الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
فلابد من إبعاد العقل عن الظنونَ والأوهامَ، وتقييده عمَّا لا يبلغه ولا يطيقه، كالتفكر في ذات الله، فالفكر محدود القدرة كسائر خلق الله، وإلا بدَّد العقل طاقته وأضاعها، فيكون ذلك على حساب الروح...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذى نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججاً، وحجب العقول والأَبصار أن تجد إلى تكييفه منهجاً وأَوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجاً، وجعل لمن لاذ به واتقاه من كل ضائقة مخرجاً، وأَعقب من ضيق الشدائد وضنك الأَوابد لمن توكل عليه فرجاً، وجعل قلوب أَوليائه متنقلة من منازل عبوديته من الصبر والتوكل والإِنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجا.
وأَشهد أَن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وأَمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده، أَرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: العقل زينة الإنسان به شرَّفه، وبسببه كلَّفه، والسعيد السعيد من كان عقله وافرا، يعرف به ربه، ويثقِّف به نفسه، ويقوِّم به لسانه، ويقوِّي به جَنانه، فهو ثابت راسخ، لا يُعْييه رأي، ولا يستخفُّه مُشْكِل، ولذا حرص الإسلام على تربية العقل، بتغذيته وتوجيهه وصيانته.
إن العقل يقيد الأفكار والسلوك؛ لأن هناك أمور تؤثر على المرء، فلا يستطيع أن يعقل الأمور، كالعصبية والعاطفة والخرافة والتقليد، ومُضلِّلات التفكير من دعاية وإحصائيات وأخبار كاذبة، وغير ذلك.
فالعاقل يميز بين الأفكار، ويتفحصها، ويعرف غثها من رديئها، وصالحها من طالحها، ثم هو يتخذ القرار الصائب بعيدا عن العاطفة أو التخريف، لذا فإن العقل السليم يهدي ولا يضل، ينفع ولا يضر، لهذا قال الله، تعالى، عن الكافرين: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : 171].
لقد كرَّم الله، تعالى، الإنسان، وشرَّفه بتلك المقدرة الذهنية، وميَّزه بها عن الحيوان:
وأفضلُ قَسْمَ الله للمرء عقلُهُ | فليس من الخيرات شيءٌ يقاربُه |
إذا أكمل الرحمان للمرء عقله | فقد كملت أخلاقه وتجاربه |
فالعقل مُلتَقَى اللطايف، ومُنتَقَى المعارف، ومُجتَمَعُ الفضائل أما الرذائل فمنبعها خفة العقل، فالعقل الخفيف الفارغ منطلِقٌ وراء الشهوات والأهواء التي تنقلب عليه، فتعصف به عصفا، لتشتِّت شمله بين مزابل الرذائل.
فبالعقل تُستوفَى الفضائل كلها | كما الجهل مستوفٍ جميع الرذائلِ |
إن السلوك القويم لا يخرج إلا من العقل السليم، لذا رفع الشارع التكليف عن غائب العقل، يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل" [ الترمذي (1423)].
ثم إن مَن فقد بعض مقدراته العقلية فإنما يكلف بحسب ما بقي له منها والذي أعطي عقلاً ثم ألغاه وعطَّله مختاراً ولم يستعمله الاستعمال الصحيح، فلن يفقه الدين، ولن يؤمن به، فهو مُحاسَبٌ على عدم فقهه، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) [يونس : 100].
فلا غرو أن جعل الله عقاب الذين لا يعقلون هو نفسه عقاب الذين لا يؤمنون (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) [الأنعام : 125]،فالرجس، في أصله اللغوي، هو النتن، فكأن الآيتين الكريمتين تدلان على أن نقاء القلب لا يتأتى إلا بنور العقل ونور الشرع.
أيها الإخوة المؤمنون: إنَّ زاد العقل هو الحقائق، وإن شئت فقل الحق, ويخلط الناس خلطا كبيراً بين العقل والذكاء، فالذكاء لا يعني سوى سرعة استيعاب المعلومات، والمقدرة على التهامها، لذا يمكن أن يكون المرء ذكيا لكنه غير عاقل، وإنك لتجد عالم ذرة يعبد بقرة أو بشرا أو حجرا!.
فالعقل يهدي إلى الحكمة، ورأس الحكمة مخافة الله, لذا وصف الله تعالى الكافرين والمنافقين، كما تقدم، بأنهم قوم لا يعقلون, فمن تمام العقل تقييد الفكر بمعرفة الله الحق.
فلابد من إبعاد العقل عن الظنونَ والأوهامَ، وتقييده عمَّا لا يبلغه ولا يطيقه، كالتفكر في ذات الله، فالفكر محدود القدرة كسائر خلق الله، وإلا بدَّد العقل طاقته وأضاعها، فيكون ذلك على حساب الروح.
ومن تمام العقل تقييده بتحرِّي الحق عند الفعل، وتقييد اللسان بالحق عند القول، وفي كل هذا صون للعقل، وحفظ له، يجعل المرء مطمئنا آمناً هادئاً ساكنا (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام : 82].
وعلى المرء أن يربي عقله بالتزود بالحقائق، والحقائق هي العلوم، قال ربنا -جل وعلا-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر : 28]، والحقائق أو العلوم يتم تحصيلها عن طريق الوحي والاستقراء والاستنباط، وبالتعلُّم تلقيناً أو تجريبا, ولقد أنزل الله إلينا العلم الحقَّ في كتبه، (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سبأ : 6], وفي أحاديث رسوله الكريم، -صلى الله عليه وسلم-.
والإلهام من مصادر العلم، وإنك لتجد كثيراً من النابهين من التجار قد أصابوا حظاً وافراً من العلم الاقتصادي المثمر، وهم لا يعرفون قراءة ولا كتابة، وقس على ذلك، فلا شك أن الله -عز وجل- قد يُلهم ويوفق بعض الناس في أنواع من العلم, وإن الحكمة ضالة المؤمن أين وجدها فهو أحق بها.
لذا تجد المرء كلما كبر سنا ازداد عقلا, وينبغي الانتباه إلى أن العقل والحكمة يُعنَيان بوضع الشيء في موضعه الصحيح، وفي زمانه المناسب، ولهذا يخطئ كثير من الناس عندما يضيعون أوقاتهم في تحصيل علوم لا تنفع ولا تضر، قد وضعها بعض العلماء في باب: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه"، ولهذا فقد استعاذ الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من العلم الذي لا ينفع فقال: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا" [ مسلم (2722)] .
وصدق الله -تبارك وتعالى- إذ يقول: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر : 28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة : 33]، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) [البقرة : 176]، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) [الحج : 6]، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : 73]، (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس : 35].
والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس: إن الحق كما دلت الآيات الكريمات، قد امتزج بالكون منذ قيامه، فلم يخلق الله تعالى، الكون مصادفة ولا باطلاً ولا عبثاً، وكذلك الإنسان جزء من ذلك الحق، مخلوق بالحق، ليعتقد الحق، ويفعل الحق، وليجازى يوم القيامة بالحق، حين يُقْضَى بالحقّ، (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الزمر : 75]، وليكون كلام المؤمنين في الجنة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : 43].
إن الحق قائم في بنية الكون منذ أن خلقه الله بالحق، إلى يوم الحساب بالحق، فالإنسان محاط أبداً بالحق، مطالب بالاعتقاد به، وانتهاج مسلكه، كل هذا ليتنبه إلى الحق، ليتغلغل الحق في كيانه، وفي هذا الجو المُشَبَّع بالحق يتربى المسلم حتى يصبح الحق عقيدته التي يعتقد، ومسلكه الذي ينتهج، وحياته التي يعيش؛ فلا يحار ولا يضل.
والحق هو منتهى العلم والحكمة، ووظيفة العقل معرفة العلم والحكمة والعمل بها، إذ لا عقلَ بلا عمل، ولا عمل بلا علم, وفي هذا اتصال بالخالق عظيم، فهو العليم الحكيم، وهو الحق، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحج : 6].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على خير مربي وأعظم قائد، من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.