التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
من رأى حال المؤمنين في رمضان وهو لا يعرف معنى الإيمان فإنه سيعجب أشدَّ العجب من طاعتهم لله تعالى، ومبادرتهم إلى ترك ما يحتاجون إليه، ومفارقة ما يتلذذون به من الطعام والشراب والنكاح، لا يفعلون ذلك طلبا للدنيا، ولا لأجل الخلق؛ وإنما طاعة لله تعالى، ولا رقيب عليهم في ذلك إلا هو سبحانه وتعالى ..
الحمد لله الجواد الكريم؛ هدانا للإيمان، وعلمنا القرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما اجتبانا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أرسل إلينا أفضل رسله، واختصنا بخاتمة كتبه، وهدانا لمعالم دينه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الرُّوم:30].
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ اختاره الله تعالى رسولا لهذه الأمة، واختار له أمته، فكان أفضل نبي لخير أمة، قال عليه الصلاة والسلام: "ما من الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إلا أُعْطِيَ ما مِثْلهُ آمَنَ عليه الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كان الذي أوتيته وَحْيًا أَوْحَاهُ الله إليَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يوم الْقِيَامَةِ"، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ أوتوا الإيمان قبل العلم والقرآن؛ فقوي إيمانهم، وصلحت قلوبهم، وزكت أعمالهم؛ والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى، واشكروه على ما منَّ به عليكم من الإيمان، وإدراك رمضان؛ فكم في القبور من أناس فاتهم هذا الموسم العظيم، ففاتهم من الخير كثير، وشُكْرُ الله تعالى يكون باستعمال نعمته فيما يرضيه، وعمارة رمضان بطاعته، واجتناب معصيته؛ فإن ذلك من أسباب زيادة الإيمان، وصلاح القلوب، وتمام النعم، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، فأروا الله تعالى من أنفسكم خيرا في هذا الشهر الكريم؛ فإنكم في بدايته، ومن عاش منكم أدرك نهايته، والأيام تمر سواء بسواء على أهل التشمير والطاعة، وعلى أهل التفريط والمعصية.
أيها الناس: من أعظم النعم التي يُنْعِم الله تعالى بها على العبد أن يهديه للإيمان به -سبحانه- وبملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره؛ فإن في الإيمان بذلك راحةَ القلب وطمأنينتَه، ونورَ البصيرة ونفاذَها، وصحةَ العمل واستقامتَه؛ وكم من أناس في الأرض يتعبدون لأوثانهم على غير هدى، فما كان عملهم مبرورا، ولا كان سعيهم مشكورا (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف:104].
وقد أمر الله تعالى عباده بالإيمان في كثير من آي القرآن؛ لنيل رضوانه سبحانه، ولنجاة نفوسهم من العذاب (قُولُوا آَمَنَّا بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا...) [البقرة:136].
وفي آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [النساء:136].
وبيَّن -سبحانه- أن البر الذي يطلبه الناس إنما هو في الإيمان، (لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِالله وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة:177].
ولما ذكر -سبحانه- ما أعد للمتقين من عباده في الجنة بيَّن عز وجل أنهم (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:16)، ونوَّه -عز وجل- بدعائهم حين قالوا: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا) (آل [عمران:193].
وأثنى سبحانه على المؤمنين من الجن لما قالوا: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) [الجنّ:13]، بل إنهم -رضي الله عنهم- دعوا أقوامهم إلى الإيمان فقالوا: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف:31].
وامتدح -عز وجل- المؤمنين من أهل الكتاب لما عرفوا الحق في الإسلام، وتُليت عليهم آيات القرآن ففاضت أعينهم بالدمع خشوعا وتصديقا، وأعلنوا إيمانهم بمحمد -عليه الصلاة والسلام-، (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة:83].
ونوَّه -عزَّ وجل- بسَحَرة فرعون لما آمنوا بالله تعالى، واتبعوا موسى -عليه السلام- عندما استبان لهم الحق، وظهرت لهم الآيات، وذكر سبحانه خبرهم في قرآن يتلى إلى يوم الدين: (قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الأعراف:121-122]، ولما هددهم فرعون بالعذاب والنكال ما زادهم ذلك إلا تاكيدا لإيمانهم، وثباتا على دينهم؛ وخاطبوا فرعون بعزة وإباء فقالوا: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا؟ لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [الأعراف:125-126].
والإيمان سبب لرفع العذاب عن الأمة المؤمنة، كما أن عدم الإيمان سبب لهلاك الناس، وما عُذِّبت الأمم السالفة من لدن نوح -عليه السلام- إلا بسبب رفضهم للإيمان الذي جاء به الرسل -عليهم السلام-، وإصرارهم على الكفر بالله تعالى، في حين أن قوم يونس -عليه السلام- نُجُّوا من العذاب بسبب إيمانهم (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].
وأهل الإيمان هم الأتباع الحقيقيون لإمام الحنفاء إبراهيم -عليه السلام- (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ) [آل عمران:68]، وهم أولياء الله تعالى وأصفياؤه، المخصوصون ببشارته ورضوانه، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ) [يونس:62-64].
والإيمان سبب للأمن والتثبيت في الدنيا والآخرة : (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82] وفي آية أخرى (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ) [إبراهيم:27].
وكان جزاؤهم في الآخرة على إيمانهم جنات النعيم، (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [يونس:10-11].
والفردوس الأعلى من الجنة هو نُزُل من تَرَقَّوا في إيمانهم إلى أن حازوا كماله، أو قاربوا ذلك، (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا) [الكهف:107].
وإذا كانت تلك بعض آثار الإيمان ونتائجه، أفلا يكون الإيمان أعظم نعمة منَّ الله تعالى بها على عباده المؤمنين؟! بلى وربي إنه لكذلك.
والإيمان هو الإقرار بما يجب الإقرار به، وهو يقود إلى العمل؛ إذ ليس هو بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالأعمال الصالحة جزء من الإيمان، وهي براهين عليه، ومن زعم أنه مؤمن ولم يعمل صالحا فإن تركه للعمل يُكَذِّب زعمه، وهذه الحقيقة مقررة في القرآن، ولا قول لأحد فيها بعد كلام الله تعالى؛ ففي الأنفال: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2] وفي التوبة: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة:124] وفي الفتح: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) [الفتح:4] وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-:(الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أو بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إلا الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عن الطَّرِيقِ. وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ من الْإِيمَانِ) رواه الشيخان واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وواجب على المسلم أن يترقَّى في درجات الإيمان، ويسعى لتحصيل كماله بإصلاح قلبه، واستقامته على أمر الله تعالى، والإكثار من الأعمال الصالحة؛ فإنها من أفراد الإيمان وأجزائه، وكلما أكثر المسلم منها ازداد إيمانه؛ وعليه أن يجتنب المعاصي؛ فإنها سببٌ لنقص الإيمان، ومصداق ذلك حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"لَا يَزْنِي الْعَبْدُ حين يَزْنِي وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَسْرِقُ حين يَسْرِقُ وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَشْرَبُ حين يَشْرَبُ وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَقْتُلُ وهو مُؤْمِنٌ"، قال عِكْرِمَةُ: قلت لابنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُنْزَعُ الْإِيمَانُ منه؟ قال: هَكَذَا، وَشَبَّكَ بين أَصَابِعِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ تَابَ عَادَ إليه هَكَذَا، وَشَبَّكَ بين أَصَابِعِهِ. رواه البخاري.
وروى أَبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"إذا زَنَى الرَّجُلُ خَرَجَ منه الْإِيمَانُ فكان عليه كَالظُّلَّةِ، فإذا انْقَطَعَ رَجَعَ إليه الْإِيمَانُ" رواه أبو داود. وفي لفظ للحاكم: "من زنا وشَرِبَ الخَمْرَ نَزَعَ اللهُ منه الإِيمانَ كما يَخْلَعُ الإِنسَانُ القَمِيصَ من رَأْسِه"
أسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، وأن يهدينا لزيادته بالأعمال الصالحة، واجتناب المعاصي، إنه سميع مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واعملوا صالحا، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزَّلزلة:7-8].
أيها المسلمون: من رأى حال المؤمنين في رمضان وهو لا يعرف معنى الإيمان فإنه سيعجب أشدَّ العجب من طاعتهم لله تعالى، ومبادرتهم إلى ترك ما يحتاجون إليه، ومفارقة ما يتلذذون به من الطعام والشراب والنكاح، لا يفعلون ذلك طلبا للدنيا، ولا لأجل الخلق؛ وإنما طاعة لله تعالى، ولا رقيب عليهم في ذلك إلا هو سبحانه وتعالى؛ ولو أفطروا سِرَّاً لما علم بهم أحد سوى خالقهم عز وجل، ولو كَثُر المفطرون لاشتهر ذلك في المسلمين ولو حاولوا إخفاءه، ولكن المشهور والمشاهد أن عموم المسلمين يلتزمون بفريضة الصيام، وقلَّ فيهم من يُخلُ بها حتى مَن هم مقصرون في الفرائض الأخرى كالصلاة وغيرها.
إن الصائم يجوع فلا يأكل، ويظمى فلا يشرب، ويضحى فلا يفطر، ويُجْهَدُ أشدَّ الجَهْدِ إذا كان عمله شاقَّا فيصبر إلى غروب الشمس، وكان قادرا على أن يتخفى فيفطر، ويختلق لنفسه المعاذير.
وفي بلاد الكفر مؤمنون صائمون، يعملون في المزارع والمصانع والأسواق وغيرها، ويرون غيرهم يأكلون ويشربون ويتمتعون وهم ممسكون عن شهواتهم باختيارهم، مع أن الداعي يدعوهم إلى ترك الصيام.
فما الذي جعل هؤلاء وأولئك يصومون، ويَحْرِمون أنفسهم ما أُودِعَ في بني آدم من شهوات الطعام والشراب والنكاح؟ ما الذي يجعلهم يلتزمون بوقت إمساكهم ووقت إفطارهم لا يُخِلُّون بشيء من ذلك، ولا يَضْعُفُون أمام الشهوات التي تحيط بهم من كل جانب؟.
إنه –يا عباد الله- الإيمان الذي وقر في قلوبهم، وصدقته أعمالهم، فيصومون قربة لله تعالى، ويراقبونه عز وجل في صيامهم، ولا يخشون في ذلك أحدا إلا اللهَ تعالى، ولا يلتفتون إلى المفطرين وشهواتهم؛ قد روضوا نفوسهم على الصبر والمصابرة والمرابطة في طاعة الله تعالى.
سمعوا نداء الرب -جل جلاله- لهم فأرعوا له أسماعهم، ووعته قلوبهم، وبادرت إلى امتثاله جوارحهم، وأجابوا: سمعنا وأطعنا.
ناداهم ربهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183] فسارعوا إلى الاستجابة والامتثال.
إنهم ما صاموا إلا إيمانا بالله تعالى، وامتثالا لأمره، ورضا بدينه، وطلبا لمرضاته. ما تركوا طعامهم وشرابهم، وجانبوا نساءهم، إلا لأجل الله تعالى، وفي ذاته عز وجل، فقال الرب جل جلاله في الصائم: "يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ من أَجْلِي الصِّيَامُ لي وأنا أَجْزِي بِهِ" رواه البخاري.
إن المؤمنين الصائمين لا يراقبهم في صيامهم إلا الله تعالى، وآية الأمر بالصيام خوطب بها المؤمنون، والإيمان محله القلب، وعلل ذلك بالتقوى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "التَّقْوَى ها هنا وَيُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" رواه مسلم، فوقع الصيام في الآية الكريمة بين الإيمان والتقوى، وكلاهما محله القلب، فالصيام سِرٌّ بين العبد وربه، والدافع الذي يدفع إليه الإيمان والتقوى.
إن الصائمين القائمين يطلبون بصيامهم وقيامهم الأجر من الله تعالى، ولا أجرَ على صيامٍ ولا قيامٍ إلا إذا كان عن إيمان، والمؤمنون هم المخاطبون بالصيام والقيام، ولو صام غيرهم فلا أجر لهم، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"من قام لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ" "ومن قام رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ" رواه الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
فالمؤمن يصوم ويقوم إيمانا بالله تعالى، وإيمانا بأنه عبد لله سبحانه، وإيمانا بأن الله تعالى قد فرض الصيام وشرع القيام، وإيمانا بأن الله تعالى لا يشرع له، ولا يفرض عليه إلا ما هو خير له في الدنيا والآخرة، وإيمانا بأن الله تعالى مطلع عليه، يعلم سره وجهره، ويحصي عليه عمله، وإيمانا بأن الله تعالى يجازيه على صيامه وقيامه أعظم الجزاء، فيحتسب ذلك عند عز وجل، وإيمانا بأن الله تعالى سيعاقب من أفطروا في نهار رمضان لكفرهم أو لفسقهم، فيفرُّ بالصوم من عقاب الله تعالى.
إنه يؤمن بالبعث بعد الموت، وبحشر الناس وحسابهم، وبالثواب والعقاب، ويؤمن أن ذلك لله تعالى وليس لأحد سواه؛ فيطلب ثوابَ من يملك الثواب، ويفرُّ من عقاب من يملك العقاب، ويتقي عذابه بطاعته، والتزام فرائضه، وإن ناله بعض المشقة من صيامه وقيامه، التي يعقبها راحة أبدية، وسعادة سرمدية.
ومن هنا نعلم -أيها الإخوة- شدة ارتباط الصيام بالإيمان، ولماذا خوطب به المؤمنون، ولماذا لا ينال ثواب الصيام والقيام إلا من صام وقام إيمانا واحتسابا.
جعلنا الله تعالى من أهل الإيمان والإحسان، وثبتنا عليه إلى الممات.