الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | زيد بن مسفر البحري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
تهاون بعض النساء في شيء من أمر الحجاب، وكأن الحجاب في مثل هذه الأزمان قد خُلِع خلعاً تامّا من طائفة من هؤلاء النساء، ولعل بعضهن قد يستمعن إلى ما يمكن أن يلقى في القنوات الفضائية من أن تغطية المرأة وجهها مسألة خلافية.. ولأهمية هذه المسألة، لأننا في زمن انفتاح على القنوات الفضائية وعلى وسائل التقنية، وبالتالي فإنه من الواجب المُحتَّم أن تُبيَّن هذه المسألة أحسن بيان، حتى يزول الإشكال بإذن الله -عز وجل-، وحديثي في هذا اليوم يتعنصر في عنصرين: العنصر الأول: ذكر الأدلة الدالة على وجوب تغطية المرأة وجهها.
الخطبة الأولى:
أما بعد فيا عباد الله: فيما مضى تهاون بعض النساء في شيء من أمر الحجاب، وكأن الحجاب في مثل هذه الأزمان قد خُلِع خلعاً تامّا من طائفة من هؤلاء النساء، ولعل بعضهن قد يستمعن إلى ما يمكن أن يلقى في القنوات الفضائية من أن تغطية المرأة وجهها مسألة خلافية، بل ربما يُقوون آراءهم بأن مسألة جواز كشف المرأة لوجهها هي قول الأئمة الثلاثة "أبو حنيفة ومالك والشافعي"، وربما يُضيفون إلى هذا أن للألباني -رحمه الله- رأياً يؤيد جواز كشف المرأة لوجهها، ولا شك أن للألباني -رحمه الله- قدراً ومكانة وهو كبير، ومن لا يعرف قدر الكبير فإنه من أجهل الناس، ولكن هو -رحمه الله- أو غيره من الأئمة أو من العلماء تُعرض أقوالهم على الكتاب والسنة، فما وافق منها قُبِل وما لم يوافق منها رُدَّ، وهذا هو ما تُنوقل عن الأئمة -رحمهم الله- من أنهم قالوا: "من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يأخذ بآرائنا".
إذاً لأهمية هذه المسألة، لأننا في زمن انفتاح على القنوات الفضائية وعلى وسائل التقنية، وبالتالي فإنه من الواجب المُحتَّم أن تُبيَّن هذه المسألة أحسن بيان، حتى يزول الإشكال بإذن الله عز وجل، وحديثي في هذا اليوم يتعنصر في عنصرين.
العنصر الأول: ذكر الأدلة الدالة على وجوب تغطية المرأة وجهها
العنصر الثاني: ذكر الأدلة التي استدل بها من أجاز كشف الوجه للمرأة، وبيان توجيه هذه الأدلة حسب ما وفقنا الله عز وجل إلى ذلك.
الأدلة على وجوب تغطية المرأة لوجهها ما يلي:
من الأدلة: قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 31]، فالنساء هنا أُمِرن بحفظ الفرج، وإذا أُمرن بحفظ الفرج فكذلك يدخل ضِمنا أن يُؤمَرن بأن يحافظن على الأسباب التي تدعو إلى حفظ الفرج، ومن أعظم ما يُحفظ به الفرج أن تستر المرأة وجهها؛ لأنه محل الجمال، مكمن الفتنة، ولذلك ماذا قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "العينان تزنيان وزناهما النظر".
ولو قيل هذه المرأة جميلة، فقيل ما جمالها؟ قالوا: جمالها في ساقها، في يدها، فهل يقبل هذا؟ لا يقبل، فالجمال محله – ولا يتنازع في ذلك اثنان – هو الوجه.
ومن الأدلة: قول الله عز وجل: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31]، أُمرت المرأة أن تسدل بخمارها على نحرها وصدرها، إذاً يدخل ضمن ذلك أنها إذا غطت النحر والصدر من باب أولى أن يغطى الوجه لأنه محل الجمال ومحل الفتنة.
ومن الأدلة: قول الله عز وجل: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور: 31]، تفسيرها عند ابن مسعود رضي الله عنه وغيره: "هي ما يخرج من السِّتر الظاهر من المرأة كالعباءة"؛ لأنه عز وجل ماذا قال؟ (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ولم يقل (ما أظهرن) يعني ليس لهن فعل، والتي تكشف وجهها تفعل.
فدل هذا على أن الآية ليست دليلاً لمن قال بأن المرأة تظهر وجهها وكفيها، بدليل أنه -عز وجل- قال بعدها: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) [النور: 31]، إذاً قوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) هي الزينة الظاهرة كالعباءة ونحوها، ثم لما قال (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) [النور: 31] الآية، دل على أن هذه هي الزينة الباطنة التي تظهرها المرأة عند محارمها، ففرق بين الزينتين.
ومن الأدلة: قول الله -عز وجل-: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) [النور: 31].
ذكر -جل وعلا- أن للمرأة أن تُظهِر ما جرت العادةُ بإظهاره من كشف الوجه واليدين لبعض الأجانب، مَنْ؟ الخدم وهم الرجال الذين لا شهوة لهم في النساء بتاتاً، وكذلك الأطفال الذين لم يتطلعوا إلى عورات النساء، إذاً لما استثنى هذين الصنفين من الأجانب دل على أن ما عدا هذين من الأجانب، أن المرأة لا يجوز لها أن تبدي وجهها لغير هذين الصنفين من الأجانب.
ومن الأدلة: قول الله -عز وجل-: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور: 60].
(الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء) هي المرأة العجوز الكبيرة التي قعدت عن النكاح لعدم رغبة النساء فيها، فهذه يجوز أن تكشف عن وجهها غير متبرجات بزينة، ومعلوم أن الإباحة لهؤلاء القواعد ليس أن تكشف عن جميع بدنها – لا – وإنما المقصود وجهها، فدل على أن من ترجو النكاح من الشابَّات ومن يُرغب فيها فإن الواجب عليها أن تغطي وجهها، فليس حالها في الحكم كحال المرأة القاعدة عن الزواج.
ومن الأدلة: قول الله -عز وجل-: (يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 59]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: " أُمرت المرأة إذا خرجت لحاجتها أن تغطي وجهها ولا تبدي إلا عيناً واحدة".
وقالت أم سلمة -رضي الله عنها-: " لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار وعليهن مثل الغربال" من الأكسية السوداء.
ومن الأدلة: أنه -جل وعلا- لما ذكر حال زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53]، ماذا قال بعدها؟ بيَّن أن المحارم لا بأس بذلك، فدل على أن هناك تفريقا بين المحارم وبين الأجانب، فقال: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ) [الأحزاب: 55] الآية.
ومن الأدلة: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند أحمد من حديث أبي حميد الساعدي وورد بنحوه عند أبي داود من حديث جابر -رضي الله عنه-: "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر لخطبتها وهي لا تعلم"، فهذا يدل على أن الأصل أن المرأة تغطي وجهها، وإلا لما قال (فلينظر) ومعلوم أن الإنسان لما يخطب امرأة ينظر إلى ماذا؟ إلى وجهها.
ومن الأدلة: ما جاء في الصحيحين: "أن النساء كن يصلين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الفجر وهن متلفعات بمروطهن لا يعرفهن أحدٌ من الغلس"، فدل على أنهن لا يعرفن - وإن كان هذا دليلاً لمن أجاز كشف الوجه للمرأة، وسأبين هذا بإذن الله تعالى في العنصر الثاني.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لو رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما صنعت النساء لمنعهن كما مُنعت نساء بني إسرائيل".
ومن الأدلة: قوله -صلى الله عليه وسلم- كما عند الترمذي والنسائي: "من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة -رضي الله عنها- يا رسول الله والنساء؟ قال: يرخين شبرًا، قالت إذاً تنكشف أقدامهن، فقال ذراعا لا يزدن عليه".
سبحان الله! الفتنة أعظم في ماذا؟ في القدم أم في الوجه؟ فإذا خشيت النساء في ذلك العصر أن تنكشف أقدامهن إذاً من باب أولى الوجه الذي هو محل الزينة والجمال.
ومن الأدلة: ما جاء في المسند وسنن أبي داود والترمذي، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان لإحداكن مكاتب وعنده ما يؤدي عنه فلتحتجب عنه"، فإذا كاتبت السيدة عبدها فيجب أن تحتجب عنه لأنه صار بمثابة الأجنبي عنها.
ومن الأدلة: ما جاء في المسند وسنن أبي داود وابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات فإذا حاذونا سترن وجوهنا، وإذا ذهبوا كشفنا وجوهنا"، فدل هذا على وجوب تغطية المرأة لوجهها.
ومن الأدلة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري: "نهى المحرمة أن تنتقب وأن تلبس القفازين"، فلا يجوز للمُحْرِمة أن تلبس النقاب وأن تلبس القفازين، والمراد بالنقاب وهو أن تُخرِج المرأة فقط جزءاً من عينها لترى، وليس النقاب الذي توسع فيه النساء في هذا العصر – لا – قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "دل على أن النقاب والقفاز معروف في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- عند النساء".
إذاً: ما وجه الدلالة؟ لما كانت المرأة تنهى عن النقاب في الإحرام، دل على أنها في غير الإحرام تنتقب، إذاً لم تُظهر وجهها وإنما أظهرت جزءاً من عينها لكي ترى طريقها.
ومن الأدلة: ما جاء في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن سودة -رضي الله عنها- خرجت بعدما نزلت آية الحجاب، وكانت امرأة جسيمة، فرآها عمر -رضي الله عنه- فقال انظري كيف تخرجين يا سودة فإنك لا تخفين علينا؟"
وكان عمر -رضي الله عنه- يحث النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر نساءه بأن يحتجبن بأجسادهن وأشخاصهن عن الناس، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن لهن لحاجتهن، لكن هنا لما خرجت سودة عرفها بجسمها، فلو كانت كاشفة الوجه ما احتاج إلى أن يقول: "انظري كيف تخرجين يا سودة فإنك لا تخفين علينا؟".
ومن الأدلة: ما جاء في الصحاح قصة الإفك لما نامت عائشة -رضي الله عنها- في تلك البرِّية وجاء صفوان بن المعطل السلمي -رضي الله عنه-، قالت: "وكان قد رآني قبل آية الحجاب فسدلت" وفي رواية "فخمرت وجهي عنه بجلبابي".
ومن الأدلة: ما جاء عن أسماء -رضي الله عنها- كما في مستدرك الحاكم أنها قالت: "كنا نغطي وجوهنا عن الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام".
ومن الأدلة: ما جاء عن صفية بنت شيبة كما عند ابن سعد: "أنها رأت عائشة -رضي الله عنها- تطوف في غير الإحرام وهي منتقبة"، فدل هذا على أنها قد غطَّت وجهها -رضي الله عنها-.
ومن الأدلة: ما جاء عند ابن سعد: "أن عمر -رضي الله عنه- أخرج نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حجة حجَّها، وجعل عليهن عثمان وعبد الرحمن بن عوف وقال لا يدنُ أحدٌ منهن، وكن مختفيات في الهودج لا ينظر إليهن أحد".
ومن الأدلة: أن عاصم -رحمه الله- قال: "كنا ندخل على حفصة بنت سيرين – وهي أم هذيل الأنصارية البصرية، امرأة عابدة تقية أثنى عليها، قرأت القرآن وهي بنت ثنتي عشرة سنة، ولها سبعون سنة – دخل عليها وإذا بها قد انتقبت وغطَّت وجهها - وهي في سن متأخرة قاعدة عن النكاح – قال فقلنا لها ألم يقل الله -عز وجل-: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ)؟ قالت: أكمل (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فقالت: هذا هو إثبات الحجاب".
هذا هو العنصر الأول، العنصر الثاني ما هي الأدلة التي استدل بها من أجاز كشف الوجه للمرأة وما بيان حالها؟
من الأدلة: استدلوا بقول الله -عز وجل-: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور: 31]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- "هما الوجه والكفان".
الجواب: أن قوله -رضي الله عنهما- قبل نزول آية الحجاب، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى، ثم إن قوله هذا يعارض بقوله في آية الأحزاب التي سبق ذكرها: "كن يخرجن وقد غطين وجوههن وقد أبدين عينا واحدة"، وأيضًا قوله معارض بقول ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي فسَّر الآية بأنها "ما ظهر من ظاهر اللباس كالعباءة ونحوها ".
ومن الأدلة: استدلوا بما جاء عند أبي داود: أن أسماء -رضي الله عنها- : "دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليها ثياب رقيقة"، لو سلمنا بأن جملة "ثياب رقية" أنها لا تصح "فلما دخلت عليه قال: يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض فلا يجوز لها أن تخرج من جسمها إلا هذا وهذا، وأشاء إلى الوجه والكفين".
الجواب: هذا الحديث به أربع أو خمس علل، يكفي في هذا أن خالد بن دريك، وقد أخرجه أبو داود وقال هو منقطع، فإنه لم يسمع من أسماء، وبيان هذه العلل ليس هذا الموضع موضعًا لها، لكنه حديث معلول، وإن صححه الألباني -رحمه الله-، فكل يؤخذ من قوله ويُرد، مع جلالة قدر الألباني -رحمه الله- ولا ندعي فيه العصمة.
ومن الأدلة: جاء في الصحيحين: "أن المرأة الخثعمية سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- وجه الفضل إلى الشق الآخرة"، فهذا يدل على أنها كشفت وجهها، وهذا الحديث في حجة الوداع.
فالجواب عن هذا: أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقر الفضل، ولم يأت دليل يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينهها عن كشف وجهها، والسنة للمرأة أن تكشف وجهها في الإحرام بل أوجب ذلك بعض العلماء، ولكن مثل هذه المرأة يُبيَّن من أن المرأة تستر وجهها في الإحرام عند الرجال لما مرَّ معنا من أحاديث أخرى، ولذلك قال ابن حجر -رحمه الله-: "وفي استدلال ابن بطَّال نظر، فإنها كانت محرمة، والمحرمة يجوز لها ما لا يجوز لغيرها"، والصواب أنه لا يجوز لا للمحرمة ولا لغيرها.
ولكن جاء عند الترمذي – وهذا مما استدل به الألباني -رحمه الله-: "أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المنحر"، فدل على أنها قد رمت وقد تحللت، فما الجواب؟
الجواب عن هذا: أين الدليل على أنها قد رمت، صحيح أنها سألته عند المنحر ولكن ليس هناك دليل على أنها رمت، فلا يستدل بهذا.
ومن الأدلة: استدلوا: بما جاء عند مسلم من حديث جابر: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم العيد قال للنساء تصدقن، فقامت امرأة سفعاء الخدين"، فهذا يدل على أنها كاشفة لوجهها.
الجواب: أن صلاة العيد شرعت متى؟ في السنة الثانية من الهجرة، وأية الحجاب في السنة الخامسة أو السادسة من الهجرة فيكون هذا قبل نزول آية الحجاب.
لكن قال الألباني -رحمه الله-: جاء في المسند: "أنهن بايعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن طريق عمر ومن بين المبايعة" كما في حديث أم عطية "أمرهن أن يخرجن العواتق والحِيَّض والنساء، ولتلبسها أختها من جلبابها"، وآية المبايعة في الفتح، فتكون متأخرة، فما هو الجواب؟
الجواب: كونه -صلى الله عليه وسلم- يأمر النساء مرة أخرى بأن "يخرجن العواتق والحِيَّض والنساء، وتلبسها أختها من جلبابها" لا يدل على كشف الوجه، لأنه ربما أنه كرر الأمر مرة أخرى، ثم – وهو الفيصل – إن المرأة ربما تكون من القواعد من النساء، والتي أباح الشرع لها أن تكشف عن وجهها، فليس ثمة دليل.
ومن الأدلة: استدلوا بما جاء عند ابن جرير من طريق قتادة قال: "بلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لا يحل لامرأة بلغت أن تخرج إلا هذا وهذا، وأشار إلى الوجه ونصف الذراعين". وهذا الحديث منكر، حتى أنكره الألباني -رحمه الله-، فلا يصح.
ومن الأدلة: استدلوا بما جاء في الصحيحين من حديث سهل بن سعد: "أن امرأة وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فنظر فيها وصعَّد النظر ثم طأطأ رأسه".
الجواب: هذا لا يدل على أنها كانت كاشفة لوجهها، ولذا قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح " قد تكون متلفعة بمرطها، فكونه -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى جسمها لا يدل على أنها كاشفة لوجهها.
ومن الأدلة: استدلوا بما مرَّ: "أن النساء يشهدن صلاة الفجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهن متلفعات بمروطهن لا يُعرفن من الغلس"، جاء عند أبي يعلى في مسنده: "لا يعرف بعضهن وجوه بعض".
الجواب: سلمنا بهذا أنهن قد كشفن وجوههن، فلا بأس إذا كن في ظلمة داهمة لا بأس أن تكشف المرأة عن وجهها، لأنه لا يراها الرجال، ولذلك قال: "لا يعرفهن أحد" فليس هناك دليل حتى يستدل بهذا، لأنهن كن في ظلمة مدلهمة لم تظهر وجوههن، على التسليم بصحة هذه الرواية.
ومن الأدلة: استدلوا بما جاء في صحيح مسلم: "انْتَقِلي إِلَى أُمِّ شَرِيكٍ، َأُمُّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ غَنِيَّةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَظِيمَةُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَنْزِلُ عَلَيْهَا الضِّيفَانُ، فَقُلْتُ: سَأَفْعَلُ، فَقَالَ: «لاَ تَفْعَلِي إِنَّ أُمَّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ كَثِيرَةُ الضِّيفَانِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْكِ خِمَارُكِ أَوْ يَنْكَشِفَ الثَّوْبُ عَنْ سَاقَيْكِ فَيَرَى الْقَوْمُ مِنْكِ بَعْضَ مَا تَكْرَهِينَ، وَلَكِنِ انْتَقِلِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ"
قال الألباني -رحمه الله-: هذا يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- أجاز لها أن تكشف عن وجهها عند الرجال، لم؟ لأن الخمار هو ما يغطى به الرأس.
فنقول: ليس هذا محل اتفاق، بدليل ما مرَّ معنى من نصوص "أنهن كن يغطين وجوههن بالخمار"، وأيضًا مما يدل على ذلك قصة أبي القاضي التنوخي لما أنشد تلك الأبيات:
قل للمليحة في الخمار المُذهب | أفسدت نسك أخي التقى المترهب |
نور الخمار ونور خدك تحته | عجبًا لوجهك كيف لم يتلهب ! |
دل على أنها غطَّت خدها بالخمار.
ولذلك تكلَّف الألباني -رحمه الله- وقال: "قد تستر المرأة وجهها بالخمار أو بغطاء آخر"،
وتكلَّف -رحمه الله- فقال: "إن هذا وصف شاعر ووصف غير حقيقي". وهذا ليس بمقبول، لِمَ؟ لأن هذا مما ورد في اللغة والنصوص الأخرى بينت ووضحت ذلك.
ومن الأدلة: استدل -رحمه الله- بأدلة على ظهور اليدين واستدل بها على جواز كشف الوجه، وهي أدلة عجيب أن يستدل بها -رحمه الله-، لأن ستر المرأة لليد في التحفظ أصعب وأشد من الوجه، فالوجه تغطيه وانتهى الأمر، لكن المرأة تحرك بيدها، فربما يخرج شيء من جسمها
فمما استدل به -رحمه الله-: ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ فَأَتَى النِّسَاءَ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ".
الجواب: هل قال: "كشف وجوههن"؟ هل قال أيديهن ظاهرة؟ قد تكون مستورة بشيء.
ومما استدل به -رحمه الله-: جاء عند أحمد وأصل الحديث في الصحيح: "دخل أبو السنابل بن بعكك على سبيعة بنت الحارث قال واختضبت واكتحلت"، وتردَّد -رحمه الله- قال " على أقل الأحوال أنها كشفت عن عينها ".
الجواب: هذا ليس محل الخلاف.
وأنا أذكر كلامه -رحمه الله- لأنه الآن يُستند على كلامه -رحمه الله-، لأنه من الحريصين على اتباع الدليل، نحسبه والله حسيبه، ولذلك قد نُجَادَل بكلامه -رحمه الله-، وبالتالي هذه الأدلة من نظر إليها وجد أنه -رحمه الله- استدل بأدلة ليست في موضعها.
ومما استدل به -رحمه الله-: ما جاء عند أبي داود وقال له شواهد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن امرأة لما أرادت أن تبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم ير ها قد خضبت بالحناء لم يبايعها".
الجواب: الكلام هنا عن اليد، ثم هي امرأة تُبايع في أول الإسلام ما الذي أدراها عن كشف الوجه أم كشف اليد، فليس الاستدلال في محله.
ومما استدل به: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- كما في الصحيحين: "قال لعطاء ألا أريك تلك المرأة السوداء التي كانت تُصرع وتتكشف، ودعا لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة إن صبرت واحتسبت".
الجواب: هل هناك دليل على كشف الوجه؟ ربما أنها أثناء صرعها بدا شيء من جسمها، ثم لو سلمنا أنه بدا وجهها، فإنها في حالة الصرع ليست كحالة الصحة .
أيضا مما استدل به -رحمه الله-: حديث قيس بن أبي حازم عند الطبراني، قال: "دخلت على أبي بكر فرأيت امرأته أسماء امرأة موشومة اليدين"، أي: أنها وشمت، ولكن كان هذا الوشم في الجاهلية.
الجواب: هذا لا يدل، لِمَ؟ لأنها كانت تذبّ عن أبي بكر بدليل أن الحالة حالة مرض، وهي تداوي زوجها، ولذلك وصفوه بأنه (نحيل أو رقيق) -رضي الله عنه-.
ومما استدل به -رحمه الله-: ما جاء في الصحيحين: "أن صفية بن حيي -رضي الله عنها- قالوا: إن حجبها فهي زوجته، وإن لم يحجبها فإنها أم ولد" يعني رقيقة يتسرى بها، قال -رحمه الله-: "والرقيقات في الحكم كحال الحرائر".
نقول: صحيح، لكن إذا جاءت الأدلة بالتفريق فلنأخذ بها، ولذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "المعهود في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وزمن الصحابة -رضي الله عنهم- أن الرقيقات لا يغطين وجوههن للتفريق بينهن وبين الحرائر، فهذا معروف بدليل هذا الحديث، ولذلك عند أحمد – واستدل بها رحمه الله-: ومثلي لا يقف في مثل هذا المقام للرد على مثل هذا العالم، لكنه الحق الذي يجب أن يُتبع.
في رواية أحمد وصححها هو -رحمه الله-: "وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- رداءه على ظهرها وعلى وجهها"، دلَّ على أنها زوجة له -صلى الله عليه وسلم-.
أما مقولة: "إن هذا قول أكثر أهل العلم" كما ذكر ذلك ابن رشد في البداية، فهذا يحتاج إلى تتبع، ثم لو قيل بهذا فالأئمة كلهم – كما أسلفت – قالوا: "من استبانت له سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز أن يعدل عنها إلى رأي من آرائنا".
هذا ما أردت بيانه، لأن من يسعى إلى أن تكشف المرأة وجهها في هذا العصر يستدل بهذه الأدلة، ويستدل بكلام هذا العالم الجليل، فأردت بيان ذلك من باب بيان الحق.
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا عباد الله: خلاصة القول أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها، وكون المرأة الخثعمية كشفت وجهها، فبيان الحال بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- مما ذكرتُ من أدلة من حرص الصحابيات حتى في عهد عمر -رضي الله عنه- أنهن كن يغطين وجوههن حتى في الإحرام إذا مرَّ بهن الرجال الأجانب.
اللهم ...