الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد الله المباركي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
بمناسبة نزول هذا الغيث العميم، والخير العظيم، من المنان الكريم، فإني في هذه الخطبة أقف وإياكم وقفة تدبر وتأمل في كتاب ربكم، وسنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، في حديث عجيب عن المطر.
الخطبة الأولى:
عباد الله: بمناسبة نزول هذا الغيث العميم، والخير العظيم، من المنان الكريم، فإني في هذه الخطبة أقف وإياكم وقفة تدبر وتأمل في كتاب ربكم، وسنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، في حديث عجيب عن المطر.
أيها المؤمنون: المتأمل لكتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، يجد أن الله -تبارك وتعالى- قد اختص بعلمه بإنزال الغيث، لا يشاركه فيه أحد، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان:34].
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مِفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ، وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ" متفق عليه.
وإنّ في نزول الأمطار وتصريفها بين البلاد وإنزالها بقدر معلوم لعبرةً لأولي الأبصار، وعظةً للعصاة والفجار، قال -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا) [الفرقان:48-50]، وقال -تعالى-: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر:21].
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مفتاح دار السعادة: ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله -أي: المطر- بقدر الحاجة، حتى إذا أخذت الأرض حاجتها منه وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها أقلع عنها وأعقبه بالصحو، فهما -أعني الصحو والغيم- يعتقبان على العالم لما
فيه صلاحه.
ولو دام أحدهما كان فيه فساده، فلو توالت الأمطار لأهلكت ما على الأرض، ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوب والثمار، وعفّنت الزروع والخضروات، وأرخت الأبدان، وخثَّرت الهواء، فحدثت ضروب من الأمراض، وفسد أكثر المآكل، وتقطعت المسالك والسبل.
ولو دام الصحو لجفت الأبدان، وغيض الماء، وانقطع معين العيون والآبار والأنهار والأودية، وعظم الضرر، واحتدم الهواء، فيبس ما على الأرض، وجفت الأبدان وغلب اليُبس، وأحدث ذلك ضروبا من الأمراض عسرة الزوال.
فاقتضت حكمة اللطيف الخبير أن عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم، فاعتدل الأمر، وصح الهواء، ودفع كل واحد منهما عادية الآخر، واستقام أمر العالم وصلح. انتهى كلامه، رحمه الله.
والمتدبر للقرآن -يا أمة القرآن- يجد أن المطر رحمة ونعمة من الله -جلّ وعلا-، كما في قوله -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى:28]. وأحيانًا، يكون المطر نقمة وغضبًا من الله، قال -تعالى-: (فَكلًا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا) [العنكبوت:40]، وقال -تعالى-: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) [سبأ:16].
وقد دلت نصوص الوحيين على أن هذه النعمة تستجلب بأسباب كثيرة، عامة وخاصة. منها: الإيمان وتقوى الله، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاء والأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].
ومنها الاستقامة على دين الله ونهجه، كما قال -تعالى-: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لأسقَينَاهُم مَاءً غَدَقًا) [الجن:16].
ومنها الاستغفار، كما قال -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) [نوح:10-11].
ومنها صلاة الاستسقاء، لحديث عبد الله بن زيد الأنصاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى المصلى يستسقي، وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه. متفق عليه.
ومنها الدعاء أثناء الخطبة؛ لحديث أنس بن مالك أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله -عز وجل- يغيثنا، فرفع يديه ثم قال: "اللهم أغثنا! اللهم أغثنا!"متفق عليه.
ومنها إخراج الزكاة الواجبة، فقد جاء في السنن بسند حسن: "ولم يَمنعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم ما أُمطِروا".
وهذه النعمة، بتأمل النصوص، نجد أنها متعددة الفوائد والثمار، فمن ذلك أنها سبب لوجود الرزق، قال -تعالى-: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) [البقرة:22]، وإحياء للأرض الموات، قال -تعالى-: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) [النحل:65].
والمطر مطهر، قال -تعالى-: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال:11]، وشراب لنا، وسقيا لزروعنا، قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل:10].
أيها المباركون: سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- جعلت بين أيدينا جملة من الآداب والسنن عند نزول الغيث، احفظوها وتمثلوها، وعلموها أهليكم؛ تأسيا برسولكم -صلى الله عليه وسلم-، حشرني الله وإياكم في زمرته.
ومن هذه الآداب: التعرض له: فعن أنس -رضي الله عنه- قال: أصابنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مطر، قال: فحسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟! قال: "لأنه حديث عهد بربه تعالى" رواه مسلم.
ومنها أن نقول الذكر الوارد عند نزول المطر، وقد وردت عدة أذكار، منها ما رواه البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى المطر قال: "صيبًا نافعًا"، ومنها ما رواه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا رأى المطر: "رحمة"، ومنها قول: "مطرنا برحمة الله، وبرزق الله، وبفضل الله" كما في حديث خالد بن زيد -رضي الله عنه- عند البخاري.
ومما يستحب عند نزول المطر الدعاء العام، فهو من مواطن استجابة الدعاء، كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم وصححه، وحسنه الألباني، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء، وتحت المطر".
وإذا كثر المطر وخيف ضرره يسن أن يقال: "اللهم حوالينا ولا علينا! اللهم على الآكام -أي: الهضاب- والجبال والآجام -أي: منبت القصب- والظراب -أي: الجبال- والأودية ومنابت الشجر" كما جاء في حديث أنس -رضي الله عنه- المتفق عليه من أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اسْقِنَا! اللَّهُمَّ اسْقِنَا! اللَّهُمَّ اسْقِنَا!"، قَالَ أَنَسُ: وَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةً وَلَا شَيْئًا، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا.
ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا! اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ"، قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.
وصح عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- أنه إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته"، ثم يقول -رضي الله عنه-: "إن هذا لوعيد لأهل الأرض شديد".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون: ومن السنة عند نزول المطر أن يقول المؤذن: "صلوا في رحالكم" أو: "ألا صلوا في الرحال" أو: "صلوا في بيوتكم" أو: "ومن قعد فلا حرج".
وتقال إحدى هذه الألفاظ في ثلاثة مواضع: إما بدلًا من "حي على الصلاة"، لحديث ابن عباس في الصحيحين أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: "أشهد أن محمدًا رسول الله" فلا تقل: "حي على الصلاة"، قل: "صلوا في بيوتكم"، فكأن الناس استنكروا، فقال: فعله من هو خير مني.
أو: بعد "حي على الفلاح"، لحديث رجل من ثقيف في سنن النسائي أنه سمع منادي النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني في ليلة مطيرة في السفر، يقول: "حي على الصلاة، حي على الفلاح، صلوا في رحالكم" وإسناده صحيح.
أو: تقال بعد انتهاء الأذان، لحديث ابن عمر في الصحيحين أنه أذن في ليلة باردة بضجنان، ثم قال: "صلوا في رحالكم"، فأخبرنا أن رسول الله كان يأمر مؤذنًا يؤذن ثم يقول على إثره: "ألا صلوا في الرحال"، في الليلة الباردة أو المطيرة أو في السفر.
وعن نعيم بن النحام قال: نودي بالصبح في يوم بارد وأنا في مرط امرأتي، فقلت: ليت المنادي قال: "ومن قعد فلا حرج"، فنادى منادي النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر أذانه: "ومن قعد فلا حرج" رواه أحمد والبيهقي وصححه الألباني.
ويستحب في المطر أن يصلي الناس في بيوتهم، وذلك للأحاديث المتقدمة في نداء المؤذن: "صلوا في رحالكم".
ومن السنة إذا كان المطر قويا يحصل منه البلل والضرر لمن حضر المسجد أن يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس أنه قال: جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر ولا مطر.
قال الشيخ الألباني: والحقيقة أنني لا أعلم حديثًا صريحًا في الجمع في المطر إلا ما يُستفاد من حديث مسلم المتقدم: "من غير خوف ولا مطر"، فإنه يفيد بأنه كان من المعهود في زمنه -صلى الله عليه وسلم- الجمع للمطر، ولذلك جرى عمل السلف بذلك، كما ورد في آثار كثيرة في مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة. انتهى كلامه رحمه الله.
فاحرص -أخي المسلم- على هذه الأذكار والسنن، وكم هو جميل أن تتعلّمها وتعلمها أهلك وأطفالَك، وترغبهم في حفظها والعمل بها.
عباد الله: يجب علينا جميعًا أن نقابل نعم الله -تعالى- على وجه العموم بالشكر والعرفان للكريم المنان، فنلتزم أوامره ونجتنب نواهيه.
اللهم أوزعنا أن نشكر نعمك ظاهرة وباطنة، اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك...