الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | صلاح بن محمد البدير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الزهد |
شقِيَ مَن كلَّما جدَّد الله له نعمةً وامتِنانًا كلَّما جدَّد إثمًا وفُجورًا وعِصيانًا، وتعِسَ مَن كلَّما ازدادَ غِنًى وثراءً ومالاً ازدادَ إسرافًا وانحِرافًا وضلالاً، وخابَ مَن كلَّما ازدادَ أثاثًا ورِيًّا ازدادَ بُعدًا وغيًّا. تتابَعَت عليه نِعَمُ الله وأعاطِيه، ومِنَنُه وأحاظِيه .. طعامٌ يُقوِّيه .. وماءُ يُروِيه .. وثوبٌ يُوارِيه .. ودارٌ تُؤوِيه .. وزوجٌ تحُوطُه وتُراعِيه .. وأمنٌ وافِرٌ يُظِلُّه ويَحمِيه .. وهو مُصِرٌّ على مخازِيه .. مُستمِرٌّ على مسَاوِيه .. مُسترسِلٌ في معاصِيه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله أكرم من يُرجَى وأعظم من يُنيلُ نوالاً، خلقَ الخلقَ تُمسِي وتُصبِحُ ترنُو البقاءَ وتُؤمِّلُ الآمالا، والحادِثاتُ تنعَى المُنَى وتُقرِّبُ الآجالا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا شيءَ أعظمُ منه ولا أجلُّ جلالاً، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه ماتَ ولم يُورِّث دينَارًا ولا دِرهمًا ولا أموالاً، ولا شيَّد القصورَ لوا أطالا، ولا نافَسَ في الحُطام ولا غَالَى، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابِه صلاةً تدومُ وتمتدُّ وتتوالَى.
فيا أيها المسلمون: لازِمُوا التقوى تسعَدوا؛ فبها يُنالُ جسيمُ الخير والفضل أجمعُ، وبها تزولُ الشُّرورُ عن العبدِ وتُدفَعُ (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر: 61].
أيها المسلمون: الدنيا دنِيَّةُ فانِية، والآخرةُ شريفةٌ باقية. تُذكِّرُنا بذلك الآياتُ الكريماتُ المُبارَكات. فطُوبَى لمن أنصتَ للعِظاتِ النوافِع، وأصغَى للمواعِظ البوالِغ، فعقلَها بقلبِه، وتفهَّمَها بلُبِّه، واستجابَ لها بقولِه وفعلِه، قال - جل في عُلاه -: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنعام: 32]
(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص: 60]، (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[النساء: 77]، (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) [الرعد: 26]، (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة: 38]، (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16، 17].
الدنيا تنطوِي وتنقَضِي وتنتَهِي، ونعيمُ الآخرة أبديٌّ سرمديٌّ.
الدنيا متاعٌ قصيرٌ حقيرٌ مصيرُه الزوالُ والفناء، والجنةُ نعيمٌ دائمٌ لا آخرَ له ولا انقِضاء.
وعن المُستورِد بن شدَّاد - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "واللهِ ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظُر أحدُكم بمَ ترجِع" (أخرجه مسلم).
الدنيا كالماء الذي علِقَ بإصبَعِ غامِسِها في البحر الزخَّار، والآخرةُ هي سائرُ البحر الخِضَمِّ الذي طغَت أمواجُه، وعلا هِياجُه.
أفلا يعقِلُ حقيقةَ الدنيا من يُقدِّمُ نزْرَها وقليلَها الذي ينفَد على خطيرِ الآخرة وحظِّها الأسعَد؟!
عجِبتُ لمُعجَبٍ بنعـيمِ دُنيا | ومغبونٍ بأيامٍ لِذاذِ |
ومُؤثِرٍ المُقامَ بأرضِ قَفرٍ | على بلدٍ خَصيـبٍ ذِي رَذَاذِ |
ودُنياكَ التي غـرَّتْكَ فيها | زخارِفُها تصيرُ إلى انجِذاذِ |
يا عبدَ الله .. يا عبدَ الله !
هَبْ الدنيا في يدَيك، ومثلُها قد ضُمَّ إليك .. فماذا يبقَى منها عند الموتِ لدَيك؟!
ألا يا ساكِنَ البيتِ الـمُوشَّى | ستسكِنك المنيةُ بطنَ رَمسِي |
رأيـتُك تذكرُ الدنيا كثيـرًا | وكثرةُ ذِكرِها للقلبِ تُقسِي |
كأنَّك لا ترى بالخلقِ نقصٍ | وأنت تراه كلَّ شُروقِ شمسِي |
وما أدري وإن أمَّلتُ رُشدًا | لعلّي حين أُصبحُ لستُ أُمسِي |
يا عبدَ الله! في كل يومٍ عِبرةٌ بعد عِبرة .. وفي الموتِ ناهٍ لو كنتَ ممن ينتهِي ..
فحتَّى متى حتَّى متى وإلى متى .. لا ترعوِي لا تتَّقِي؟!
أبعدَ الدنيا دارُ مُعتمَل .. أم إلى غيرِ الآخرةِ مُنتقَل؟!
هيهَات هيهَات .. ولكن صُمَّت الآذانُ عن الآيات، وذهَلَت القلوبُ عن العِظات.
فاذكُر ساعةَ الأجل | وكُن منها على وجَل |
وابكِ على ذنوبٍ سلفت | أدرِك النفسَ وإلا تلِفت |
أقبِل على مولاك .. وأقلِع عن خطاياك .. وتُب مما جنَتْه يدَاك.
إلى كم تمادَى في غُرورٍ وغفلَتِي | وكم هكذا نومٌ متى يومُ يقظَتِي |
لقد ضاعَ عُـمرٌ ساعةٌ منها تـشترَى | بمِلءِ السـمَا والأرضِ أيَّةَ ضيعَةِ |
أفانٍ بباقٍ تشتريهِ سفاهةً | وسُخطًا برِضوانٍ ونارًا بجنّةِ |
أأنتَ صديقٌ أم عدُوٌّ لنفسِه | فإنك ترميها بكل مُصيبةِ |
لقد بعتها حُزنِي عليك رخيصةً | وكانت بهذا منكَ غيرُ حقيقةِ |
فيا خيبةَ من باعَ نعيمَ الجِنان بالأماني الكواذِب، والملاهِي الجواذِب، والشهواتِ والقبائِح والمعايِب!
يا خيبةَ من أغضَبُوا الجبَّار .. وضيَّعُوا الأعمار .. في اللهو والمعاصِي والأوزار، (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر: 15].
إياكَ أعنِي يا ابنَ آدم فـاستمِع | ودعِ الركونَ إلى الحياةِ فـتنتفع |
لو كان عُمرُك ألـفَ حولٍ كاملٍ | لم تذهَبِ الأيامُ حتى تنـقـطِع |
يا أيها المرءُ الـمُـضـيِّـعُ ديـنَه | إحرازُ ديـنِـك خيـرُ شـيءٍ تصطـنِع |
فامهَـد لنفسِـك صالِحًا تُجزَى بـهِ | وانظُـر لـنـفـسِـك أيَّ أمرٍ تـتَّـبِـع |
واعلَم بأنَّ جـمـيعَ ما قـدَّمـتَـه | عـند الإلهِ مُوفَّرٌ لك لم يـضِع |
(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل: 20].
اللهم أجزِل لنا الهِباتِ والعطايا .. واغفِر لنا الذنوبَ والخطايا ..
يا كريمُ يا عظيمُ يا وهَّابُ .. يا رحيمُ يا غفورُ يا توَّاب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا بالِغًا أمَدَ التمام ومُنتهَاه، حمدًا يقتَضِي رِضاه، ويُوجِبُ المزيدَ من زُلفَاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجُو بها عفوَ ربِّنا ورُحماه، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنَا محمدًا عبدُه ورسولُه، ونبيُّه وصفِيُّه ونجِيُّه ووليُّه ورضِيُّه ومُجتَبَاه،
صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، ومن استَنَّ بسُنَّتِه واهتدَى بهُداه.
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمون: شقِيَ مَن كلَّما جدَّد الله له نعمةً وامتِنانًا كلَّما جدَّد إثمًا وفُجورًا وعِصيانًا، وتعِسَ مَن كلَّما ازدادَ غِنًى وثراءً ومالاً ازدادَ إسرافًا وانحِرافًا وضلالاً، وخابَ مَن كلَّما ازدادَ أثاثًا ورِيًّا ازدادَ بُعدًا وغيًّا.
تتابَعَت عليه نِعَمُ الله وأعاطِيه، ومِنَنُه وأحاظِيه .. طعامٌ يُقوِّيه .. وماءُ يُروِيه ..
وثوبٌ يُوارِيه .. ودارٌ تُؤوِيه .. وزوجٌ تحُوطُه وتُراعِيه .. وأمنٌ وافِرٌ يُظِلُّه ويَحمِيه ..
وهو مُصِرٌّ على مخازِيه .. مُستمِرٌّ على مسَاوِيه .. مُسترسِلٌ في معاصِيه.
وقد يكونُ العطاءُ والنَّعماءُ والسرَّاءُ ضربٌ من الاستِدراجِ والإنظَارِ والإملاءِ،
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران: 178].
وعن عُقبةَ بن عامرٍ - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا على معاصِيه ما يُحبُّ، فإنما هو استِدراج" (أخرجه أحمد).
اللهم وفِّقنا لمراضِيك، اللهم وفِّقنا لمراضِيك، وباعِد بينَنا وبين معاصِيك، واجعَلنا ممن يخشَاك ويتَّقِيك يا رب العالمين.
وصلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فـ"من صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا". اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعة، أصحابِ السُّنَّةِ المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمانَ، وعليٍّ، وعن سائرِ الآلِ والصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم برحمتِك يا كريم.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمُشركين، واحمِ حوزَةَ الدين، ودمِّر الطُّغاةَ المُعتَدين يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلادِنا المملكةِ العربيةِ السعوديةِ أمنَها ورخاءَها وعزَّها واستِقرارَها.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَه وأعوانَه لما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين يا رب العالمين.
اللهم مُنَّ على جميعِ أوطانِ المُسلمين بالأمنِ والرخاءِ والاستِقرارِ يا رب العالمين، اللهم أبعِد عنهم الشُّرورَ والحروبَ والنِّزاعات والصِّراعات والفتن يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين. اللهم اجعل دعاءَنا مسموعًا، ونداءَنا مرفوعًا يا كريمُ يا عظيمُ يا رحيمُ.