الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | خالد القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
أيُّها المؤمنونَ: كُلَّما جَدَّدَ لَكم رَبُّكم نِعَمَاً فَجَدِّدوا لها حَمْدَاً وشُكرَا، وكُلَّما صَرَفَ عنكُم المَكَارِهَ فَقُومُوا بِحقِّ رَبِّكم طَاعَةً لَهُ وَثَنَاءً وذِكْرًا، وَسَلُوا ربَّكُم أنْ يُبَارِكَ لَكم فِيمَا أَعطَاكُم، وأنْ يُتَابِعَ عَليكم مَنَافِعَ دِينِكُم ودُنياكُم، فهو الرَّءوفُ بالعبادِ، وليسَ لِخيرِهِ نَقصٌ ولا نَفَادُ.. فَنحنُ في نِعَمٍ زَاخرةٍ وخَيراتٍ وَافِرَةٍ، سَماؤنا تُمطِرُ، وشَجَرُنا -بإذنِ اللهِ- يُثمِرُ، وأَرضُنا تَخضَرُّ، وآبارُنا تَمتَلئُ، فَحَمْداً لكَ يا ربُّ
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله واسعِ الفضلِ والعطاءِ، سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدُّعاءِ. يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ. نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له واسعُ الكرمِ والجودِ، ونشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُ الله ورسولُهُ صاحِبُ الحوضِ المَورودِ، صلَّى الله وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى الهِ وَصحبِهِ ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى اليومِ الموعود.
أمَّا بعدُ: فَأوصيكم وَنفسي بِتقوى اللهِ تَعالى، فَمن اتقى اللهَ وَقَاهُ، ومَن تَوكَّلَ عليه كَفاهُ، ومَن سَألَ رَبَّهُ منَحَهُ وأَعطَاهُ: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل: 63].
عبادَ اللهِ: إننا لنحمدُ اللهَ ونَشكُرُهُ فَنحنُ في نِعَمٍ زَاخرةٍ وخَيراتٍ وَافِرَةٍ، سَماؤنا تُمطِرُ، وشَجَرُنا -بإذنِ اللهِ- يُثمِرُ، وأَرضُنا تَخضَرُّ، وآبارُنا تَمتَلئُ، فَحَمْداً لكَ يا ربُّ، لقد أَنزَلتَ علينا غيثاً مُغيثاً، عمَّ الأَرَاضي رِيِّاً، ولم تَزلْ بِنا رَءوفاً حَفِيَّاً، فَأصبَحنا وأَمسَينا مُستبَشِرِينَ وبِرَحمَتِكَ ورِزقِكَ فَرِحينَ.
سُبحَانَ مَن أَنزلَ سَيلاً في البَلَدِ فَكيفَ لو صَبَّ جِبَالاً مِن بَرَدٍ أَنزَلَهُ رِفْقَاً بِنَا قَطَّارا، وبعضُهُ سَخَّرَهُ أَنهَارَاً، إي واللهِ: لقد عمَّتِ الفَرحةُ الصِّغارَ والكِبَارَ، فَخرَجَ النَّاسُ لِمشهَدِ ذَلِكَ الغَيثِ، وتِلكَ الأودِيةِ والشِّعابِ، فالحمدُ للهِ الوَلِيِّ الحَمِيدِ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشورى: 28]، فَسُبحَانَ "مَنْ يَدُهُ مَلأى لا تَغِيضُها نَفَقَةٌ سَحَّاءُ الَّليلِ والنَّهَارِ".
رَبُّنا يا مؤمنُونَ: رَحيمٌ حليمٌ، عَظِيمٌ كريمٌ، ونحنُ مُقَصِّرونَ في جنبِّ اللهِ تعالى، ولم نَزَلْ مُصِّرِّينَ على الذُّنُوبِ والعِصيانِ، والظُّلمِ والعُدوانِ! ورَبُّنا تَتَنَزَّلُ مِنهُ الخَيراتُ والبَرَكَاتُ والرَّحماتِ، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) [فاطر: 45]، فَقد يُنزِلُ اللهُ المَطَرَ بِدعوَةِ رَجلٍ صَالِحِ، أو صَبِيِّ لم تُكتب عليهِ الذُّنوبُ، أو بِرحمةِ البَهَائِمِ العَجْمَواتِ، وقَدْ قَالَ نبِيُّنا: "هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ"؟
وقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِنِ ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَنَزَلْنَ بِكُمْ وأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يَعْمَلُوا بِهَا إِلاَّ ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمُؤْنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا الزَّكَاةَ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ مَنْ غَيْرِهِمْ وَأَخَذُوا بَعْضَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ يَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ إِلاَّ أَلْقَى اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ" شاهدُنا في الحديثِ "وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا".
ذكرَ ابنُ قُدَامَةَ -رحمَهُ اللهُ- في كِتَابِ التَّوَّابِينَ: قِصَّةَ نَبِيِّ اللهِ مُوسى -عليهِ السَّلامُ- أنَّهُ حينَ جَفَّ المَطَرُ طَلبَ قَومُهُ أنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ بِالغَيثِ، فَصعَدَ مُوسى الجَبَلَ وَدَعَا رَبَّهُ بِالمَطَرِ، فَقالَ لَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلًّ: "يا موسى كَيفَ أُنزِلُ المَطَرَ وبَينَكُم عَاصٍ مُنذُ أَربَعِينَ سَنَةٍ"؟ فَرجَعَ مُوسى إلى قَومِهِ، وَبَلَّغَهم بِأَنَّ بَينَهُم عَاصٍ فَليَخرُجْ. فَنادوا أَيُّها العَاصِي أُخرُجْ فَبِسَبَبِكَ مُنعنَا القَطرَ، فَتَلَفَّتَ ذَلِكَ العَاصي لَعَلَّهُ يَخرُجُ أَحدٌ فَلم يَخرُجْ. فَقالَ: يَا رَبِّ عَصَيتُكَ أَربَعِينَ سنَةً فَسَتَرتَ عليَّ، فَأَسأَلُكَ الآنَ التَّوبَةَ والمَغفِرَةَ، فَنَزَلَ المَطَرُ! فَقالَ مُوسى يَا رَبِّ: مُطرنا وَلَمْ يَخرُج أَحَدٌ؟ فَقالَ اللهُ تعالى: سَقَيتُكُم بِتَوبَةِ الذي مَنَعتُكُم بِه. فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرِني ذَلِكَ الرَّجُلَ؟ فَقالَ اللهُ يا موسى: لَم أَكُن لِأَفضَحَهُ هو يَعصِينِي أَفَأَفضَحُهُ وهو يُطيعُنِي".
وهو الحَيِيُّ فَلَيسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ | عندَ التَّجَاهُرِ مِنْهُ بالعِصْيَانِ |
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ بِسِترِهِ فَهْوَ | السَّتِيرُ وصَاحِبُ الغُفْرَانِ |
عبادَ اللهِ: المَطرُ مَاءٌ طَهُورٌ مُبَارَكٌ، وهو الحَيَاةُ وَكَفى! يَقولُ المولى -جلَّ وعلا-: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [النحل: 65] المَطَرُ آيةٌ من آياتِ اللهِ وَهِبَةٌ من هِباتِهِ، وإذا أردتَ أنْ تُحاجَّ أَحدَاً من البشرِ فقلْ من أَنزَلَ المَطَرَ؟ مَن خَلَقَهُ؟ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت: 63].
ويُخطِئُ مَن يَعتَمِدُ على الحِسَابِ والفَلَكِ، وعلى النُّجُومِ والكوَاكبِ فَحسبُ، فعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رضيَ اللهُ عنهُ-، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ".
عبادَ اللهِ: نُزولُ المَطَرِ آيَةٌ تَدلُّ على قُدَرَةِ اللهِ –سبحانه- على البَعْثِ والنُّشورِ! فهل منْ مُدَّكرٍ؟ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت: 39].
فيا مؤمنون: اقدروا لنعمةِ المَطَرِ قَدرَهُ، واشكروا ربَّكُم على سَوَابِغِ فَضلِهِ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الملك: 30]، فاللهم اجعلْ ما أَنزَلْتَ علينا صَيِّبَا نَافِعَا، ومَتَاعاً لنا وبَلاغاً إلى حينٍ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍّ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ مُغيثِ المُستَغِيثينَ، ومُسبلِ النِّعمِ على خَلقِهِ أَجمعِينَ، عَظُمَ حِلمُه فَستَرَ، وَبَسطَ يَدَهُ بِالعطَاءِ فَأكثَرَ، نِعَمُه تَترَى، وَفضلُهُ لا يُحصى، نَشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ المُطَّلِعُ على السِّرِّ والنَّجوَى، ونَشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، أَصدَقُ العِبَادِ عِبَادَةً وأحسَنُهم قَصداً، وأَعظَمُهم لِرَبِّهِ خَشيَةً وَتَقوى، صلَّى اللهُ وسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليه، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومَن سَارَ على نَهجِهم واتَّبعَ طريقَ التَّقوى.
أمَّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ المَاءَ جُندٌ من جُندِ اللهِ تعالى! فإمَّا أنْ يكونَ رَحمَةً وطَلاًّ، وإمَّا عَذَاباً وَبِيلاً! لمَّا خرجَ رَسُولُ اللهِ بأصحابِهِ إلى مَعرَكَةِ بَدرٍ، استَغَاثَ المؤمنُونَ رَبَّهم فَاسْتَجَابَ لهم! بأن أَنزَلَ عليهم مَطَرَاً طَهَّرَهُم بِهِ مِن الحَدَثِ والخَبَثِ، وطَهَّرَ قُلُوبَهم من وسَاوِسِ الشَّيطَاِن وَرِجْزِهِ، وَأكثَرَ اللهُ المَطَرَ فِي جِهَةِ الكَافِرِينَ لِيَكُونَ لَهم مَدْحَضَةً ومَهلَكةً، فاللهُ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصرِفُهُ عَمَّن يَشَاءُ!
فالماءُ -عبادَ اللهِ- جندٌ من جُندِ الله –تَعالى- يُسلِّطُهُ على مَن يَشَاءُ، فقد استَمَعَ اللهُ –تعالى- إلى استِغاثَةِ نُوحٍ -عليهِ السَّلامُ- حينَ دَعَا رَبَّهُ: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر: 10]، فأجابَهُ اللهُ –تَعالَى-: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر: 11- 12]، فَجَعَلَ اللهُ طُوفَانَ المَاء عَذابًا على قَومِ نُوحٍ -عليهِ السَّلامُ-!
وبِالمَاءِ عذَّبَ اللهُ فِرعَونَ وَقَومَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ وَتَلاطَمَت بِهِ الأَمواجُ: (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 90- 91].
كفانا اللهُ وإيَّاكم شَرَّ ما في هذه المياهِ من مخاطِرَ وأضرارٍ، فقد كان نبيُّنا كما قالت أُمُّنا عَائِشَةُ -رضي اللهُ عنها- إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. فَقَالَتْ لهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا؛ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ؟ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا».
أيَّها المؤمنُ: ولِلمطَرِ سُننٌ قَولِيةٌ وأُخرى فِعلِيَّةٌ، فَقد كانَ رَسُولُ اللهِ إذا رَأى الغَيثَ قالَ: "الَّلهمَّ صَيِّبَاً نَافِعَاً"، "مُطرنا بِفضلِ اللهِ وَرَحمَتِهِ"، وكانَ إذا اشتَدَّ المَطَرُ وَخَشِيَ الضَّرَرَ قالَ: "اللهمَّ حَوالَينَا ولا علينا، اللهمَّ على الآكَامِ والظِّرَابِ وبُطُونِ الأَودِيَةِ ومَنَابِتِ الشَّجَرِ"، وكانَ يَكشِفُ بَعضَ بَدِنِهِ لِيصيبَهُ المَطرُ. ويَحَسِرُ ثَوبَهُ، ويَكشِفُ عن عِمَامَتِهِ لِيُصِيبَ المَطَرُ جَسَدَهُ، ويُسَنُّ الدُّعَاءُ حالَ نُزُولِهِ لِقولهِ: "اثنَانِ لا يُردُّ فِيهِمَا الدُّعاءُ، عِندَ النِّدَاءِ، وعِندَ نُزُولِ المَطَرِ".
مَعاشِرَ الكِرَامِ: وعندَ نُزُولِ الأَمطَارِ مَعَ الأَسَفِ الشَّدِيدِ هُناكَ تَهَوُّراتٌ وأَخطارٌ تَقعُ مِن شَبَابِنا، دَافِعُها التَّهوُّرُ وحُبُّ المُغَامَرَةِ، كالسُّرعَةِ المُفرَطَةِ أَثنَاءَ تَسَاقُطِ الأَمطَارِ، أو تَجَاوزاتٍ مُتَهوِرَةٍ، وبعضُ الشَّبَابِ يُغامِرُ بِدُخُولِ سَيَارِاتِهم إلى الشِّعابِ والأَودِيَةِ ممَّا يَنتُجُ عنه خُطورة ٌبَالِغَةٌ، فَكيفَ بِمن يُهملُ الأَطفالَ والنِّساءَ ويَسمَحُ لهم بِذَلِكَ؟!
رغمَ التَّحذيراتِ المُتتاليةِ من مراكز الدِّفاعِ المدنيِّ بوجوبِ أخذِ الحيطَةِ والحذَرِ، والبُعدِ عن مواقِع الخطَرِ! فإنَّكَ ترى تَفرِيطاً وتَهَوُّراَ! يَكفِي تَهوُّراَ وتَفريطَاً ورُعونَةً، فقد فقدنا الكثيرَ ممن جَرَفَتهُمُ السُّيولُ وأَهلَكُوا أَنفُسَهم بِالأَودِيَةِ والشِّعابِ! وقد شَاهدتم وَشَاهدْنا بَعضَ مَقَاطِعِ التَّهوُّرِ والسَّفهِ والجُنونِ! فيا مُسلِمونَ خُذوا حِذركم وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
والمطَرُ عبادَ اللهِ: نِعمةٌ ورحمةٌ بالعبادِ وتخفيفٌ على العِبادِ، فقد ثبتَ أنَّ النَّبيَّ جمعَ بينَ المغربِ والعِشَاءِ حالَ نُزولِ المَطَرِ، ولكن لا تُقصَرُ الصَّلاةُ حالَ الإقامَةِ، كما ينبغي أنْ يُعلمَ خُطُورةُ التَّساهُلِ والتَّسارُعِ في الجمعِ بيت الصَّلواتِ، فقد بيَّنَ العُلماءُ أنَّ الجمعَ يكونُ، بِوجُودِ مَشقَّةٍ على المُصلينَ، أو وجُودِ وحَلٍ وطِينٍ، أو مَطَرٍ يَهطِلُ أثناءَ الصَّلاةِ يَبُلُّ الثِّيابَ، ويُؤذِي المُصلِّينَ.
أيُّها المؤمنونَ: كُلَّما جَدَّدَ لَكم رَبُّكم نِعَمَاً فَجَدِّدوا لها حَمْدَاً وشُكرَا، وكُلَّما صَرَفَ عنكُم المَكَارِهَ فَقُومُوا بِحقِّ رَبِّكم طَاعَةً لَهُ وَثَنَاءً وذِكْرًا، وَسَلُوا ربَّكُم أنْ يُبَارِكَ لَكم فِيمَا أَعطَاكُم، وأنْ يُتَابِعَ عَليكم مَنَافِعَ دِينِكُم ودُنياكُم، فهو الرَّءوفُ بالعبادِ، وليسَ لِخيرِهِ نَقصٌ ولا نَفَادُ. (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152].
فاللهمَّ اجعلنا لِنِعَمِكَ من الشَّاكِرينَ، وَلَكَ من الذَّاكِرينَ، اللهمَّ اجعل مَا أَنزلْتَهُ عَلينا رَحمَةً لَنا وبَلاغَاً إلى حِينٍ، اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عنَّا، لا إلهَ إلاَّ أنتَ سُبحانَكَ إنَّا كُنَّا مِنَ الظَّالِمينَ، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.