اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | محمد بن صالح بن عثيمين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
في هذه الأيام أصدرت محكمة يهودية حكما بجواز تعبد اليهود في نفس المسجد الأقصى. ومعنى هذا الحكم الطاغوتي: إظهار شعائر الكفر في مسجد من أعظم المساجد الإسلامية حرمة. إنه المسجد الذي أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه ليعرج من هناك إلى السماوات العلى، إلى الله -جل وتقدس وعلا-. إنه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: فلقد مضى على احتلال اليهود المسجد الأقصى أكثر من ثماني سنوات، وهم يعيثون به فسادا، وبأهله عذابا، وفي هذه الأيام أصدرت محكمة يهودية حكما بجواز تعبد اليهود في نفس المسجد الأقصى.
ومعنى هذا الحكم الطاغوتي: إظهار شعائر الكفر في مسجد من أعظم المساجد الإسلامية حرمة.
إنه المسجد الذي أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه ليعرج من هناك إلى السماوات العلى، إلى الله -جل وتقدس وعلا-.
إنه لثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله وتوحيده؛ ففي الصحيحين عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام" قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى" قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة"[البخاري (3186) مسلم (520) النسائي (690) ابن ماجة (753) أحمد (5/156)].
إنه لثالث المساجد المعظمة في الإسلام التي تشد الرحال إليها، لطاعة الله، وطلب المزيد من فضله وكرمه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والمسجد الأقصى"[البخاري (1132) ابن ماجة (1410)].
إنه المسجد الذي يقع في الأرض المقدسة المباركة، مقر أبي الأنبياء إبراهيم، وابنيه سوى إسماعيل.
مقر إسحاق ويعقوب إلى أن خرج، وبنيه إلى يوسف في أرض مصر، فبقوا هنالك حتى صاروا أمة بجانب الأقباط الذين يسومونهم سوء العذاب، حتى خرج بهم موسى -صلى الله عليه وسلم- فرارا منهم.
وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- بني إسرائيل بهذه النعمة الكبيرة، وذكرهم موسى نعم الله عليهم بذلك، وبغيره، إذ جعل فيهم أنبياء، وجعلهم ملوكا، وآتاهم ما لم يؤت أحد من العالمين، في وقتهم، وأمرهم بجهاد الجبابرة الذين استولوا على الأرض المقدسة، وبشرهم بالنصر، حيث قال: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ)[المائدة: 21].
وإنما كتبها الله لهم لأنهم في ذلك الوقت أحق الناس بها حيث هم أهل الإيمان والصلاح والشريعة القائمة: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ)[الأنبياء: 105 – 106].
ولكنهم نكلـوا عن الجهـاد: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا)[المائدة: 22].
وقالـوا: (يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[المائدة: 24].
ولنكولهم عن الجهاد، ومواجهتهم نبيهم بهذا الكلام النافر، حرم الله عليهم الأرض المقدسة، فتاهوا في الأرض، ما بين مصر والشام، أربعين سنة، لا يهتدون سبيلا، حتى مات أكثرهم، أو كلهم، إلا من ولدوا في التيه، فمات هارون وموسى -عليهما الصلاة والسلام- وخلفهما يوشع فيمن بقي من بني إسرائيل من النشء الجديد، وفتح الله عليهم الأرض المقدسة، وبقوا فيها حتى آل الأمر إلى داود وسليمان -عليهما الصلاة والسلام-، فجدد بناء بيت المقدس، وكان يعقوب قد بناه قبل ذلك.
ولما عتا بنو إسرائيل عن أمر ربهم، وعصوا رسله، سلط الله عليهم ملكا من الفرس، يقال له: "بختنصر" فدمر بلادهم، وبددهم قتلا وأسرا وتشريدا، وخرب بيت المقدس للمرة الأولى، ثم اقتضت حكمة الله -عز وجل- بعد انتقامه من بني إسرائيل أن يعودوا إلى الأرض المقدسة، وينشأوا نشأ جديدا، وأمدهم بأموال وبنين، وجعلهم أكثر نفيرا، فنسوا ما جرى عليهم، وكفروا بالله ورسوله: (كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ)[المائدة: 70].
فسلط الله عليهم بعض ملوك الفرس والروم مرة ثانية، واحتلوا بلادهم، وأذاقوهم العذاب، وخربوا بيت المقدس، وتبروا ما علوا تتبيرا.
كل هذا بسبب ما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله -عز وجل-، ورسله -عليهم الصلاة والسلام-: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[الأنعام: 129].
ثم بقي المسجد الأقصى بيد النصارى من الروم من قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بنحو ثلاثمائة سنة، حتى أنقذه الله من أيديهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، فصار المسجد الأقصى بيد أهله، ووارثيه، بحث وهم المسلمون: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55].
وبقي في أيدي المسلمين حتى استولى عليه النصارى من الفرنج أيام الحروب الصليبية في الثالث والعشرين من شعبان سنة 492 هـ، فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل، وقتلوا من المسلمين نحو ستين ألفا، ودخلوا المسجد، واستولوا على ما فيه من ذهب وفضة، وكان يوما عصيبا على المسلمين، أظهر النصارى شعائرهم في المسجد الأقصى، فنصبوا الصليب، وضربوا الناقوس، وحلت فيه عقيدة: إن الله ثالث ثلاثة - أن الله هو المسيح ابن مريم والمسيح ابن الله -.
وهذا –والله- من أكبر الفتن، وأعظم المحن، وبقي النصارى في احتلال المسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة، حتى استنقذه الله من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي، يوسف بن أيوب -رحمه الله- في 27 رجب سنة 583هـ، وكان فتحا مبينا، ويوما عظيما، مشهودا، أعاد الله فيه إلى المسجد الأقصى كرامته، وكسرت الصلبان، ونودي فيه بالأذان، وأعلنت فيه عبادة الواحد الديان.
ثم إن النصارى أعادوا الكرة على المسلمين، وضيقوا على الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين، فصالحهم على أن يعيد إليهم بيت المقدس، ويخلوا بينه وبين البلاد الأخرى، وذلك في ربيع الآخر سنة 626هـ، فعادت دولة الصليب على المسجد الأقصى مرة أخرى، وكان أمر الله مفعولا، واستمرت أيدي النصارى عليه حتى استنقذه الملك الصالح أيوب ابن أخي الكامل سنة 642هـ، وبقي في أيدي المسلمين، وفي ربيع الأول سنة 1387هـ، احتله اليهود أعداء الله ورسوله، بمعونة أوليائهم من النصارى، ولا يزال تحت سيطرتهم، ولن يتخلوا عنه، وقد قالت رئيسة وزرائهم، فيما بلغنا: إن كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب، فليس من الجائز أن تتنازل عن أورشليم، القدس.
نعم، لن تتنازل إسرائيل عن القدس إلا بالقوة، ولا قوة إلا بنصر من الله -عز وجل-، ولا نصر من الله إلا بعد أن ننصره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد: 7].
وإن نصرنا لله لا يكون بالأقوال البراقة، والخطب الرنانة، التي تحول القضية إلى قضية سياسية، وهزيمة مادية، ومشكلة إقليمية، وإنها –والله- لمشكلة دينية إسلامية للعالم الإسلامي كله.
إن نصر الله -عز وجل- لا يكون إلا بالإخلاص له، والتمسك بدينه، ظاهرا وباطنا، والاستعانة به، وإعداد القوة المعنوية والحسية، بكل ما نستطيع، ثم القتال، لتكون كلمة الله هي العليا، وتطهر بيوته من رجس أعدائه.
أما أن نحاول طرد أعدائنا من بلادنا، ثم نسكنهم قلوبنا بالميل إلى منحرف أفكارهم، والتلطخ بسافل أخلاقهم.
أما أن نحاول طردهم من بلادنا، ثم يلاحقهم رجال مستقبل أمتنا يتجرعون، أو يستمرئون صديد أفكارهم، ثم يرجعون يتقيؤونه بيننا.
أما أن نحاول طردهم من بلادنا، ثم نستقبل ما يرد منهم من أفلام فاتنة، وصحف مضلة.
أما أن نحاول طردهم من بلادنا، مع ممارسة هذه الأمور، فذلك التناقض البين، والمسلك غير السليم، والفجوة السحيقة، بيننا وبين النصر: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: 40 - 41].
نعم، أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، لا كما قال بعض المذيعين أيام الحرب مع اليهود في عام 87هـ، غدا تغني أم كلثوم في قلب تل أبيب.
صلى الله على رسوله وسلم، لقد صلى غداة فتح مكة ثماني ركعات، إما شكرا لله -تعالى- على الفتح خاصة، أو تعبدا بصلاة الضحى، والعبادة من الشكر، وهكذا حال الفاتحين في الإسلام، يعقبون الفتح بالشكر والتقوى.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وأنيبوا إلى ربكم، وأقيموا شريعته: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[الأنفال:1].
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وطهر المسجد الأقصى من اليهود والنصارى والمنافقين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، إنك جواد كريم.