الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
وسيد الأعضاء، ورأسها وملكها هو القلب، وصلاح القلب وحقه والذي خُلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء: فيعرف ربه ومعبوده وفاطره, وما يُصلحه وما يفسده, ويعرف أسباب النجاة وأسباب الهلاك, ويميز بين هذا وهذا, ويختار ما ينفعه وما يصلحه, ويعتصم بالله, ولا يلتفت إلى ما سواه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحكيم الخبير، أحمده تعالى وأشكره وهو العليم القدير، سبحانه من إله كريم ورب رحيم، خلق فأتقن، وشرع فأحكم، وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات فميتته جاهلية.
عباد الله: القلب أشرف عضو من أعضاء الإنسان، وهو ملك الجوارح، بصلاحه يصلح القول ويصفو العمل، وتستقيم الجوارح، وخير القلوب هي القلوب السليمة التي تطمئن بذكر ربها وسيدها ومولاها. وقد ركز الإسلام تركيزًا عظيمًا على القلب؛ لأنه للإنسان عقل ولبّ، وهو محل نظر الرب، ومناط التكليف، وموضع التشريف.
واللهُ ينظر إلى قلب الإنسان فإن صلح صلحت سائر جوارحه، وإن فسد فسدت، فهو بمثابة مركز التحكم الرئيس وموضع السيطرة الأهم, ومن هنا كانت للقلب هذه الأهمية العظمى والمنزلة الكبرى. قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
إن الله -تبارك وتعالى- فضَّل الإنسان، وشرَّفه على كثير من خلقه، باستعداده لمعرفة الله -سبحانه-، التي هي في الدنيا جماله وكماله، وفخره وسعادته وأنسه، وفي الآخرة عُدّته وذُخره، وإنما استعد للمعرفة بقلبه، لا بجارحة من جوارحه.
فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إليه، وهو العامل لله، وهو الساعي إليه، وهو العالم بما عند الله، وإنما الجوارح أتباع له وخدم وآلات، يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد، واستخدام الراعي للرعية، واستخدام الإنسان للآلة.
عباد الله: القلب هو المقبول عند الله إذا الذي سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقًا بغير الله، وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكّاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه، وهو المطيع في الحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات والأخلاق أنواره وآثاره، وبحسب ما فيه من النور والظلام، تظهر محاسن الظاهر ومساويه؛ إذ كل إناء ينضح بما فيه، والقلوب كالقدور تغلي بما فيها.
وإن صلاح العالم وفساده يكون بحسب حركة الإنسان في الحياة، إذ هو قلب العالم ولبّه، وصلاح بدن الإنسان وفساده قائم على صلاح القلب وفساده كما ثبت عن رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ" [البخاري (52) ومسلم (1599)].
وإذا عرف الإنسان قلبه فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه عرف ربَّه -سبحانه-، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، ومن جهل نفسه فقد جهل ربَّه ولا بد، ومن عرف ربه فقد عرف كل شيء، ومن جهل ربه فقد جهل كل شيء، ومن جهل قلبه فهو لغيره أجهل.
وأكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وربهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24]، وحيلولته: بأن يمنعه سبحانه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة أسمائه وصفاته، وكيفية تقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن، وكيف يهوي مرة إلى أسفل سافلين، وينخفض إلى رتبة الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين.
عباد الله: حاجة القلب إلى معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله أعظم من حاجة البدن إلى الطعام والشراب، بل نسبة حاجات القلب إلى الإيمان، ومعرفة الله -عزَّ وجلَّ-، وحاجات البدن للطعام والشراب كالذرة بالنسبة للجبل، والقطرة بالنسبة للبحر، وقد خلق الله -عزَّ وجلَّ- في كل إنسان ثلاثة أوانٍ أساسية وهي: الدماغ, والقلب, والمعدة، فالدماغ آنية العقل والعلم, والقلب آنية الإيمان والتوحيد, والمعدة آنية الطعام والشراب, فلكل آناء غذاءٌ, ولك غذاء ثمرة.
القلب هو محل الإيمان والتصديق، واليقين والتعظيم لرب العالمين، والخوف منه، والتوكل عليه، ومحبته والأنس به، ومعرفته، والانقياد له، والتسليم له -سبحانه-، ولذا صار القلب محل نظر الله من العبد، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَـى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَـى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ" [مسلم (2564)].
إن أصل العلم الذي يورث العمل, ويوجب خشوع القلب, وخشيته لربه, ومحبته له, والقرب منه, والأنس به, والإقبال عليه, ولزوم طاعته, هو العلم بالله, ومعرفة أسمائه وصفاته, وآلائه ونعمه, وصفات جلاله وجماله, ثم معرفة وعده ووعيده, وماذا أعد الله من النعيم للمتقين, وماذا أعد من العذاب للمجرمين، ثم يتلوه العلم بأحكام الله, وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد, ويستقيم على ذلك إلى أن يموت، ومن فاته هذا العلم النافع، وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كان يقول: "اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْـمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَـخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا" [مسلم(2722)].
والله -تبارك وتعالى- خلق الإنسان في أحسن تقويم, فخلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء, وخلق العين يرى بها الأشياء, وخلق الأُذن يسمع بها الأصوات, وخلق العقل يعقل به الأشياء, كما خلق -سبحانه- كل عضو من أعضائه لأمرٍ من الأمور وعملٍ من الأعمال، فاليد للبطش، والرِّجْل للسعي، واللسان للنطق، والفم للأكل، والأنف للشم، وكذلك سائر الأعضاء الظاهرة والباطنة، لكلٍّ منها وظيفة وحكمة.
فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خُلق له، وأُعد لأجله فذلك هو الحق، وكان ذلك خيرًا وصلاحًا لذلك العضو ولربه، وللشيء الذي استُعمل فيه، وإذا لم يستعمل العضو في حقه، بل تُرك بطالاً، فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استُعمل في خلاف ما خُلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدَّلوا نعمة الله كفرًا.
وسيد الأعضاء، ورأسها وملكها هو القلب، وصلاح القلب وحقه والذي خُلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء: فيعرف ربه ومعبوده وفاطره, وما يُصلحه وما يفسده, ويعرف أسباب النجاة وأسباب الهلاك, ويميز بين هذا وهذا, ويختار ما ينفعه وما يصلحه, ويعتصم بالله, ولا يلتفت إلى ما سواه.
عباد الله: والناس متفاوتون في الخلق, ومتفاوتون في عقلهم للأشياء, من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير, وجيد ورديء، وإذا آمن العبد بالله أكرم الله قلبه بعشر كرامات:
الأولى: الحياة: كما قال -سبحانه-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122]، ومن أحيا أرضًا ميتة فهي له! وكذلك الله -عزَّ وجلَّ- خلق القلب، وجعل فيه نور الإيمان، فلا يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب؛ فهو المالك له خلقا والمحي له إيمانا.
الثانية: الشفاء: كما قال -سبحانه-: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 14]، فالعسل شفاء الأبدان, والإيمان شفاء القلوب, والعلم شفاء من الجهل.
الثالثة: الطهارة: فالصائغ إذا امتحن الذهب مرة لا يدخله النار، وكذلك الله إذا امتحن قلوب المؤمنين لا يدخلهم النار: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات: 3].
الرابعة: الهداية: كما قال -سبحانه-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن: 11].
الخامسة: ثبوت الإيمان في القلوب، قال تعالى: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22].
السادسة: السكينة: كما قال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح: 4].
السابعة: الألفة: كما قال -سبحانه-: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63].
الثامنة: الطمأنينة: كما قال -سبحانه-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
التاسعة: المحبة: كما قال -سبحانه-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات: 7].
العاشرة: الزينة والحفظ من السوء، كما قال -سبحانه-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات: 7].
نسأل الله أن يرزقنا أفضل النعيم في الدنيا والآخرة، ونسأله -سبحانه- أن يصلح لنا قلوبنا، ويهدي لنا نفوسنا، ويصلح لنا أحوالنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه فيجازيهم بعملهم والله بما يعملون بصير، فسبحانه من رب عظيم وإله غفور رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أيها الناس: اتقوا الله ربكم حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، واحرصوا على سلامة قلوبكم من الشبهات والشهوات، وكل ما لا يرضي رب الأرض والسموات، واعلموا أن القلب في الجسد قد يكون أنفع أعضاء الجسد، وقد يكون أضر عضو على الإنسان، فقد قيل للقمان: "اذبح هذه الشاه، وأطعمنا أطيب" ما فيها فجاء بقلبها ولسانها، ثم قيل له: "اذبح شاة أخرى، وأطعمنا أخبث ما فيها"، فجاء بقلبها ولسانها، فسُئل عن ذلك؟ فقال: "ليس في الجسد مضغتان أطيب منهما إذا طابا (أي القلب واللسان)، ولا أخبث منهما إذا خبثا".
إن الحديث عن القلوب حديث مهم؛ وذلك لأن القلب سريع التقلب والتحول، فقد ثبت عن أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ" [الترمذي (2240) وصححه الألباني]، ومقلّب القلوب هو الذي يصرفها تارة إلى الطاعة، وتارة إلى المعصية، وتارة إلى الذكر وتارة إلى الغفلة، فاجعل يا رب قلوبنا ثابتة على دينك غير مائلة عن الدين القويم والصراط المستقيم اللهم آمين.
وعن شَهْر بْن حَوْشَبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأُمِّ سَلَمَةَ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: "كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِأَكْثَرِ دُعَائِكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ". فَتَلَا مُعَاذٌ: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران: 8]". [الترمذي(3522) وصححه الألباني]، أي فمن شاء الله أقام قلبه وثبته على دينه وطاعته، ومن شاء الله أمال قلبه وصرفه عن دينه وطاعته، وعليه من يهديه من بعد الله؟!.
وفي هذا الحديث الكثير من اللطائف والفوائد، منها أهمية الإكثار من دعاء الله -عز وجل- أن يثبت قلوبنا على دينه. وفيه ما يدل على حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وأمته وخوفه عليهم. وفيه دليل على صفة الأصابع لله -عز وجل- من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
ومن أهمية القلوب أيضًا: أن الفتن تُعرض عليها، فعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوب كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْب أُشْرِبَهَا نُكِت فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْب أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَادَامَتِ السَّمَوَات وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كالكوز مُجَخِّيًا (مقلوبًا) لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِب مِنْ هَوَاهُ" [مسلم (144)].
والفتن: جمع فتنة وهي الابتلاء والامتحان والاختبار، ثم كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثم انطلقت على كل مكروه، أو آيل إلى مكروه كالإثم والكفر والقتل والتحريق وغير ذلك من الأمور المكروهة.
وقد شبَّه -عليه الصلاة والسلام- عرض الفتن على القلوب شيئًا فشيئًا كعرض عيدان الحصير وهي طاقاتها شيئًا فشيئًا، ثم قسَّم القلوب عند تعرضها للفتن إلى قلبين: قلب إذا عُرضت عليه فتنة، أُشربها كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تُعرض عليه حتى يسودّ وينتكس، وهو معنى قوله: كالكوز مجخيًا، أي: مكبوبًا منكوسًا، فإذا اسود وانتكس، عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران يوصلانه إلى الهلاك:
أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقًّا؛ لأنه لا يملك النور الإلهي والبصيرة الربانية.
ثانيهما: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-، وانقياده للهوى واتباعه له.
والقلب الآخر: أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عُرضت عليه الفتنة أنكرها وردَّها، فازداد نوره وإشراقه وقوته.
والفتن التي تُعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد.
عباد الله, ومن الأسباب الداعية للحديث عن القلب أن سلامة القلب سببٌ لأن نكون أفضل الناس، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ"، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ" [ابن ماجه (4216) وصححه الألباني].
والمخموم: هو الذي يتعاهد قلبه في نظافته ويكثر طهارته، أي أنه يتعاهد قلبه في كل وقت بين الفينة والأخرى، مما يدل على أن الأمر ليس بالسهل ولابد له من مجاهدة وصبر ولا يقوى عليه إلا الأشدّاء من الناس بحول الله وقوته، لذلك استحق رتبة أفضل الناس وكان عند الله بالمكانة العليا، وهذا هو حال صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين أثنى الله على أخلاقهم في كتابه العزيز.
عباد الله , إن تلاوة القرآن الكريم أعظم أغذية القلوب، ففيه الشفاء والهدى والنور، وإن الإنسان ليعجب ممن يبحثون عن أغذية أبدانهم ويغفلون عن قلوبهم التي قد تكون مريضة أو قاسية، ويعرضون عن دين الله، ألا يتدبر هؤلاء كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل؟! فإنهم لو تدبروه لدلهَّم على كل خير، وحذَّرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم بالإيمان، وأفئدتهم من اليقين، ولبيَّن لهم الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته، وحذَّرهم من الطرق الموصلة إلى العذاب، وكيف ينجون منها، ولعرّفهم برّبهم -سبحانه-، وبأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوّقهم إلى الثواب الجزيل، ورهّبهم من العقاب الوبيل.
عباد الله: إن غذاء القلب وصلاحه وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والاستعانة به وحده، قال تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء: 213]، وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل، في عبادة المخلوق والاستعانة به، وإن الوحي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بلا روح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك الروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر: 14، 15].
إن من لم يتغذ قلبه بنور الإيمان، يرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، فتوجّه الناس إلى غير الله، والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح ولا فائدة فيه، واليقين أن نعتقد أن جميع الفوز والفلاح، في الدنيا والآخرة، بيد الله وحده لا شريك له.
وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله, والأجساد مزينة بالسنن، فُتحت للإنسان أبواب الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71]. وإذا أحب الله عبدًا، هداه إليه، وأدخله بيته، وأشغله فيما يحب، واستعمل قلبه وجوارحه فيما يحب: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى: 13].
فجددوا -أيها الإخوة- إيمانكم، واحذروا أمراض القلوب، وعودوا لربكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه، ونسأله أن يصلح لنا قلوبنا. اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.