الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
نحن نعيش في كنَف الله، ونتكلم عن الصبر واليقين، فإذا أُصيب أحدنا ببلاء، تضجَّر وسخط، وجزع، وهذا دليل على ضعف اليقين، فاليقين سببٌ رئيسٌ في تهوين المصائب وتخفيف البلاء على النفس. إن اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وفيه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمّر العاملون!! ألا يا ضيعةَ الأعمار في أعمال كثيرة، أجهدنا فيها جوارحنا خلتْ من اليقين فقلّ نفعها، وضعف أثرها!! إنّ اليقينَ هو روحُ أعمالِ القلوب، وأساسُ عباداتِ البواطن؛ لذا كان السلفُ يتعلمونه ويحثّون على تعلمه...
الخطبة الأولى:
أما بعد فيا أيها الناس: يتفاوت الناس في إيمانهم، وبذلك تتفاوت درجاتهم عند ربهم، والإيمان هو أعمال الباطن، وإذا صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد الباطن فسد الظاهر، وهذا أمر أغلبي، غير أن العمدة على القلب والعمل، فالله -جل جلاله- ينظر إلى قلوب العباد وأعمالهم، وأما الصور والأشكال، والحسب والنسب، فلا وزن له، ولذا قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13].
عباد الله: عندما نقرأ سِيَر الصالحين من السلف، خصوصًا صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعجب العبد كيف وصلوا لهذه المنزلة من الإيمان، لا شك أنه توفيق من الله أولاً ثم بأعمالهم، ولكن في كل زمن من يعمل بمثل أعمالهم أو يزيد، فما بال القوم لا يُسبقون؟
إن المتأمل في أحوالهم، يجد أن هنالك عملاً صالحًا أوصلهم لهذه الدرجة، وهو عمل قلبي، قل من ينتبه له من الخلق، فما هو ذلك العمل؟
وليتبين صدق هذا الكلام، استمع لقول بكر بن عبدالله المزني عن صدِّيق هذه الأمة: "والله ما سبقهم أبو بكر بكثرةِ صلاةٍ ولا صيامٍ ولكن بشيء وقرَ في قلبه"!! فما هو ذلك الشيء الذي وقرَ في قلبه رضي الله عنه فـ(فاقَ) به الأمة؟
واسمع لقول ابن المبارك -رحمه الله- عن الإمام مالك -رحمه الله- حيث يقول: "ما رأيتُ رجلاً ارتفع مثل مالك بن أنس؛ ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة"، ولما سئل -رحمه الله- عن إبراهيم بن أدهم فقال: "له فضل في نفسه، صاحب سرائر".
إذًا يتبين لنا أن ذلك العمل الذي رفع القوم عند الله هو عمل قلبي، فما هو ذلك العمل؟
أخرج الإمام أحمد في الزهد بسند حسن من حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: "وَلا أَعْلَمُهُ إِلا قَدْ رَفَعَهُ, قَالَ: "صَلَحَ أَمْرُ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَهَلَكَ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالأَمَلِ".
هل أدركنا الآن ما الشيء الذي وقرَ في قلب أبي بكر؟ وما السرُ الذي ارتفع به أمثال مالك وإبراهيم بن أدهم والحسن البصري وأحمد بن حنبل؟
إنه "اليقينُ"؛ اليقين الذي يقول عنه العالمُ الرباني طبيب القلوب ابن القيم -رحمه الله-: "اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وفيه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمـّر العاملون".
اليقين الذي يقول عنه ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الصبرُ نصف الإيمان، واليقينُ الإيمان كله".
معاشر المؤمنين: يا ضيعةَ الأعمار في أعمال كثيرة، أجهدنا فيها جوارحنا خلتْ من اليقين فقلّ نفعها، وضعف أثرها!!
إنّ اليقينَ هو روحُ أعمالِ القلوب، وأساسُ عباداتِ البواطن؛ لذا كان السلفُ يتعلمونه ويحثّون على تعلمه يقولُ خالد بن معدان: "تعلموا اليقين كما تتعلمون القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلمه".
ويقول شيخُ الإسلام ابن تيمية: "والحسنةُ الواحدةُ قد يقترن بها من الصدق واليقين ما يجعلها تكفر الكبائر".
ويعلمنا أبو ذر -رضي الله عنه- حقيقةً مهمة فيقول: "ولمثقالُ ذرةٍ من برٍّ من صاحب تقوى ويقين، أفضل وأرجح وأعظم من أمثال الجبال عبادةً من المغترين".
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الأصمعي أنه قال: "تلوت على أعرابي والذاريات فلما بلغت قوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْتُقُكُمْ وَمَا وعَدُونَ) [الذاريات: 22]، قال: حسبك، وقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلقيته في الطواف قد نحل جسمه واصفر لونه، فسلم عليَّ واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)[الذاريات: 23]، فصاح وقال: يا سبحان الله! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف فلم يصدقوه بقوله حتى ألجأه إلى اليمين، قالها ثلاثًا وخرجت نفسه معها -رحمه الله-.
أيها المسلمون: إننا إلا من رحم ربنا، نكثر من الدعاء ولا نرى لدعائنا إجابة، فهل عرفنا السبب؟ إذاً لنتفقد يقيننا.
أخرج الترمذي في جامعه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ لاهٍ"
اللهم ارزقنا اليقين، أقول...
الخطبة الثانية:
معاشر الأحبة: نحن نعيش في كنَف الله، ونتكلم عن الصبر واليقين، فإذا أُصيب أحدنا ببلاء، تضجَّر وسخط، وجزع، وهذا دليل على ضعف اليقين، فاليقين سببٌ رئيسٌ في تهوين المصائب وتخفيف البلاء على النفس.
فمن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رواه الترمذي: "ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا".
إن كثيرًا من الناس قد أضناه البحث عن السعادة، والعثور على الطمأنينة!! ولو تفقدوا يقينهم بالله، لوجدوا مطلوبهم.
وكذلك (يقين) المؤمن بما أعدّه الله له في الجنة سيجعله سعيداً مطمئناً مهما كان فقره وبلاؤه.
هل فكرتَ يوماً أن تصبح من أئمة الدين ومن رموز الإسلام؟ إذاً عليك باليقين لتحقيق حلمك هذا، فربنا يقول: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين"، وصدق -رحمه الله- فالصبر يسدُّ منافذَ الشهوات، واليقين يسدُّ أبوابَ الشبهات، ومن أغلق هذين البابين استحقّ مرتبة الإمامة في الدين.
هل تاقتْ نفسك لإتقان عبادة التفكر، وإحسان مهارة التدبر؟ إذاً تفقّد يقينك، فاليقين يجعلك تنتفع بآياتِ الله المقروءة، وتعتبر بآياتِ الله المنظورة، فالأولى: (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[البقرة: 118].
والثانية: (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ)[الذاريات: 20].
اليقينُ أيها المؤمن يعينك على حسن الامتثال لأحكامِ الله، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة: 50].
وقبل ذلك وبعده: اليقين يصحّحُ توحيدك فلا توحيدَ إلا به، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "منْ لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة".
وباليقين يكون المؤمن من أشجع الناس، فمن أيقن أن الله هو المتصرف في الكون، وأن قدَره نافذ على الخلق، وأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه، فلن يخاف من أحد صغر أو كبر.
وبعدُ عباد الله: هذا هو اليقينُ الذي سيغيّر حياتنا، ويعظم عباداتنا، ونجد به آثاراً عظيمة من القبول والاستجابة للدعاء والتوفيق والبركة والطمأنينة في القلب والنجاح في الحياة، فلا شيء كاليقين، أخرج أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "سلوا الله المعافاة، أو قال العافية، فلم يؤتَ أحدٌ قط بعد اليقين أفضل من العافية".
اللهم اغفر للمسلمين..