البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الرجاء عبادة قلبية تظهر آثارُها على إيمان المسلم وسلوكه، فمِن آثارِها الإيمانية: إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه ويستشرفه من... فليس بين المذنب وبين رحمة ربه إلا أن يُقلع عن الذنب ويندم على ذنوبه، ويعزم على أن لا يعود فيها، ويستغفر الله، عند ذلك يدخل...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فهو المهتدِ، وَمَنْ يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: للقلب منزلة عظيمة في أداء وظيفة التعبد لله -تعالى-، وأعمال القلوب "أفْرَضُ على العبد من أعمال الجوارح، وعبوديَّةُ القلب أعظَمُ من عبوديَّة الجوارح"(ابن القيم)، ومن عبادات القلب العظيمة الرجاء، بل هو ركن أساس من أركان العبادة؛ فالعبادة تقوم على الحب، والخوف، والرجاء.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ولابدَّ للعبد في سيره إلى الله -سبحانه- من الجمع بين هذه الأركان الثلاثة والعبادة كالطائر؛ فالحُبّ بمنزلة الرأس، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سَلِمَ الرأسُ والجناحانِ فالطائرُ جيد الطيران، ومتى قُطِعَ الرأسُ مات الطائرُ، ومتى فُقِدَ الجناحانِ فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر".
وقد ورد في كتاب الله -عز وجل- الكثيرُ من الآيات الكريمة التي جمع الله فيها بين الخوف والرجاء، فقال الله تعالى: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[بالأنعام: 147] فالله -سبحانه- ذو رحمةٍ واسعة، قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف:156]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله مائةَ رحمة أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنس والبهائم والهوامّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحشُ على ولدها، وَأَخَّرَ اللهُ تسعًا وتسعينَ رحمةً يرحم بها عباده يوم القيامة".
ومع هذه الرحمة الواسعة فإن الله لا يُرَدّ بأسُه عن القوم المجرمين الضالين؛ كما قال الله ربّ العالمين: (فإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[الأنعام: 147]، وقال الله-تعالى-: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ)[الحجر: 49-50]، وقال الشوكاني -رحمه الله-: "لَمَّا أمر رسوله بأن يُخبر عبادَه بهذه البشارة العظيمة أمرَه بأن يذكر لهم شيئًا مما يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف ويتقابَل التبشيرُ والتحذيرُ ليكونوا راجين خائفين".
وقال-تعالى-: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا)[الأعراف: 56]، قال القرطبي -رحمه الله-: "(وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقُّب وتخوُّف وتأميل لله - عز وجل- حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته، وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان".
وقال تعالى: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر: 3]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أَيْ: يغفر ما سَلَفَ من الذنب، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخضع لديه، وقوله -جل وعلا-: (شَدِيدِ الْعِقَابِ) أَيْ: لمن تمرَّد وطغى وآثَر الحياةَ الدنيا وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى... يقرن هذين الوصفين كثيرًا في مواضعَ متعددةٍ من القرآن ليبقى العبدُ بين الرجاء والخوف".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الخوف مستلزِم للرجاء، والرجاء مستلزِم للخوف، فكلُّ راجٍ خائفٌ، وكل خائفٍ راجٍ؛ ولأجل هذا حَسُنَ وقوعُ الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف، قال الله تعالى: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[نوح: 13]، قال كثير من المفسرين: المعنى: مَا لَكُمْ لا تخافون لله عَظَمَةً، قالوا: والرجاء بمعنى الخوف. والتحقيق: أنه ملازِم له؛ فكل راجٍ خائفٌ من فوات مَرْجُوِّهِ، والخوف بلا رجاء يأس وقنوط، وقال تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الجاثية: 14]، قالوا في تفسيرها: "لا يخافون وقائع الله بهم كوقائعه بمن قبلهم من الأمم"(مدارج السالكين).
أيها الأحبة: الرجاء عبادة قلبية تظهر آثارُها على إيمان المسلم وسلوكه، فمِن آثارِها الإيمانية: إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه ويستشرفه من إحسانه، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفةَ عين.
ومنها: أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة؛ فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصَل له ما يرجوه ازداد حُبًّا لله تعالى وشكرًا له ورضى به وعنه.
ومنها: أنه يبعثه على أعلى المقامات وهو مقام الشكر، الذي هو خلاصة العبودية؛ فإنه إذا حصَل له مَرْجُوُّهُ كان أدعى لشكره.
ومن آثار الرجاء: أنه "يُوجِبُ له المزيدَ من معرفة الله وأسمائه ومعانيها والتعلُّق بها؛ فإن الراجيَ متعلِّق بأسمائه الحسنى متعبِّد بها وداعٍ"(مدارج السالكين، بتصرف)، قال -تعالى-: (أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)[الإسراء: 57]، وقال –عز وجل-: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)[ق: 33]، فانظر كيف سماه بالرحمن في حال خوفه منه -تعالى-، وما ذاك إلا رجاءً لرحمته الواسعة، وفضله الكبير.
ومن آثار الرجاء السلوكية: أن أهله أكثر الناس تأسِّيًا بالحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
ومن آثاره السلوكية: أن من رجى الله حسُن ظنه به - عز وجل-، وحُسن الظن يرفع درجة العبد عند ربه ومولاه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي"(متفق عليه).
حاسبت نفسي لم أجد لي صالحــاً | إلا رجائي رحمة الرحمــــن |
ووزنت أعمالي علي فلم أجـــد | في الأمر إلا خفة الميـــــزان |
وظلمت نفسي في أموري كلهـــا | ويحي إذا من وقفة الديـــان |
يا أيها الإخوان إني راحـــل | مهما يطل عمري فإني فــــان |
يا رب إن لم ترض إلا ذا تقـــى | من للمسيء المذنب الحــيران |
نوح الحمام على الغصون شجاني | ورأى العزول صبابتي فبكــاني |
نوح الحمام ينوح من ألم النـــوى | وأنا أنوح مخافة الديــان |
يا واحداً في ملكه ماله ثانــي | يا من إذا قلت يا مولاي لبـاني |
أنسى وتذكرني في كل نائبـــة | فكيف أنساك يامن لست تنساني |
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدْوَانَ إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، وبعد:
ومن آثار الرجاء العظيمة: أنه يدفع العبد إلى التوبة والرجوع إلى الله والإنابة إليه –سبحانه-، والتوبة مِنْ أَحَبّ الأعمال إلى الله -عز وجل-؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلمُ المؤمنُ ما عند الله من العقوبة ما طَمِعَ بجنته أحدٌ، ولو يعلمُ الكافرُ ما عندَ اللهِ من الرحمة ما قَنِطَ من جنته أحدٌ"(أخرجه مسلم).
فليس بين المذنب وبين رحمة ربه إلا أن يُقلع عن الذنب ويندم على ذنوبه، ويعزم على أن لا يعود فيها، ويستغفر الله، عند ذلك يدخل في قوله -تعالى-: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا)[النساء: 110]، وقال سول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يُدني المؤمنَ فيضع عليه كَنَفَهُ ويستره فيقول: أتعرف ذنبَ كذا أتعرف ذنبَ كذا؟ فيقول: نعم أَيْ رَبِّ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتُها عليكَ في الدنيا وأنا أغفرُها لكَ اليومَ"(أخرجه البخاري).
ولله در الإمام الشافعي حين قال:
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي، وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي | جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلَّمَا |
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ | بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا |
فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ | تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا |
عباد الله: فليكن رجاؤنا في الله وحُسْن ظَنِّنَا به -سبحانه-، أعظم من نظرنا واعتمادنا على أعمالنا وطاعاتنا، فإن رحمة الله وكرمه أعظم مما نظن، بل لن تبلغه ظنونُنَا، فأحسنوا الظنَّ بربكم وارجوه وأبشروا وأَمِّلُوا.
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً | فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ |
إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ | فَبِمَنْ يَلُوذُ وَيَسْتَجِيرُ الْمُجْرِمُ |
أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا | فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ |
مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا | وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ أَنِّيَ مُسْلِمُ |
أَلَا وصَلُّوا وسلِّمُوا على الحبيب المصطفى؛ حيث أمركم الله؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].