العربية
المؤلف | محمد بن عدنان السمان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
المستعاذ به هو الله وحده، رب الفلق، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس، الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره. وقد أخبر الله -تعالى- في كتابه عمن استعاذ بخلقه: أن استعاذته زادته طـ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيراً.
ثم أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-.
معاشر الأكارم: عبادة من أجل العبادات، تتعلق بتوحيد رب الأرض والسموات، وهي طاعة لله من أزكى الطاعات؛ لأنها التجاء بالله -تعالى-، واستجارة به سبحانه وبحمده، تكرر ذكرها في كتاب الله -عز وجل- وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ أعني الاستعاذة بالله -سبحانه وتعالى-.
والاستعاذة، عرفها الإمام ابن كثير -رحمه الله- بأنها: الالتجاء إلى الله، والالتصاق بجانبه من كل ذي شر.
والعياذ: يكون لدفع الشر، واللياذ لطلب الخير.
إخوة الإسلام: أمرنا الله -جل جلاله- بالاستعاذة من الشيطان في مواضع عديدة من كتابه؛ فقال عز وجل: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[النحل: 98].
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "هذا أمر من الله -تعالى- لعباده على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-: إذا أرادوا قراءة القرآن: أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم".
وهو أمر ندب ليس بواجب.
وقال الله -تعالى-: (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأعراف: 199- 200].
قال الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- معلقاً على هذه الآية الكريمة: "يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: (وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدّك عن الإعراض عن الـجاهلـين، ويحملك علـى مـجازاتهم: (فـاسْتَعِذْ بـاللّهِ) يقول: فـاستـجر بـالله من نزغه.
(إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ) يقول: إن الله الذي تستعيذ به من نزع الشيطان؛ سميع لـجهل الـجاهل علـيك، ولاستعاذتك به من نزغه، ولغير ذلك من كلام خـلقه، لا يخفـى علـيه منه شيء، علـيـم بـما يذهب عنك نزغ الشيطان، وغير ذلك من أمور خـلقه.
ومن الآيات التي دلت على هذه العبادة العظيمة: عبادة الاستعاذة؛ قول الله -تعالى-: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ)[المؤمنون: 96- 98].
قال العلامة الشنقيطي -رحمه الله تعالى- "وهمزات الشياطين: نخساتهم لبني آدم ليحثوهم، ويحضوهم على المعاصي".
معاشر المصلين: الاستعاذة من الأمور التي لا تصرف إلا لله -جل جلاله -، ولذا قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "المستعاذ به هو الله وحده، رب الفلق، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس، الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره.
وقد أخبر الله -تعالى- في كتابه عمن استعاذ بخلقه: أن استعاذته زادته طغيانا ورهقا، فقال حكاية عن مؤمني الجن: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)[الجن: 6].
إخوة الإسلام: جاءت السنة الصحيحة بذكر مواضع للاستعاذة، وفي هذه المواضع دلالة على ضرورة على الالتجاء بالله -جل وعلا- في كل وقت، وخاصة في مثل هذه المواضع:
ففي موضع المرض والضعف البشري تظهر الاستعاذة في النص النبوي في أبهى صورها؛ فعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ"[رواه مسلم].
وإذا نزل الانسان منزلا، بيتا أو مكانا، في طريق سفر أو نزهة، ونحوهما، فإنه يلتجئ بالله -تعالى- وبكلماته؛ فعن سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ -رضي الله عنها- تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ"[رواه مسلم].
"أعوذ بكلمات الله" التي بها يقول للشيء كن فيكون.
"التامات" أي التي لا يعتريها نقص ولا خلل، تنبيهاً على عظمها وشرفها، وخلوها عن كل نقص.
هذا الذكر النبوي كان من الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد طبق الإمام القرطبي -رحمه الله- هذا الحديث في حياته، فقال: "خبر صحيح، وقول صادق، فإني منذ سمعته عملت به، فلم يضرني شيء، فتركته ليلة -يعني ناسياً- فلدغتني عقرب".
عباد الله: لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من جملة من الأشياء، فيدْعُو فِي الصَّلَاةِ، فيقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا، وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ"[رواه البخاري ومسلم].
كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في الصحيحين يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".
وكَانَ مِنْ دُعَائه صلى الله عليه وسلم أيضاً: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِك"[رواه مسلم].
ومما استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة أمور؛ ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم حيث قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ".
اللهم إنا نستعيذ بك فأعذنا، ونستجير بك فأجرنا.
اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسول الله الداعي إلى رضوانه، وآله وأصحابه وإخوانه.
ثم أما بعد:
فاتقوا الله -إخوة الإسلام-.
معاشر المصلين: الاستعاذة -كما ذكرنا- عبادة جليلة، وقد ذكرنا طرفا من المواضع التي يلتجئ فيها المسلم إلى ربه، ويستعيذ به.
وأن من المواضع أيضاً التي يستعاذ بها بالله من الشيطان الرجيم خاصة: في لحظات الغضب؛ فعن سُلَيْمَانَ بن صُرَدٍ -رضي الله عنه- قال: "كنت جَالِسًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لو قَالَهَا ذَهَبَ عنه ما يَجِدُ، لو قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ من الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عنه ما يَجِدُ" فَقَالُوا له: إِنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَعَوَّذْ بِاللَّهِ من الشَّيْطَانِ"[الحديث رواه البخاري ومسلم].
أيها المسلمون: ومن أعظم ما يتعوذ به: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعَوِّذُ به الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ -رضي الله عنهما-، وَيَقُولُ: "إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ"[رواه البخاري].
وفي رواية عند الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، يَقُولُ: أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ، وَيَقُولُ: هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يُعَوِّذُ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ -عليهم السلام-.
ومن أعظم المعوذات: سورة الفلق وسورة الناس، وقراءتهما سنة في أدبار الصلوات، وعند النوم، وعلى المريض؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده، رجاء بركتها".
اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم، من همزه ونفثه ونفخه، ونعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.