمل اللسان ثم «إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» وهي منقسمة إلى عمل بدني كالصلاة والصوم، وإلى عمل مالي وهو إيتاء الزكاة، وإلى ما هو مركب منهما كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة. وفي رواية ابن حبان أضاف إلى ذلك: الاعتمار والغسل من الجنابة وإتمام الوضوء وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام، وإنما ذكر ههنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني عليها كما سيأتى شرح ذلك في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: «بني الإسلام على خمس...» في موضعه إن شاء الله تعالى. وقوله في بعض الروايات: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: «نعم»، يدل على أن من أكمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس صار مسلمًا حقا، مع أن من أقر بالشهادتين صار مسلمًا حكمًا، فإذا دخل في الإسلام بذلك ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام، ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام، وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقية مباني الإسلام الخمس، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»([5]). وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -؛ أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: «أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»([6]). وفي صحيح الحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن للإسلام ضوءًا ومنارًا كمنار الطريق»، بين ذلك: «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئًا فهو سهم من الإسلام تركه، ومن يتركهن فقد نبذ الإسلام وراء ظهره»([7]). وخرج ابن مردويه من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «للإسلام ضياء ونور وعلامات كمنار الطريق، فرأسها وجماعها: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإتمام الوضوء، والحكم بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وطاعة ولاة الأمر، وتسليمكم على أنفسكم، وتسليمكم على أهليكم إذا دخلتم بيوتكم، وتسليمكم على بني آدم إذا لقيتموهم». وفي إسناده ضعف ولعله موقوف ([8]). وصحَّ من حديث أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: «الإسلام ثمانية أسهم؛ الإسلام سهم والصلاة سهم والزكاة سهم والجهاد سهم وصوم رمضان سهم ولعل السهم الثامن الحج والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم وخاب من لا سهم له».وخرجه البزار مرفوعًا والموقوف أصح ([9]). ورواه بعضهم عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خرجه أبو يعلى الموصلي وغيره، والموقوف على حذيفة أصح. قال الدارقطني وغيره: وقوله يعني الإسلام سهم؛ أي الشهادتين؛ لأنهما علم الإسلام، وبهما يصير الإنسان مسلما، وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضًا كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. ويدل على هذا أيضًا ما خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ضرب الله مثلًا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أحد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحته تلجه؛ والصراط الإسلام والسوران حدود الله عز وجل والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من جوف الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم»([10]). زاد الترمذي ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: 25]. ففي هذا المثل الذي ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه، ونهى عن مجاوزة حدوده وأن من ارتكب شيئًا من المحرمات فقد تعدى حدوده. وأما الإيمان فقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر -البعث بعد الموت- وتؤمن بالقدر خيره وشره» وقد ذكر الله في كتابه الإيمان بهذه الأصول الخمسة في مواضع كقوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]، وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيَّينَ﴾ الآية [البقرة: 277]، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 3-4]. والإيمان بالرسل يلزم منه الإيمان بجميع ما أخبروا به من الملائكة والأنبياء والكتاب والبعث والقدر وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا به، وغير ذلك من صفات الله تعالى، وصفات اليوم الآخر كالصراط والميزان والجنة والنار، وقد أدخل في الإيمان الإيمانُ بالقدر خيره وشره؛ ولأجل هذه الكلمة روى ابن عمر - رضي الله عنهما - هذا الحديث محتجًا به على من أنكر القدر وزعم أن الأمر أُنف، يعني أنه مستأنف، لم يسبق به سابق قدر من الله عز وجل، وقد غلظ عبد الله بن عمر عليهم وتبرأ منهم وأخبر أنه لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر. والإيمان بالقدر على درجتين: إحداهما: الإيمان بأن الله تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. والدرجة الثانية: إن الله خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان، وشاءها منهم؛ فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة وتنكرها القدرية، والدرجة الأولى أثبتها كثير من القدرية ونفاها غلاتهم كمعبد الجهني الذي سئل ابن عمر عن مقالته، وكعمرو بن عبيد وغيره. وقد قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا فقد كفروا. يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن الله تعالى قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ - فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية، فقد خصموا؛ لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه. وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد على تكفيره، وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام. فإن قيل: فقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلها من الإسلام لا من الإيمان، والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان. وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكارًا شديدًا، وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولًا محدثا سعيد بن جبير وميمون بن مهران وقتادة وأيوب السَّخْتِيانِي والنخعي والزهري وإبراهيم ويحيى بن أبي كثير وغيرهم وقال الثوري: هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره، وقال الأوزاعي: كان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار: أما بعد فإن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. ذكره البخاري في صحيحه([11]). قيل: الأمر على ما ذكره وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: 2-4]. وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لوفد عبد القيس: «آمركم بأربع: الإيمان بالله وحده، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس»([12]). وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان بضع وسبعون - أو: بضع وستون شعبه - فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» ولفظه لمسلم([13]). وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»([14]). فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى الإيمان لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها لأن الاسم لا ينتفى إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان وتفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون مسمى الإيمان فإنه يتضح بتقرير أصل وهو أن من الأسماء ما يكون شاملًا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالاًّ على بعض تلك المسميات والاسم المقرون به دال على باقيها وهذا كاسم الفقير والمسكين فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات والآخر على باقيها فكهذا اسم الإسلام والإيمان، إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده ودل الآخر على الباقي. وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة، قال أبو بكر الإسماعيلي في رسالته إلى أهل الجبل: قال كثير من أهل السنة والجماعة إن الإيمان قول وعمل والإسلام فعل ما فرض الله على الإنسان أن يفعله، إذا ذكر كل اسم على حدته مضمومًا إلى آخر فقيل المؤمنون والمسلمون جميعا مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد به الآخر وإذا ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم. وقد ذكر هذا المعنى أيضًا الخطابي في كتابه (معالم السنن)([15]) وتبعه عليه جماعة من العلماء من بعده، ويدل على صحة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الإيمان عند ذكره مفردًا في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام المقرون بالإيمان في حديث جبريل، وفسر في حديث آخر الإسلام بما فسر به الإيمان كما في مسند الإمام أحمد([16]) عن عمرو بن عَبَسة قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: «أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك»، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان»، قال: وما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت» قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: «الهجرة» قال: فما الهجرة؟ قال: «أن تهجر السوء» قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: «الجهاد». فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان أفضل الإسلام، وأدخل فيه الأعمال، وبهذا التفصيل يظهر تحقيق القول في مسألة الإيمان والإسلام هل هما واحد أو هما مختلفان، فإن أهل السنة والحديث مختلفون في ذلك وصنفوا في ذلك تصانيف متعددة، فمنهم من يدعي أن جمهور أهل السنة على أنهما شيء واحد منهم محمد بن نصر المروزي وابن عبد البر وقد روي هذا القول عن سفيان الثوري من رواية أيوب بن سويد الرملي عنه وأيوب فيه ضعف، ومنهم من يحكي عن أهل السنة التفريق بينهما كأبي بكر بن السمعاني وغيره وقد نقل هذا التفريق بينهما عن كثير من السلف منهم قتادة وداود بن أبي هند وأبو جعفر الباقر والزهري وحماد بن زيد وابن مهدي وشريك وابن أبي ذئب وأحمد بن حنبل وأبو خيثمة ويحيى بن معين وغيرهم على اختلاف بينهم في صفة التفريق بينهما، وكان الحسن وابن سيرين يقولان: مسلم، ويهابان: مؤمن، وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف. فيقال: إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق. والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له، وذلك يكون بالعمل وهو الدين كما سمي الله في كتابه الإسلام دينا. وفي حديث جبريل سمي النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام والإيمان والإحسان دينا وهذا أيضًا مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر، وإنما يفرق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب وبالإسلام جنس العمل. وفي المسند للإمام أحمد عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب»([17]) وهذا لأن الأعمال تظهر علانية والتصديق في القلب لا يظهر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه إذا صلى على الميت: «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان»([18])؛ لأن العمل بالجوارح إنما يتمكن منه في الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير التصديق بالقلب ومن هنا قال المحققون من العلماء كل مؤمن مسلم، فإن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام، وليس كل مسلم مؤمنا فإنه قد يكون الإيمان ضعيفا فلا يتحقق القلب به تحققا تامًّا مع عمل جوارحه بأعمال الإسلام، فيكون مسلمًا، وليس بمؤمن الإيمان التام كما قال تعالى: ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيْمَانُ فِي قُلُوبِكُمُ﴾ [الحجرات: 14]، ولم يكونوا منافقين بالكلية على أصح التفسيرين وهو قول ابن عباس وغيره، بل كان إيمانهم ضعيفا ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ [الحجرات: 14] يعني لا ينقصكم من أجورها، فدل على أن معهم من الإيمان ما تقبل به أعمالهم، وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص لما قال له: لم تعط فلانا وهو مؤمن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أو مسلم»([19])، يشير إلى أنه لم يحقق مقام الإيمان وإنما هو في مقام الإسلام الظاهر ولا ريب أنه متي ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة أيضًا، لكن اسم الإيمان ينفى عمن ترك شيئًا من واجباته كما في قوله: «ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»، وقد اختلف أهل السنة هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان أو يقال: ليس بمؤمن لكنه مسلم على قولين؛ وهما روايتان عن أحمد. وأما اسم الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته وإنما ينفي بالإتيان بما ينافيه بالكلية ولا يعرف في شيء من السنة الصحيحة نفى الإسلام عمن ترك شيئًا من واجباته، كما ينفي الإيمان عمن ترك شيئًا من واجباته، وإن كان قد ورد إطلاق الكفر على فعل بعض المحرمات وإطلاق النفاق أيضًا، وقد اختلف العلماء هل يسمى مرتكب الكبائر كافرًا كفرًا أصغر أو منافقًا النفاق الأصغر، ولا أعلم أن أحدًا منهم أجاز إطلاق نفى اسم الإسلام عنه إلا أنه روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ما تارك الزكاة بمسلم، ويحتمل أنه كان يراه كافرًا بذلك خارجا عن الإسلام، وكذلك روي عن عمر فيمن تمكن من الحج ولم يحج أنهم ليسوا بمسلمين، والظاهر أنه كان يعتقد كفرهم ولهذا أراد أن يضرب عليهم الجزية بقوله: لم يدخلوا في الإسلام بعد فهم مستمرون على كتابيّتهم وإذا تبين أن اسم الإسلام لا ينتفي إلا بوجود ما ينافيه ويخرج عن الملة بالكلية، فاسم الإسلام إذا أطلق أو اقترن به المدح دخل فيه الإيمان كله من التصديق وغيره كما سبق في حديث عمرو بن عَبَسة. وخرج النسائي من حديث عقبة بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فغارت على قوم فقال رجل منهم: إني مسلم، فقتله رجل من السرية، فنمى الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال فيه قولًا شديدًا، فقال الرجل: إنما قالها تعوذا من القتل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنًا» ثلاث مرات، فلولا أن الإسلام المطلق يدخل فيه الإيمان والتصديق بالأصول الخمسة لم يصر من قال: أنا مسلم - مؤمنا بمجرد هذا القول، وقد أخبر الله تعالى عن ملكة سبأ أنها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة، قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44]، وأخبر عن يوسف عليه السلام أنه دعا بأن يموت على الإسلام. وهذا كله يدل على أن الإسلام المطلق يدخل فيه ما يدخل في الإيمان من التصديق. وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عدي أسلم تسلم». قلت: وما الإسلام؟ قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتشهد أنى رسول الله، وتؤمن بالأقدار كلها، خيرها وشرها، وحلوها ومرها». فهذا نص في أن الإيمان بالقدر من الإسلام. ثم إن الشهادتين من خصال الإسلام بغير نزاع، وليس المراد الإتيان بلفظهما دون التصديق بهما؛ فعلم أن التصديق بهما داخل في الإسلام، وقد فسر الإسلام المذكور في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران: 19] بالتوحيد والتصديق طائفةٌ من السلف منهم محمد بن جعفر بن الزبير، وأما إذا نفي الإيمان عن أحد وأثبت له الإسلام كالأعراب الذين أخبر الله عنهم فإنه ينتفي عنهم رسوخ الإيمان في القلب، وتثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة مع نوع إيمان يصحح لهم العمل؛ إذ لولا هذا القدر من الإيمان لم يكونوا مسلمين، وإنما نفي عنهم الإيمان لانتفاء ذوق حقائقه ونقص بعض واجباته وهذا مبني على أن التصديق القائم بالقلوب يتفاضل وهذا هو الصحيح، وهو أصح الروايتين عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل فإن إيمان الصديقين الذين يتجلى الغيب لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك ولا الارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شكك لدخله الشك؛ ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتبة الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه، وهذا لا يحصل لعموم المؤمنين، ومن هنا قال بعضهم: ما سبقكم أبو بكر - رضي الله عنه - بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره. وسئل ابن عمر - رضي الله عنهما -: هل كانت الصحابة رضي الله عنهم يضحكون؟ فقال: نعم وإن الإيمان في قلوبهم أمثال الجبال، فأين هذا ممن الإيمان في قلبه ما يزن ذرة أو شعيرة، كالذين يخرجون من أهل التوحيد من النار فهؤلاء يصح أن يقال لم يدخل الإيمان في قلوبهم لضعفه عندهم. وهذه المسائل أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق مسائل عظيمة جدًا فإن الله عز وجل علق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة واستحقاق الجنة والنار والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية وأدخلوهم في دائرة الكفر وعاملوهم معاملة الكفار واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة بالمنزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان. وقد صنف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسائل تصانيف متعددة وممن صنف في الإيمان من أئمة السلف الإمام أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن أسلم الطوسي وكثرت فيه التصانيف بعدهم من جميع الطوائف وقد ذكرنا هاهنا نكتًا جامعة لأصول كثيرة من هذه المسائل والاختلاف فيها وفيه إن شاء الله كفاية. فصلقد تقدم أن الأعمال تدخل في مسمى الإسلام ومسمى الإيمان أيضًا وذكرنا ما يدخل في ذلك من أعمال الجوارح الظاهرة ويدخل في مسماها أيضًا أعمال الجوارح الباطنة فيدخل في أعمال الإسلام إخلاص الدين لله تعالى والنصح له ولعباده وسلامة القلب لهم من الغش والحسد والحقد وتوابع ذلك من أنواع الأذى ويدخل في مسمى الإيمان وَجَلُ القلوب من ذكر الله وخشوعها عند سماع ذكره وكتابه وزيادة الإيمان بذلك وتحقيق التوكل على الله عز وجل وخوف الله سرًّا وعلانية والرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولًا، واختيار تلف النفوس بأعظم أنواع الآلام على الكفر واستشعار قرب الله من العبد ودوام استحضاره وإيثار محبة الله ورسوله على محبة ما سواهما والحب في الله والبغض فيه والعطاء له والمنع له وأن يكون جميع الحركات والسكنات له وسماحة النفوس بالطاعة المالية والبدنية والاستبشار بعمل الحسنات والفرح بها والمساءة بعمل السيئات والحزن عليها، وإيثار المؤمنين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنفسهم وأموالهم وكثرة الحياء وحسن الخلق ومحبة ما يحبه لنفسه ولإخوانه المؤمنين ومواساة المؤمنين خصوصًا الجيران ومعاضدة المؤمنين ومناصرتهم والحزن بما يحزنهم ولنذكر بعض النصوص الواردة بذلك فأما ما ورد في دخوله في اسم الإسلام ففي مسند الإمام أحمد والنسائي عن معاوية بن حيدة، قال: قلت: يا رسول الله! بالذي بعثك بالحق ما الذي بعثك الله به؟ قال: «الإسلام» قلت: وما الإسلام؟ قال: «أن تسلم قلبك لله تعالى وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة» وفي رواية قلت: وما آية الإسلام؟ قال: «أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكل المسلم على المسلم حرام»([20])، وفي السنن عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبته بالخيف من منى: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم»([21]) فأخبر أن هذه الثلاث الخصال تنفي الغل عن قلب المسلم. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل: أي المسلمين أفضل؟ فقال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»([22]). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»([23]). وأما ما ورد في دخوله في اسم الإيمان فمثل قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: 2-4]، وقوله: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحديد: 16]، وقوله: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، وقوله: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، وقوله: ﴿وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]. وفي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولًا»([24]) والرضا بربوبية الله يتضمن الرضا بعبادته وحده لا شريك له، وبالرضا بتدبيره للعبد واختياره له والرضا بالإسلام دينا يتضمن اختياره على سائر الأديان والرضا بمحمد رسولًا يتضمن الرضا بجميع ما جاء به من عند الله وقبول ذلك بالتسليم والانشراح كما قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» وفي رواية: «وجد بهن طعم الإيمان» وفي بعض الروايات: «طعم الإيمان وحلاوته»([25]). وفي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» وفي رواية: «من أهله وماله والناس أجمعين»([26]). وفي مسند الإمام أحمد عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وأن تحترق في النار أحب إليك من أن تشرك بالله شيئًا، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله، فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل حب الماء للظمآن في اليوم القائظ»، قلت: يا رسول الله! كيف لي بأن أعلم إني مؤمن؟ قال: «ما من أمتي -أو قال: هذه الأمة- عبد يعمل حسنة فيعلم أنها حسنة، وأن الله جازيه بها خيرًا، ولا يعمل سيئة فيعلم أنها سيئة، ويستغفر الله منها، ويعلم أنه لا يغفرها إلا الله - إلا وهو مؤمن»([27]). وفي المسند وغيره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»([28]). وفي مسند بقي بن مخلد عن رجل سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «صريح الإيمان إذا أسأت أو ظلمت عبدك أو أمتك أو أحدًا من الناس صمت وتصدقت وإذا أحسنت استبشرت». وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، ثم الذي إذا أشرف على طمع تركه لله عز وجل»([29]). وفيه أيضًا عن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: «طيب الكلام وإطعام الطعام» قلت: ما الإيمان؟ قال: «الصبر والسماحة» قلت: أي الإسلام أفضل؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: «خلق حسن»([30])، وقد فسر الحسن البصري الصبر والسماحة فقال: هو الصبر عن محارم الله، والسماحة بأداء فرائض الله عز وجل. وفي الترمذي وغيره عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»([31]). وخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة، وخرجه البزار في مسنده من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده بأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام - فذكر الحديث وفي آخره - فقال رجل: فما تزكية المرء نفسه يا رسول الله؟ قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان»([32]). وخرج أبو داود أول الحديث دون آخره. وخرج الطبراني من حديث عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت». وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحياء من الإيمان»([33]). وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قيد انقاد»([34]). وقال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10]. وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»([35]) وفي رواية لمسلم: «المؤمنون كرجل واحد» وفي رواية له أيضًا: «المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله». وفي الصحيحين عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»([36]) وشبك بين أصابعه. وفي مسند الإمام أحمد عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس»([37])، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه»([38]). وفي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»([39])، وفي صحيح البخاري عن أبي شريح الكعبي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن» قالوا: ومن ذاك يا رسول الله؟ قال: «من لا يأمن جاره بوائقه»([40]). وخرج الحاكم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع»([41]). وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث سهل بن معاذ الجهني عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله» زاد الإمام أحمد: «وأنكح لله فقد استكمل إيمانه»([42]). وفي رواية للإمام أحمد أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الإيمان، فقال: «أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله» فقال: وماذا يا رسول الله؟ قال: «وأن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك» وفي رواية له: «وأن تقول خيرًا أو تصمت»([43])، وفي هذا الحديث أن كثرة ذكر الله من أفضل الإيمان. وخرج أيضًا من حديث عمرو بن الجموح أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يستحق العبد صريح الإيمان حتى يحب لله، ويبغض لله؛ فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله تعالى»([44]). وخرج أيضًا من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أوثق عري الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله»([45]). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما ينال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئًا. خرجه ابن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي. فصلوأما الإحسان فقد جاء ذكره في القرآن في مواضع، تارة مقرونًا بالإيمان، وتارة مقرونا بالإسلام، وتارة مقرونا بالتقوى أو بالعمل الصالح، فالمقرون بالإيمان كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 93]، وكقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: 30] والمقرون بالإسلام كقوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ [البقرة: 112] وكقوله تعالى: ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ الآية [لقمان: 22] والمقرون بالتقوى كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، وقد يذكر مفردًا كقوله تعالى: ﴿للَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله عز وجل في الجنة، وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان، ولأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عيانًا في الآخرة. وعكس هذا ما أخبر الله تعالى به عن جزاء الكفار في الآخرة ﴿إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: 15]، وجعل ذلك جزاء لحالهم في الدنيا وهو تراكم الران على قلوبهم حتى حجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه الخ». يشير إلى أن العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة وهو استحضار قربه وأنه بين يديه كأنه يراه وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن تخشى الله كأنك تراه». ويوجب أيضًا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها. وقد وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة بهذه الوصية كما روى إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - أن أخشى الله كأني أراه فإن لم أكن أراه فإنه يراني. وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي فقال: «اعبد الله كأنك تراه». وخرجه النسائي من حديث زيد ابن أرقم مرفوعًا وموقوفا: «كن كأنك ترى الله فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وخرج الطبراني من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رجلًا قال: يا رسول الله حدثني بحديث واجعله موجزا. فقال:« صل صلاة مودع فإنك إن كنت لا تراه فإنه يراك». وفي حديث حارثة المشهور وقد روي من وجوه مرسلة وروي متصلا والمرسل أصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يا حارثة كيف أصبحت؟» قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: « انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة ». قال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة كيف يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار كيف يتعاوون فيها. قال: « أبصرت فالزم؛ عبدٌ نوَّر الله الإيمان في قلبه ». وروي من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصى رجلًا فقال له: « استحي من الله استحياءك من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك ». ويروى من وجه آخر مرسلًا: « استحي من ربك ». ويروى عن معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال: « استحِ من الله كما تستحي من رجل ذي هيبة من أهلك ». وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كشف العورة خاليا فقال: « الله أحق أن يستحيا منه ». ووصى أبو الدرداء رجلًا فقال له: اعبد الله كأنك تراه. وخطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف فلم يجبه، ثم لقيه بعد ذلك فاعتذر إليه وقال: كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا. أخرجه أبو نعيم وغيره. قوله - صلى الله عليه وسلم -: « فإن لم تكن تراه فإنه يراك ». قيل: إنه تعليل للأول؛ فإن العبد إذا أمر بمراقبة الله تعالى في العبادة واستحضار قربه من عبده حتى كأن العبد يراه، فإنه قد يشق ذلك عليه فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله يراه، ويطلع على سره وعلانيته وباطنه وظاهره ولا يخفى عليه شيء من أمره، فإذا تحقق هذا المقام سهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني وهو دوام التحقيق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيته حتى كأنه يراه. وقيل: بل هو إشارة إلى أن من شق عليه أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه فليستحي من نظره إليه، كما قال بعض العارفين: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك. وقال بعضهم: خف الله على قدر قدرته عليك واستحي من الله على قدر قربه منك. وقال بعض العارفين من السلف: من عمل لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص، فيه إشارة إلى المقامين اللذين تقدم ذكرهما: أحدهما: مقام الإخلاص؛ وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله عمل عليه فهو مخلص لله تعالى؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بالعمل. والثاني: مقام المشاهدة؛ وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصبر الغيب كالعيان. وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام، ويتفاوت أهل هذه المقامات فيه بحسب قوة نفوذ البصائر. وقد فسر طائفة من العماء المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾. [الروم: 27]. وبهذا المعنى ومثله قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾. [النور: 35]. والمراد: مثل نوره في قلب المؤمن. كذا قاله أبي بن كعب وغيره من السلف. وقد سبق حديث: « أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت »، وحديث: ما تزكية المرء نفسه؟ قال: « أن يعلم أن الله معه حيث كان ». وخرج الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « ثلاثة في ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله: رجل حيث توجه علم أن الله معه ». وذكر الحديث. وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾. [البقرة: 186]. ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾. [الحديد: 4]، وقوله: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾. [المجادلة: 7]، وقوله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾. [يونس: 61]، وقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[ق: 16]، وقوله: ﴿وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾. [النساء: 108]. وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالندب إلى استحضار هذا القرب في حال العبادات، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه، أو ربُّه بينه وبين القبلة»([46]). وقوله: « إن الله قِبل وجهه إذا صلى » ([47])، وقوله: « إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت »، وقوله للذين رفعوا أصواتهم بالذكر: «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا»، وفي رواية: « وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته »، وفي رواية: « هو أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد » ([48])، وقوله: « يقول الله عز وجل أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه » ([49])، وقوله: «يقول الله عز وجل أنا مع ظن عبدي بي وأنا معه حيث ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب منى شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب منى ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» ([50]). ومن فهم شيئًا من هذه النصوص تشبيهًا أو حلولًا أو اتحادًا فإنما أُتي من جهله وسوء فهمه عن الله عز وجل وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله ورسوله بريئان من ذلك كله، فسبحان من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ. قال بكر المزنيّ: من مثلك يا ابن آدم؛ خلِّي بينك وبين المحراب والماء؛ كلما شئت دخلت على الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان. ومن وصل إلى استحضار هذا في حال ذكره لله وعبادته استأنس بالله واستوحش من خلقه ضرورة. وقال ثور بن يزيد: قرأت في بعض الكتب أن عيسى عليه السلام قال: يا معشر الحواريين، كلموا الله عز وجل كثيرًا، وكلموا الناس قليلًا. قالوا: كيف نكلم الله كثيرًا؟ قال: اخلوا بمناجاته، اخلوا بدعائه. خرجه أبو نعيم. وخرج أيضًا بإسناده عن رباح قال: كان عندنا رجل يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، حتى أقعد من رجليه، فكان يصلي جالسًا كل ليلة ألف ركعة، فإذا صلى العصر احتبى فاستقبل القبلة، يقول: عجبت للخليقة كيف أَنِسَتْ بسواك، بل عجبت للخليقة كيف استأنست قلوبها بذكر سواك. وقال أبو أسامة: دخلت على محمد بن النضر الحارثي فرأيته كأنه ينقبض فقلت: كأنك تكره أن تؤتى؟ قال: أجل. فقلت: أو ما تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وهو يقول: « أنا جليس من ذكرني »! وقيل لمالك بن مغول وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟ فقال: أو يستوحش مع الله أحد؟! وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنس بك فلا أنس. وقال غزوان: إنى أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي. وقال مسلم بن يسار: ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل. وقال مسلم بن عابد: لولا الجماعة ما خرجت من بابي أبدًا حتى أموت. وقال: ما يجد المطيعون لله لذة في الدنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيدهم، ولا أحسب لهم في الآخرة من عظيم الثواب أكبر في صدورهم وألذ في قلوبهم من النظر إليه. ثم غشي عليه. وعن إبراهيم بن أدهم قال: أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك، وتستأنس إليه بقلبك وعقلك وجميع جوارحك؛ حتى لا ترجو إلا ربك ولا تخاف إلا ذنبك، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تؤثر عليها شيئًا، فإذا كنت كذلك لم تبال في بر كنت أو في بحر أو في سهل أو في جبل، وكان شوقك إلى لقاء الحبيب شوق الظمآن إلى الماء البارد وشوق الجائع إلى الطعام الطيب، ويكون ذكر الله عندك أحلى من العسل وأحلى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف. وقال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس، وكان الله جليسه. وقال أبو سليمان: لا آنسني الله إلا به أبدًا. وقال معروف لرجل: توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك. وقال ذو النون: من علامات المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه. ثم قال: إذا سكن القلب حب الله تعالى أنس بالله؛ لأن الله أجل في صدور العارفين أن يحبوا سواه. وكلام القوم في هذا الباب يطول ذكره جدًا وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى، فمن تأمل ما أشرنا إليه مما دل عليه هذا الحديث العظيم علم أن جميع العلوم والمعارف ترجع إلى هذا الحديث ويدخل تحته، وأن جميع العلماء من فرق هذه الأمة لا تخرج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا الحديث وما دل عليه مجملا ومفصلا؛ فإن الفقهاء إنما يتكلمون في العبادات التي هي من جملة خصال الإسلام، ويضيفون إلى ذلك الكلامَ في أحكام الأموال والأبضاع والدماء، وكل ذلك من علم الإسلام كما سبق التنبيه عليه، ويبقى كثير من علم الإسلام من الآداب والأخلاق، وغير ذلك لا يتكلم عليه إلا القليل منهم، ولا يتكلمون على معنى الشهادتين وهما أصل الإسلام كله. والذين يتكلمون في أصول الديانات يتكلمون على الشهادتين وعلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر، والذين يتكلمون على علم المعارف والمعاملات يتكلمون على مقام الإحسان وعلى الأعمال الباطنة التي تدخل في الإيمان أيضًا؛ كالخشية والمحبة والتوكل والرضا والصبر ونحو ذلك، فانحصرت العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين في هذا الحديث ورجعت كلها إليه، ففي هذا الحديث وحده كفاية ولله الحمد والمنة. وبقي الكلام على ذكر الساعة من الحديث؛ فقول جبريل عليه السلام: أخبرني عن الساعة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « ما المسئول عنها بأعلم من السائل ». يعني أن علم الخلق كلهم في وقت الساعة سواء، وهذه إشارة إلى أن الله تعالى استأثر بعلمها، ولهذا جاء أن العالم إذا سئل عن شيء لا يعلمه أن يقول لا أعلمه وأن ذا لا ينقصه شيئًا، بل هو من ورعه ودينه؛ لأن فوق كل ذي علم عليم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى، ثم تلا ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. [لقمان: 34]، وقوله عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾ [الأعراف: 187]. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ». ثم تلا هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾([51]) الآية. وخرجه الإمام أحمد ولفظه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ الآية»([52]). وخرج أيضًا بإسناده عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: أوتي نبيكم - صلى الله عليه وسلم - مفاتيح كل شيء غير خمس ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ الآية ([53]). فقوله فأخبرني عن أمارتها يعني عن علاماتها التي تدل على اقترابها وفي حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « سأحدثك عن أشراطها». وهي علاماتها أيضًا، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - للساعة علامتين: الأولى: «أن تلد الأمة ربتها»، والمراد بربتها: سيدتها ومالكتها. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: « ربها ». وهذه إشارة إلى فتح البلاد وكثرة جلب الرقيق حتى تكثر السراري وتكثر أولادهن فتكون الأمة رقيقة لسيدها وأولاده منه بمنزلته؛ فإن ولد السيد بمنزلة السيد فيصير ولد الأمة بمنزلة ربها وسيدها. وذكر الخطابي أنه استدل بذلك من يقول: إن أم الولد إنما تعتق على ولدها من نصيبه من ميراث والده وإنها تنتقل إلى أولادها بالميراث فتعتق عليهم وإنها قبل موت سيدها تباع. قال: وفي هذا الاستدلال نظر. قلت: قد استدل بعضهم به على عكس ذلك، وأن أم الولد لا تباع وأنها تعتق بموت سيدها بكل حال؛ لأنه جعل ولد الأمة ربها، فكأن ولدها هو الذي أعتقها فصار عتقها منسوبا إليه؛ لأنه سبب عتقها فصار كأنه مولاها. وهذا كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في أم ولده مارية لما ولدت إبراهيم عليه السلام: « أعتقها ولدها »([54]). وقد استدل بهذا الإمام أحمد - رضي الله عنه - فإنه قال في رواية محمد بن الحكم عنه: « تلد الأمة ربتها ». تكثر أمهات الأولاد، يقول: إذا ولدت فقد عتقت لولدها. وقال: فيه حجة أن أمهات الأولاد لا يبعن. وقد فسر قوله « تلد الأمة ربتها » بأنه يكثر جلب الرقيق حتى تجلب البنت فتعتق ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها وهي جاهلة بأنها أمها، وقد وقع هذا في الإسلام. وقيل: معناه أن الإماء تلدن الملوك. وقال وكيع: معناه تلد العجم العرب والعرب ملوك العجم وأرباب لهم. والعلامة الثانية: «أن ترى الحفاة العراة العالة» والمراد بالعالة: الفقراء كقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾. [الضحى: 8]. وقوله: « رعاء الشاء يتطاولون في البنيان » هكذا في حديث عمر - رضي الله عنه -، والمراد: أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم حتى يتباهوا بطول البنيان وزخرفته وإتقانه. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ذكر ثلاث علامات منها: أن تكون الحفاة العراة رؤساء الناس. ومنها: أن يتطاول رعاء البهم في البنيان، وروى هذا الحديث عبدالله بن عطاء عن عبدالله بن بريدة فقال فيه: « وأن ترى الصم البكم العمي الحفاة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ملوك الناس »، قال: فقام رجل فانطلق فقلنا: يا رسول الله من هؤلاء الذين نعتَّ؟ قال:« هم العريب». وكذا روى هذا الحديث بهذه اللفظة الأخيرة علي بن زيد عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر، وأما الألفاظ الأولى فهي في الصحيح من حديث أبي هريرة بمعناها، وقوله: «الصم البكم العمي» إشارة إلى جهلهم وعدم علمهم وفهمهم وفي هذا المعنى أحاديث متعددة. فخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع»([55]). وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « لا تنقضي الدنيا حتى تكون عند لكع بن لكع »([56]). وخرج الطبراني من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يغلب على الدنيا لكع بن لكع ». وخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « بين يدي الساعة سنون خداعة يتهم فيها الأمين ويؤتمن فيها المتهم وينطق فيها الرويبضة ». قالوا: وما الرويبضة؟ قال: «السفيه ينطق في أمر العامة ». وفي رواية: « الفاسق يتكلم في أمر العامة ». وفي رواية الإمام أحمد: « إن بين يدي الدجال سنين خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن ». وذكر بقيته ([57]). ومضمون ما ذكر من أشراط الساعة في هذا الحديث يرجع إلى أن الأمور توسد إلى غير أهلها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الساعة: « إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة »([58]) فإنه إذا صار الحفاة العراة رعاء الشاء وهم أهل الجهل والجفاء رؤساء الناس وأصحاب الثروة والأموال حتى يتطاولوا في البنيان فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا، فإنه إذا رَأَسَ الناس من كان فقيرا عائلا فصار ملكا على الناس سواء كان ملكه عامًا أو خاصا في بعض الأشياء فإنه لا يكاد يعطى الناس حقوقهم بل يستأثر عليهم بما استولى عليهم من المال فقد قال بعض السلف: لأن تمد يدك إلى فم التنين فيقضمها خير لك من أن تمدها إلى يد غني قد عالج الفقر، وإذا كان مع هذا جاهلا جافيا فسد بذلك الدين؛ لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم بل همته في جباية المال واكتنازه ولا يبالي بما أفسد من دين الناس ولا بمن أضاع من أهل حاجاتهم، وقال في حديث آخر: «لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها» وإذا صار ملوك الناس ورؤوسهم على هذه الحال انعكست سائر الأحوال فصدق الكاذب وكذب الصادق وائتمن الخائن وخون الأمين وتكلم الجاهل وسكت العالم أو عدم بالكلية كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل»([59]) وأخبر أنه «يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»([60]). وقال الشعبي: لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلًا والجهل علمًا، وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان وانعكاس الأمور، وفي صحيح الحاكم عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «إن من أشراط الساعة أن توضع الأخيار وترفع الأشرار»([61]). وفي قوله: «يتطاولون في البنيان» دليل على ذم التباهي والتفاخر خصوصًا بالتطاول في البنيان، ولم يكن إطالة البناء معروفا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم بل كان بنيانهم قصيرًا بقدر الحاجة، وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان» خرجه البخاري([62]). وخرج أبو داود من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج فرأى قبة مشرفة، فقال: «ما هذه؟» قالوا: هذه لفلان -رجل من الأنصار- فجاء صاحبها فسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرض عنه فعل ذلك مرارا، فهدمها الرجل([63])، وخرجه الطبراني من وجه آخر عن أنس أيضًا، وعنده فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل بناء -وأشار بيده هكذا على رأسه- أكثر من هذا فهو وبال» وقال في حديث ابن السائب عن الحسن: كنت أدخل بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة عثمان - رضي الله عنه - فأتناول سقفها بيدي وروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه كتب: لا تطيلوا بناءكم فإنه شر أيامكم، وقال يزيد بن أبي زياد: قال حذيفة - رضي الله عنه - لسلمان: ألا تبني لك مسكنا يا أبا عبد الله؟ قال: لم؟ لتجعلني ملكا، قال: لا، ولكن نبني لك بيتًا من قصب ونسقفه بالبواري، إذا قمت كاد أن يمس رأسك وإذا نمت كاد أن يمس طرفيك، قال: كأنك كنت في نفسي. وعن عمار بن أبي عمار قال: إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة أذرع نودي: يا أفسق الفاسقين إلى أين؟ خرجه كله ابن أبي الدنيا. وقال يعقوب بن أبي شيبة في مسنده قال: بلغني عن ابن عائشة قال: حدثنا ابن أبي شميل قال: نزل المسلمون حول المسجد -يعني بالبصرة- في أَخْبِيَة الشعر ففشا فيهم السرق فكتبوا إلى عمر فأذن لهم في اليراع فبنوا بالقصب ففشا فيهم الحريق فكتبوا إلى عمر فأذن لهم في المدر ونهي أن يرفع الرجل سمكه أكثر من سبعة أذرع، وقال: إذا بنيتم منه بيوتكم فابنوا منه المسجد، قال ابن عائشة: وكان عتبة بن غزوان بنى مسجد البصرة بالقصب وقال: من صلى فيه وهو من قصب أفضل ممن صلى فيه وهو من لبن، ومن صلى فيه وهو من لبن أفضل ممن صلى فيه وهو من آجر. وخرج ابن ماجه من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد»([64]) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أراكم تشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها وكما شرفت النصارى بيعها»([65]). وروي ابن أبي الدنيا بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن - رضي الله عنه - قال: لما بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد قال: «ابنوه عريشا كعريش موسى» قيل للحسن: وما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العريش، يعني: السقف. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.([1])أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (173).([2]) رواه البخاري (50)، (4777)، ومسلم (9) واللفظ له.([3]) رواه مسلم برقم (10).([4]) (1/319).([5]) البخاري (10)، (6484)، ومسلم (40).([6]) رواه البخاري (12)، (28)، (6236)، ومسلم (1013).([7]) صحيح الحاكم (1/21).([8]) أورده الهيثمي في المجمع (1/38)، ونسبه إلى الطبراني في الكبير.([9])أخرجه البزار برقم (336).([10]) رواه أحمد (4/182-183)، والترمذي (2859)، وقال: حسن غريب، وصححه الحاكم (1/73) على شرط مسلم وأقره الذهبي.([11]) تعليقًا في كتاب الإيمان، باب قول النبي ﷺ: «بني الإسلام على خمس».([12]) البخاري (523)، ومسلم (17).([13]) البخاري (9)، ومسلم (35).([14]) البخاري (2475)، و(5578)، و(6772)، و(6810)، ومسلم (57).([15]) (4/313).([16]) (4/114).([17]) (3/143).([18]) رواه أحمد (2/368) من حديث أبي هريرة، وأبو داود (3201)، والترمذي (1024) وقال: حسن صحيح.([19]) رواه البخاري (27)، و(1478)، ومسلم (150).([20]) مسند الإمام أحمد (5/3-5)، والنسائي (5/4، و82-83)، وصححه ابن حبان (106).([21]) رواه أحمد (1/8)، والطبراني في الكبير(1541).([22]) البخاري (11)، ومسلم (42).([23]) برقم (2564).([24]) رواه مسلم برقم (34).([25]) البخاري (16)، (21)، و(6041)، و(6941)، ومسلم (43).([26]) البخاري (15)، ومسلم (44).([27]) مسند الإمام أحمد (4/11-12).([28]) مسند الإمام أحمد (1/18 و26)، والترمذي (2166) وقال: حسن صحيح.([29]) مسند الإمام أحمد (3/8).([30]) المصدر السابق (4/385).([31]) رواه الترمذي برقم (2612).([32]) رواه أيضًا البخاري في التاريخ الكبير (5/31-32).([33]) البخاري (24) و(6118).([34]) رواه أحمد (4/126)، وابن ماجه (43).([35]) البخاري (6011)، ومسلم (586).([36]) البخاري (481) و(6026)، ومسلم (2585).([37]) مسند الإمام أحمد (5/340).([38]) رواه أبو داود برقم (4918).([39]) البخاري (13)، ومسلم (45).([40]) برقم (6016)، ومسلم (46) من حديث أبي هريرة.([41]) المستدرك (4/167).([42]) رواه أحمد (3/440)، والترمذي (2521)، وصححه الحاكم (1/164).([43]) (5/247) من حديث معاذ بن جبل.([44]) المسند (3/430).([45]) رواه أحمد (4/286).([46]) البخاري (405)، ومسلم (551).([47]) البخاري (406)، ومسلم (547).([48]) البخاري (2992)، ومسلم (2074).([49]) البخاري في:(436).([50]) البخاري (7405)، ومسلم (2675).([51]) رواه البخاري برقم (1039).([52]) مسند الإمام أحمد (2/85- 86).([53]) مسند الإمام أحمد (1/438).([54]) رواه ابن ماجه (2516)، والحاكم (2/19)، والبيهقي (10/346).([55]) رواه أحمد (5/389)، والترمذي (2209).([56]) صحيح ابن حبان، برقم (6721).([57]) رواه أحمد في مسنده (3/220)، والطبراني في الأوسط، وجود إسناده الحافظ بن حجر في فتح الباري (13/84). ([58]) رواه البخاري (59)، و(6496) من حديث أبي هريرة.([59]) البخاري (80)، ومسلم (2671).([60]) البخاري (100)، ومسلم (2773).([61]) صحيح الحاكم (4/554-555)، وصححه ووافقه الذهبي.([62]) برقم (7121).([63]) رواه أبو داود برقم (5237) وإسناده حسن.([64]) سنن ابن ماجه (739)، وصححه ابن حبان (1614).([65]) رواه ابن ماجه (740)، ورواه أبو داود (448) بلفظ: «ما أمرت بتشييد المساجد»، قال ابن عباس: (لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى) وصححه ابن حبان (1615).